الأسير كريم يونس يصل إلى القدس بعد 39 عاما خلف القضبان

عيسى قراقع | فلسطين

في ذكرى اعتقاله

بعد 39 عاما داخل سجون الاحتلال ، وبعد أكثر من مائة عام من وعد بلفور المشؤوم، وبعد أكثر من خمسين عاما من الاحتلال الإسرائيلي، وبعد المؤامرة الامريكية التي تسمى صفقة ترامب والتي اعترفت بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل حمل أقدم الإسرى في السجون كريم يونس عتاده الإنساني وذخيرته النضالية والأخلاقية، دفاتره الكثيرة، قصائده وخربشاته وآلامه وذكرياته ، وعاد إلى مدينة القدس في ظهيرة جمعتها الساخنة.

اختار كريم يونس أن يعود الى القدس في ذكرى يوم اعتقاله 6-1-1983 محمولا على أكتاف خمسة آلاف أسير و أسيرة يقبعون في سجون الاحتلال، وصاعدا على كبرياء الصمود والكرامة والبطولات الكثيرة، فتح الف باب وباب، وقفز عن الف جدار وجدار، تجاوز الأسلاك الشائكة، وقرر ان يبدأ عامه الجديد بالصلاة في القدس بين مسجدها وكنيستها وفي حضرة روحها العنيدة.

كريم يونس قرر أن يختتم سنوات عمره في القدس، في نهارها وعلى مصاطبها وشوارعها وساحاتها، في هتافاتها العالية ، هناك على بواباتها الثمانية وعلى اسوارها التاريخية، وبين المرابطين والمرابطات، بين العباد والمؤمينن والمدافعين عن سماءها المقدسة وأرضها المنقوعة بدم الشهداء والانبياء، وكأن القدس كانت على انتظار، احتضنته واشتعلت وكان الانفجار.

كريم يونس القادم من خلف الظلمات اليابسة ، ومن صدى الزنازين المتعفنة، ومن بين شهقات مئات الشهداء الاسرى الذين تركوا وصاياهم بين يديه، ومن بين مئات الاسرى المقدسيين الذين يحرسون القدس بقلوبهم وصمودهم وجوعهم ، دمهم ملح القدس، ارواحهم هواء القدس، اغانيهم ترددها اجراس ومآذن القدس، صدورهم شبابيك مفتوحة على القدس واحيائها وأشجارها وحجارتها، يتنفسون بالقدس ويستمرون بدق الجدران.

كريم يونس يقف في مواجهة القرار الباطل والمتغطرس والغير شرعي للرئيس المخلوع ترامب بشأن القدس، ويقف في مواجهة سلسلة المشاريع والقوانين التي تستهدف هوية القدس العربية الاسلامية المسيحية الفلسطينية عاصمة دولة فلسطين الى الابد، يكسر القيد ، ويهتف للحرية بكل ما يملك من زمن في الماضي والحاضر والمستقبل ، هو الآن في القدس، مع الاطفال والنساء، امام الحواجز العسكرية والمستوطنات الغريبة، هو يعرف المكان أكثر مما يعرفه الغرباء ، يشرب من البئر الاولى ، يمشي في وادي سلوان، يصعد جبل المكبر، يقرأ ذكرياته في باب العامود ، يصلي مساءا في العيسوية ، ويمضي مع دليل قلبه جميلا في البعيد وجميلا في القريب، يشارك كل الناس في ايقاد الشعلة واضاءة شجرة الميلاد.

كريم يونس يفك عن رقبته حبل المشنقة، لن يعدموا القدس، فالبحر الميت ينتفض بين يديه، وصنوبر الكرمل يتحرك بين عينيه، ولا زال ابن القدس الاسير الكفيف علاء البازيان يدل كريم يونس على عتبة البيت والشمس والينابيع واسماء النبات والجماد والقبور العتيقة، ليرى المكان يقف في المكان ، هنا علم فلسطين ، وهنا ذاكرة لم يشوهها الاستيطان والاسماء العبرية ، هنا حارة المغاربة وحارة الارمن ، هنا حارة النصارى وحارة الشرف، هنا امي وأمك، هنا العيسوية، هنا ابو ديس ، هنا ايمن الشرباتي ، هنا بيت سامر العيساوي، هنا سجن المسكوبية.

كريم يونس يصل القدس بعد 39 عاما، وقد طوى قميصه البني وارتدى شجرا وسحابا ورعدا قادما من خلف الجدران، قتلوا قاسم ابو عكر في أقبية التعذيب ، قتلوا عمر القاسم ومحمد ابو خضير واسحق مراغة ومحمد ابو هدوان وفيصل الحسيني، دماء كثيرة على الأرصفة، نجوم كثيرة في السماء، ما هذه القدس التي تغير كل التكهنات والتوقعات والاتجاهات؟ تصد الغزاة والقرارات الظالمة، وتقيم اعراسها يوميا في الأزقة والحارات، ارواح الشهداء يحملها الاحياء وينتفضون على الموت والنعش والعدم ويصعدون.

كريم يونس في يوم اعتقاله يصل الى القدس، حنينه على ركبتيه ، بصماته وكلامه يجدها على ثرى القدس، السماء ملبدة بالغيوم والاشتباك، صوت المطران كبوتشي يؤذن في الكنيسة يوم الاحد، تهطل الامطار غزيرة ومدرارة ، يلتقي الشهيد مع الحي في صلاة العام الجديد ، تفيض روحه الواضحة، ماؤه الشتوي يتدفق في حصى القدس ولا يتوقف الموج عن المقاومة.

كريم يونس يصل الى القدس، يصل الى الشجرة المباركة ، يدعو القدس الى صلاته، والاسرائيليون يدعون الجنود والشرطة و القنابل والعصي والرصاص وكل الخطايا والاساطير الكاذبة، كريم يمشي في القدس، شهاب احمر ، ينحني ليقبل ارض القدس المالحة، وجيش الاحتلال يتعثر في خطاه، أقدامهم تائهة، دولة عنصرية فاشية ترتكب الجريمة المنظمة، يعيشون في الخوف والقلق الوجودي، وكريم يونس يسير في القدس مرفوع الرأس تحرسه الآلهة.

كريم يونس يصل في يوم اعتقاله الى القدس ، يتجادل مع سجان او حاخام على بوابات القدس، لا يروه الا شبحا وقنبلة موقوتة، يستنفرون قتلا واعتقالا واستيطانا، ولكنه لا يراهم الا دولة تعيش في معسكر ممتليء بالبارود والبنادق والآليات، خارج السور وبعيدا عن ضوء الشجرة والنوازع البشرية والانسانية.

كريم يونس يصل القدس يوم 6/1/2021 بتوقيت القدس وقرية عرعرة مسقط رأسه في اراضي فلسطين المحتلة عام 1948، وبتوقيت البحر الابيض المتوسط، وعلى وقع نداء امه المريضة التي وقفت على قدميها تحتضن كريم وهو يدخل القدس فجرا، يلبس كوفية ، لم يستطيعوا ضم القدس، الام ضمت كريم والقدس مرة واحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى