والأذن تعشق قبل العين أحيانا

أمير مخول | فلسطين

السجن عالَمٌ بحدّ ذاته، عالَم مشبوكة مقوماته برباط التفاصيل الصغيرة، أو تلك التي تبدو صغيرة في عالم آخر خارج الجدران، لكنها تكبر داخلها وتغدو هي الجوهر. علاء البازيان يمنح التفاصيل بعدا جديدا ويجعلها ملوّنة اكثر، ودون أن يستطيع رؤية أيٍّ من ألوانها.. لكنه يشعر بها ويلمسها ويعيشها لونا لونا، ويغنيها بتفاصيل قوس قزح لا يملكها إلا أصحاب البصيرة.

انحفرت في مخيلتي في بدايات اعتقالي في العام 2010 وكنت بالكاد قد تعرفت عليه، صورته وهو يمارس الرياضة الصباحية والجري السريع عاقدا خنصر يده اليسرى بخنصر اليد اليمنى للاسير انيس صفوري، يعدوان قليلا في طابور الرياضة ليعودا الى الجري وبعض التمارين الرياضية.  وفيما بعد أصبحنا نمشي معا في باحة السجن بذات الطريقة وربما كان في عقد الخنصر بالخنصر كي تبقى باقي اليد محررة ويزيد الجري من تحررها، فبعد ان عانت القيود الحديدية وزرد السلاسل فإن الأيادي قد عافت كل قيد.

كنا نتحدث في أمور الدنيا والحركة الأسيرة والسياسات العامة وبكل ما له علاقة بهموم الوطن والشعب، وعن الحياة الخاصة لكلّ من كلينا، كان يسأل عن حيفا ويحدثني عن القدس، اراد دائما ان يعرف أكثر عن فلسطينيي الـ48، فخارطة الوطن في ذهنه هي خارج كل التجزيئات، بل كان قلقا من الوعي الناشيء مع الاجيال الناشئة الذي تغيب فيه جوانب من رواية فلسطين. لكنه ليس من أولئك الذين يتذمرون، بل يحوّل غضبه الى مبادرة لتثقيف سياسي للاسرى الشبان، ضحايا الاحتلال وضحايا بؤس الحال الفلسطيني.  يقف في الزنزانة بمحاذاة البوابة ذات الشبك والتي تفتح مباشرة الى ساحة السجن، لكنه يطل باذنيه وحواسه،  يعرف من يسير في الساحة إما من وتيرة المشية وصوتها واما من الكلام أو أي صوت يخرج عمن يريد فيناديه باسمه بصوت جهوري. وعند الحاجة يعرف من التوقيت فالعديد من الأسرى يخرجون إلى الساحة في أوقات محددة ضمن نظام وضعه كل منهم لنفسه. لمن لا يعرفه كان كلامه واسئلته يخلقون الانطباع الأولي بالفضولية، لكنه أبعد ما يكون عن ذلك في أسئلته التفصيلية، بل أن هذا الاسلوب يجعله قادرا على الاستعانة بعيون الاخرين الذين يَكرَمون ببصرهم وهو يجود ببصيرته، وذلك عوضا عن نظره الذي فقده في العام 1979 في انفجار عبوة كان يعدّها لعملية فدائية. ورغم التعذيب الرهيب الذي تعرض له بعدها واستغلال جهاز التحقيق لوضعه الصحي وفقدان بصره إلا أنه اجتاز أصعب الامتحانات وصمد وأصرّ على الانتصار.

جرى الإفراج عنه رغم الحكم مدى الحياة وذلك في صفقة وفاء الأحرار بين حماس وإسرائيل تشرين العام 2011. وبعد أقل من ثلاث سنوات وفي صباح احد ايام صيف 2014 فتحت البوابة الخارجية للقسم حيث مقصورة السجانين ودخل علاء البازيان ومجموعة من قدامى الاسرى الذين شملتهم الصفقة المذكورة، وقد أعادهم الاحتلال بتهمة الاخلال باتفاقية الافراج. كانت التهم الموجهة الى ابي كمال خطيرة للغاية فمثلا، “المشاركة في احتفال يوم المرأة العالمي”، وفي “احتفالات عيد الأم” في شهر آذار، كما أنه شارك في احتفال لحركة فتح.

 إنها تُهَم خطيرة في نظر المستعمر وجهازه القضائي المطواع الذي يقوم بتسويغ جريمة الاحتفاء بعيد الام، ليعود ابو كمال الى السجن وليواصل الحكم المؤبد الى حين الفرج القادم، وتلقي دولة الاحتلال عرض الحائط بالتزاماتها التي أخذتها على عاتقها ضمن صفقة التبادل، وهذا ليس بسلوك جديد، بل انها تسعى دائما الى تضمين تفاصيل صفقات تبادل الاسرى بشروط تبدو هامشية لحظة التنفيذ لكنها مخارج لها متى شاءت التنصل مما وقّعت عليه، وهي لا تنصاع للنص الا عند اضطرارها الى ذلك.

يختلف وضع علاء البازيان في هذه المرة عما سبق من سبع وعشرين عاما قضاها في السجون، فقد تزوج وشريكة حياته وولدت لهما ابنتان. احضرت له العائلة شريط الفيديو لحفل زفافه، وكم اراد ان نشاهده معه وكذا الامر مع كل زميل أسر يأتي لزيارته في الزنزانة الأكثر ضيقا من “بيت الضيق” لكنها “تتسع للألف صديق”. كان مولعا بتلك اللحظة الفارقة الطافحة بالسعادة والغبطة. كلنا شاهدنا احتفاله، الا هو العريس, فكيف للمكفوف ان يرى. ولذلك يهتم بالتفاصيل “شوف إسا شو بصير” ، “هذا المقطع بجانب الحاجز” هذا المقطع في البلدة القديمة.. خليك شايف إسا ييجو وفد..” ويحدد الموقع بالضبط. كنت أشاهد احتفاله بزواجه مرتين متزامنتين واحدة من شريط الفيديو على شاشة التلفاز الصغيرة في الزنزانة والاخرى وهي الاجمل، كنت ارى المشهد من كلماته الهادئة والواثقة والتي تبث الثقة والفرح والتصالح مع الذات.

عشت هذه الامور عن قرب من ابي كمال في العام 2016 حين اقمنا في الزنزانة رقم 6 مع ستة من الزملاء الاسرى، وبقينا كذلك حتى اواخر العام 2017 حين قررت استخبارات السجون تفكيك القسم المخصص لأسرى القدس وفلسطينيي ال48، وتوزيع الاسرى على السجون، وذلك كي تقيم قسما خاصا بأسرى طولكرم. وهذا ضمن مشاريع الهندسة السياسية وهندسة الهويات والضبط والولاء لقواعد لعبة دولة الاحتلال.

تسنى لي ان اقيم مع أبي كمال حوالي السنة ونصف السنة. وحين استعيد تفاصيل حياة السجن الحاضرة، فقد كنت “شيف” الزنزانة في تلك الايام ولدي خبرة لا بأس بها في الطهي واعداد الوجبات بتنوّعها، وكان معجبا بأسلوبي في الطهي وكنت معجبا باطرائه الخالي من اية مجاملات. نتناقش فيما سنعده من أكلات ونتحاور بالسياسة وقضايا الدنيا وهموم السجناء. انه رجل مجاملات في البعد الاجتماعي، لكنه عندما يعبر عن رايه في اية قضية تنعدم أية مجاملات ويعطي المجال لصدق موقفه وحدّته كما يراه. إحدى الظواهر التي يمقتها كما درج يقول لي هي إدماج الاسرى لمفردات عبرية حين يتحدثون فيما بينهم، وكان “يستخدمني” كنموذج بكوني واسع الإلمام بالعبرية لكن لم استخدم مفرداتها يوما في الحديث بالعربية التي أُبحِر فيها. وفي هذا توافقنا كثيرا وبالذات تجاه الاسرى حديثي العهد الاعتقالي. ويتمتع ابو كمال بالقدرة على التعرف على الجيل الجديد من المعتقلين والاهتمام بقصصهم ومعنوياتهم وحالتهم المادية ومد يد المساعدة لمن يحتاجها.. كانت تهمه ظروفهم الحياتية لانه على قناعة بأن اهم ركيزة من ركائز الصمود في السجن ليس قصص الأمجاد، بل هي الكرامة الانسانية للاسير خاصة الشبان. تعامل بسلوك القائد المسؤول عن شعب، لم يشكُ همه الشخصي لأحد بل هموم شعبه. له هيبة الاسير الذي يقوم باصلاح ذات البين في صراعات الاسرى الشخصية والجماعية الناتجة عن ضيق الحال، وفي بلورة المواقف العامة والمطالب.

في السجن، لا شيء يضاهي الزيارة العائلية للاسير، وعند ابي كمال كان المشهد كما لدى الاسرى لكن فيه المزيد. كان يجلس مع عدنان مراغة وهو اسير من قدامى الاسرى تحرر في صفقة وفاء الاحرار واعتقل ضمن الحملة التي اعتقل فيها ابو كمال. وتعود صداقتهما لسنين طويلة. كان عدنان فور انتهاء النشرة الاخبارية الرئيسية بالعبرية ليجري بعدها تخصيص التلفاز للمعنيين بالافلام والبرامج الترفيهية، كان يجلس الى جانب برش علاء، ويبدا الاخير بالسؤال التفصيلي عن تفاصيل الابنتين وكيف بدتا وكيف خرجتا من قاعة الزيارات بعد انتهائها. ثم يخرج مجموعة الصور التي احضروها له، وهو ملحاح في طلب الصور، ليقوم عدنان بتروّ ويشرح كل نقطة في الصورة ليحفظها ابو كمال بأدقّ تفاصيلها. واذا كانت على سبيل المثال رسمة وردة على بلوزتها يشرح له كيف تبدو واية ألوان واين موقعها، واذا اراد اكثر فيحصل على التفاصيل. اضافة للكلام كان عدنان وكي يصف له زهرة على بلوزة الابنة الطفلة ويوصلها الى ابي كمال، كان يضع يده على صدر زميله او كتفه حسبما تملي عليه الصورة ويحاول رسم الوردة بيد وصوت فنان. كانت الفرحة ترتسم على وجه علاء ومعها الغبطة وحب الاب.

اما الرسائل الواردة الى الاسرى فهي مناسبة خاصة ايضا. ويعتبر الاسرى وصول رسالة الى أسير بمثابة “نصف زيارة”، وهذه هي تسعيرة الحرمان. وحين تصل رسالة الى علاء البازيان من العائلة كان سنده عينان أخريان حين يستعين بالاسير شادي الشرفا احد القدامى والقياديين الخدومين بشكل خاص، ليقرأ له الرسالة بتأنّ ويعيد قراءة بعضها اكثر من مرة ليسمع علاء كل كلمه وليطبعها في مخيلته، وكذا الامر عند كتابته الرسائل فانه يملي على شادي ما يريد ان يكتب  وتخرج الرسالة الشفوية والكتابية على احسن شكل.

اهم ما ينتظره الاسرى القدامى من انباء تأتي بها الصحف او نشرات الاخيار وبالذات من جهاز المذياع كانت اي ذكر لمفاوضات بشأن تقدم ما نحو صفقة تبادل اسرى مع حماس او مفاوضات مع السلطة الفلسطية وم ت ف لاحتمالية ان تؤدي الى دفعة من الافراجات. كانت الاوهام بالمجمل تسبق التحليلات او دلالات الخبر، وكما درج يقول الاسير صالح ابو مخ الذي يشارف على على عامه الاربعين في سجون الاحتلال بقوله: “إن عيش شهر مع وهم بالفرج افضل من الشعور باليأس شهرا كاملا”، وهذه برأيي حكمة من قلب القهر والوعود المؤجلة، ولا يشعر بها احد مثل الاسير او الاسيرة. كان منحى علاء ان لا يقبل تلقي الاخبار وينام مرتاح البال، بل كان ينام مرتاح البال رغم انكفاء الامل الصادر عن بؤس الحالة الفلسطينية والعربية، كما اعتبر ان الراحة النفسية للاسير هي حالة صمود لقهر القهر. كلاهما كان متفائلا، وكلّ بطريقته.

لو نظرنا الى مجمل سنوات اعتقاله لحد الان فهو في عامه السابع والثلاثين..وفي مثل تجربة المثقف السياسي والمناضل فهو ادرى في صنع نافذة الى الحرية يطلّ من خلال بصيرته على الوطن المحرر والشعب الحر الذي ناضل ويناضل من اجله ودفع عينيه وآثار جروحه التي تملأ جسده النحيل، واكثر من نصف عمره في الطريق الطويل الى الحرية كما وصفه نلسون مانديلا. ولذلك لا تردعه قساوات الدنيا بل هو على قناعة بامكانية تطويعها بارادته. كم هو علاء البازيان جدير بالحرية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى