أزمة “بنك أنترا”.. أهل السياسة عندنا ماذا يريدون؟

توفيق شومان | لبنان
أعاد يوم اقتحام المصارف في الأسبوع الماضي الذاكرة إلى أزمة “بنك أنترا” في ستينيات القرن الماضي وكيفية لجوء الدولة اللبنانية لحماية أموال المودعين الصغار على وجه السرعة، في حين لا تلوح في الأفق أية بادرة لحل معضلة مصادرة القطاع المصرفي لثروات اللبنانيين منذ العام 2019.
في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر1966 توقف “بنك انترا “في بيروت عن دفع الأموال للمودعين، وفي الثاني عشر من تشرين الثاني / نوفمبر من العام نفسه قالت صحيفة ” الحياة ” إن ابراهيم بيدس أمين سر مجلس إدارة “بنك أنترا” عزا أزمة البنك في بيان أصدره مجلس إدارته إلى ارتفاع الفوائد العالمية ، وقال بيدس ” لكن ما لم يتمكن البنك من التحسب له هو هذا الهجوم المفاجىء بقصد سحب الودائع منه، إذ أن شائعات مغرضة اشتركت بها عناصر مختلفة متعددة كانت تحرض الناس على سحب ودائعهم حتى اضطرـ البنك ـ أن يدفع في شهر واحد مبلغا لم يقل عن مئة وإثنتي عشر مليون ليرة لبنانية ، وكان البنك يأمل بالحصول من البنك المركزي ـ اللبناني ـ على سيولة تتناسب مع قيمة الأسهم والسندات التي يملكها فحصل فقط على خمسة عشر مليون ليرة “.
وكعادة الفاشلين والخاسرين رمى بيدس انهيار ” انترا” على ” نظرية المؤامرة ” فوزعها كما جاء في بيانه على فرعين ” مؤامرة السحب ” و” مؤامرة ” المصرف المركزي اللبناني، ولكن نجيب صالحة الذي تولى رئاسة مجلس إدارة ” انترا ” بعد فرار المؤسس يوسف بيدس ، وفي حوار (17 ـ11 ـ1966) مع صحيفة ” الحياة ” ناقض ما أدلى به ابراهيم بيدس عن “مؤامرة السحب النقدي” وقال “يمكنني التأكيد أن عملية السحب عادية وسببها الشائعات وحدها وليس ثمة شيء مدبر ” لكنه ألقى كرة المؤامرة في مرمى البنك المركزي ” نقولها أولا ونقولها ثانيا وسنقولها بإستمرار ” .
يوسف بيدس الذي كان أسًس ” أنترا” في مطالع الخمسينيات، وفي لحظة ثأر من لبنان بعد انهيار أعماله وأمواله تحدث لمجلة ” لايف ” الأميركية عن ” مؤامرة دبًرها أعداؤه واتهم عبد الله اليافي رئيس وزراء لبنان السابق بالإشتراك في هذه المؤامرة لأنه رفض إعطاءه قرضا من البنك ” على ما نقلت صحيفة “فلسطين” المقدسية (27 ـ 1 ـ1967) عن المجلة الأميركية ، وقال بيدس ” إن اقتصاد لبنان يتضعضع بعد إفلاس مصرفه ولم يعد لبنان أرض الحرية التي يعرفها الجميع وقد أصبح أرض القتلة واللصوص ” .
الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو الذي شهد عهده انهيار ” أنترا ” يقول في ” حياة وذكريات ” وهو كتاب مذكراته ” لقد قالوا إن إنترا ذهب ضحية مؤامرة وما أكثر الحديث عن مؤامرات في مثل هذه المحن ” ، ويشرح حلو أسباب انهيار ” انترا ” قائلا:
“انهار ما سُمي إمبراطورية انترا لأسباب عديدة على رأسها السبب الرئيسي لإنهيار كل إمبراطورية ألا وهو اتساعها ، وبالتحديد سرعة الإتساع وما يرافقه من مغامرات ناجحة في بعض الأحيان وفاشلة في بعضها الآخر وخطرة في كل الأحيان، إذ تكفي كبوة واحدة للقضاء على كل ما سبق من نجاح ، فكيف بالحال إذا تعددت الكبوات ؟ ” .
واستدعت الحملة الإنتقامية من بيدس على لبنان ردا من الرئيس رشيد كرامي ( ” الحياة ” 72 ـ 1 ـ 1967) فصرًح قائلا ” إن يوسف بيدس ليس بذاك الربًان الشجاع الذي يدافع عن مركزه وآثر البقاء في الخارج “.
وأما الرئيس صائب سلام وفي جلسة نيابية صاخبة ناقشت أسباب انهيار” أنترا ” وغطت صحيفة ” الحياة ” وقائعها (1 ـ 12 ـ 1966) فقد ذهب إلى حدود اتهام المصرف المنهار بالإحتيال وقال ” لماذا نفتش عن الشمس في رابعة النهار؟ إن سبب أزمة بنك انترا هو بنك انترا نفسه و البناء الذي يقوم على الرمال ينهار عند هبوب أول ريح، والصرح الذي يُبنى على فساد لا بد أن ينهار من داخله ، كلكم قرأتم خبر وكالات الأنباء، فقد ذهب بنك انترا عام 1961 إلى باريس ليسجل فرعه هناك ، وأحيل الطلب إلى لجنة البنوك فرُفض ، ورُفع الطلب إلى وزير المالية فرفضه ، وإذ بعد انقضاء أشهر أعطي بنك انترا إجازة ، وتقول الأنباء إن بنك انترا اتصل بوزير ونائب وحين أذيع الخبر استقال الوزير “.
وهذا الإحتيال سيتحدث عنه الرئيس شارل حلوفي مذكراته أيضا “طلب مني السيد يوسف بيدس موعدا في 23 آب / اغسطس 1966 وعرض أن لديه إمكانيات ضخمة سيضعها في خدمة الإقتصاد الوطني إذا أمده البنك المركزي بما يحتاج من مال لقاء إيداعه مصرف لبنان ما يملكه أنترا من أسهم، واستوضحت والرئيس ـ عبد الله ـ اليافي تصرف البنك المركزي في مثل هذه الحال فكان الجواب أن مجلس الحاكمية قد اتخذ قرارا قبل مدة بالإقلال من عملية التسليف خصوصا لقاء الأسهم، أما السيد بيدس فلم ينتظر جوابي وسافر إلى فرنسا، وفي منتصف أيلول/ سبتمبر أعلمني مدير غرفة الرئاسة الياس سركيس ـ رئيس الجمهورية بين 1976و1982 ـ أن موفدا خاصا جاء من قبل بيدس طالبا المساعدة الفورية من الحكومة والبنك المركزي”.
ويتضح مما يكشفه شارل حلو أن يوسف بيدس الذي كان يعلم بإضطراب أوضاع مصرفه سعى في لقائه مع الرئيس اللبناني إلى الإستلاف من مصرف لبنان المركزي لتغطية خسائره، وخانته الصراحة والشفافية فسلك طريق الإعوجاج في طلب الإستلاف، ولو صادق المسؤولون اللبنانيون على مطالبه لوقعوا في تهلكة التفريط بأموال المصرف المركزي.
ويكشف وزير الإعلام الكويتي الأسبق سامي عبد اللطيف النصف في مقالة حديثة (28 ـ7ـ 2022) في صحيفة ” النهار” الكويتية ، وكانت بلاده من أكبر المساهمين في أنترا “عن سلوكيات يوسف بيدس ” وقصص مغامراته ومقامراته بأموال العالم كانت تُنشر بالصحف العالمية ، حيث نُشر ذات مرة كيف كسب خلال ساعة 35 مليون فرنك وخسر خلال الساعة التي تليها 65 مليون فرنك دون أن يرف له جفن ، ومن أوراق التحقيق نكتشف أن الكويت أودعت في بنكه مليون جنيه استرليني قام بتحويلها على الفور لحسابه السري الخاص رقم 4994، إضافة إلى استيلائه على أرباح وديعة من 3 ملايين أودعتها الكويت في بنكه ” .
وبموازة ذلك السلوك ليوسف بيدس يبقى السؤال مطروحا حول امتناع مصرف لبنان عن تقديم المدد ويد العون لمصرف “انترا” وحيال ذلك هذه الشهادات:
ـ إن نجيب صالحة رئيس مجلس إدارة ” بنك أنترا” بعد تواري يوسف بيدس وبحسب رواية الرئيس شارل حلو لم يكن على إطلاع كاف بواقع “انترا ” أو انه كان يخفي الحقائق ” وما كان يزيدنا اقتناعا بصحة موقفنا ـ عدم تعويم أنترا ـ ما كنا نسجل من تغييرات في مقدار المبالغ التي كان يطلبها مندوب بيدس ، فهي تارة في حدود الستين مليون ليرة وطورا في حدود الثلاثين مليون ليرة، وفي 14 تشرين الأول / أكتوبر1966 انعقد مجلس الوزراء وحضر الإجتماع نجيب صالحة وسُئل عن المبلغ الذي يحتاج إليه البنك لصد الهجوم ـ السحوبات ـ فلم يستطع الإجابة وقال إن البنك قد يحتاج إلى مئة أو إلى مئتين او أربعمئة مليون ليرة “.
ـ في حديث شخصي مع غياث اليافي نجل رئيس الحكومة الأسبق عبد الله اليافي الذي اتهمه يوسف بيدس ب “التآمر” عليه، أن المسؤولين اللبنانيين فوجئوا بهروب يوسف بيدس وأن مجلس إدارة ” انترا” كان عاجزا عن تحديد الفجوة المالية الذي سقط فيها البنك، وقد تم استدعاء أعضاء مجلس ادارته للإجتماع مع الرئيسين حلو واليافي، وتبين أنهم مثل “الأزواج المخدوعين” لا يعرفون شيئا عن حقيقة أوضاع مصرفهم ولا يدركون تحركات بيدس ولا أفعاله ولا يستطيعون تقديم ضمانات في حال تقرر تعويم البنك، والأخطر من كل ذلك أن عدم معرفة إدارة “أنترا” بعمق الأزمة وأفقها أخاف الحكومة اللبنانية أن تفضي محاولة التعويم إلى إفلاس البنك المركزي ومعه الدولة اللبنانية، علما أنه لم يكن قد مرً على إنشاء مصرف لبنان سوى سنتين ، وبالتحديد في نيسان / ابريل 1964، ومع ما يعني ذلك من ضعف العريكة وقلة الإمكانات .
ـ بيار أده رئيس جمعية المصارف، كان دعاه نقيب الصحافة زهير عسيران للحوار مع رؤساء تحرير الصحف اللبنانية في دار النقابة (“الحياة ” ـ 1ـ 11 ـ 1966) فقال ” إن بنك أنترا لم يبلغ المسؤولين في جمعية المصارف بحقيقة أوضاعه وأن الجمعية لم تكن على علم بهذه الأوضاع أكثر مما كان يعلم عنها أي مواطن لبناني عادي”.
بعد هذا الإستعراض لسقوط “بنك أنترا” بسبب مغامرات توسعة أعماله وتلاعبات مؤسسه ينتقل الحديث تلقائيا إلى كيفية تعاطي الدولة اللبنانية مع تلك الكارثة كما وصفتها وسائل الإعلام في حينه:
في الثالث والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1966 قالت صحيفة “الحياة” في الصفحة الأولى” بعد تحقيق طال شهرين ادعت النيابة العامة بشخص ممثلها منيف عويدات على جمعيع أعضاء مجلس ادارة بنك انترا بجرم الإفلاس الإحتيالي والتقصيري، وقد طلبت النيابة العامة من مجلس النواب رفع الحصانة عن النائبين نجيب صالحة ومنير أبو فاضل بصفة الأول عضوا سابقا في مجلس الإدارة ورئيسا جديدا له وبصفة الثاني عضوا سابقا في المجلس المذكور”، ومجلس ادارة بنك “انترا” كان مؤلفا من نجيب صالحة رئيسا، يوسف بيدس ، محمد عبد الرحمن، كمال أدهم، نجيب علم الدين، بولس فرح، كامل أبو زيد ، فرنان خوري، شفيقة دياب، ابراهيم عرب، اسعد البرط ، سليمان الحمد .
وفي الصفحة الثالثة من عدد “الحياة” نفسه، أن “رئيس محكمة تجارة بيروت عبد الباسط غندور أعطى مهلة جديدة مدتها أسبوع واحد لوكلاء بنك أنترا لكي يقدموا ملاحظاتهم على التقرير الجزائي الذي يشرح مسؤولية رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بشأن الأسباب التي أدت إلى توقف البنك عن الدفع ” .
وأما نصوص المواد التي قررت النيابة العامة محاكمة اعضاء مجلس إدارة “انترا” بموجبها فأبرزها المادتان 689 و690 من قانون العقوبات وتنصان على ما يلي ” يُعتبر مفلسا محتالا ويعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة حتى سبع سنوات كل تاجر مفلس أخفى دفاتره “أو”إذا استهلك مبالغ باهظة في عمليات الحظ او في مضاربات وهمية على النقد أو البضاعة، وأقدم بعد التوقف عن الدفع وفي سبيل تأخير الإفلاس على شراء بضائع لبيعها بأقل من ثمنها أو عقد للغاية نفسها قروضا أو حوًل مستندات أو توسل بطرق اخرى بعيدة للحصول على المال “.
ونشرت “الحياة” في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1966 مشروع قانون ناقشه المجلس النيابي لضمان الودائع وخصوصا الصغيرة منها ، ونص المشروع على التالي: “يُجاز للحكومة ان تدفع مبلغا أقصاه 50 مليون ليرة يؤخذ سلفة من الخزينة او مصرف لبنان لحساب الدولة، وتدفع الحكومة هذا المبلغ لأصحاب الودائع والإدخار الذين لا تتجاوز حساباتهم ألف ليرة، وعلى ان تدفع كاملة لأصحابها وبالأولوية قيمة الحسابات الدائنة التي لا تتجاوز خمسة آلاف ليرة “.
وبحسب رينيه معوض (رئيس الجمهورية المنتخب لاحقا) الذي كان يرأس لجنة المال النيابية ” المشروع يقضي بأن تُدفع الودائع التي تبلغ قيمتها دون خمسة آلاف ليرة كاملة ، والودائع بين خمسة آلاف و12 ألف ليرة على أسس النسبة بين رصيد ديونهم ورصيد مبلغ الخمسين مليون ليرة “، وأقرت الحكومة المشروع بمرسوم وأحالته على الجريدة الر سمية (” الحياة ” ـ 17 تشرين الثاني / نوفمبر1966 ) أي بعد شهر واحد من انفجار أزمة ” بنك أنترا”.
وأهمية هذا المشروع أن الودائع الصغيرة تراوحت كالتالي: 24531وديعة حتى خمسة آلاف ليرة، و2948 وديعة بين خمسة آلاف وعشرة آلاف ليرة، و1255 وديعة بين 10 آلاف و15 ألف ليرة .
وفي سياق متصل، أشارت جريدة “الجهاد” الفلسطينية ـ الأردنية (21ـ 1 ـ 1967) إلى قرار محكمة الإستئناف اللبنانية الذي قضى ” بفرض حجز احتياطي على أموال وممتلكات مجلس إدارة بنك انترا والأشخاص الذين كانوا يمتلكون صلاحيات الترفيع ومراقبي الحسابات والأشخاص الذين تولوا إدارة البنك خلال الأشهر الثمانية عشر التي سبقت إعلان البنك التوقف عن الدفع “.
ما الخلاصة التي يمكن استخلاصها؟
هذه المقارنات تفي وتكفي:
ـ بعد شهر واحد من انفجار أزمة “بنك أنترا” اتخذت السلطات اللبنانية قرارا بحماية المودعين الصغار ، وهو قرار أول ما تتخذه سلطات الدول التي تضربها عواصف مالية، وهذا ما جرى في قبرص وإيسلندا واليونان بعد أزماتها المعروفة منذ أكثر من عقد، بينما وبعد ثلاث سنوات من الكارثة اللبنانية يستمر نهب المودعين الصغار وحماية الناهبين الكبار .
ـ إثر انهيار ” أنترا” تحركت النيابة العامة على وجه السرعة وادعت على مجلس إدارته وطلبت رفع الحصانة النيابية عن نائبين لعضوية سابقة ولاحقة في مجلس إدارة ” انترا” ، في حين وبعد ثلاث سنوات لبنانية مرًة وحنظلية وعلقمية لم يحدث ان حراكا قضائيا رفع البطاقة الحمراء بإتجاه مفترأو مشبوه أو ضالع .
ذاك هو الفارق بين الأمس واليوم
فارق بوسع الزمان واتساعه، وفارق بين من كان يعتبر أن المجتمع بحاجة إلى دولة ولو بحدودها الدنيا، وبين من لا يقيم للدولة وللمجتمع أي اعتبار .
خلجة أخيرة: ما يشبه التصوف:
إذا أردت رؤية السماء اسجد على الأرض
وإذا أردت رؤية الناس انظر إلى السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى