المأساة الكبرى في حياة تولستوي
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | مصر
حياته مجموعة من التناقضات العجيبة؛ فقد وُلد في قصر منيف، تحوطه أسباب الترف البالغ والثراء العريض، لكنه في أواخر أيامه تنازل عن جميع أملاكه وضِياعه ومتاعه الدنيوي؛ إيماناً بمُثله العليا التي عاش ينادي بها، ثم مات لا يملك شروى نقير.
وفي شبابه كان مزهواً بجاهه، يمشي متأنقاً وكأنه يتخطر، وينفق في حوانيت الخياطين في موسكو ثروات طائلة، لكنه في شيخوخته ارتدى الزي الخشن الذي يرتديه الفلاح الروسي، وصار يصنع أحذيته بيديه، ويكنس غرفته بنفسه، ويتناول طعامه البسيط على مائدة عارية من الغطاء.
وفي شبابه عاش معيشة اللهو واللعب، ويرتكب كل الموبقات، ولكنه في مستقبل حياته صار يتبع التعاليم الدينية السامية بحاذفيرها.
في سنواته الباكرة وُصف بأنه تلميذ فاشل، يئس معلموه أن يدخلوا إلى ذهنه الصفيق أية معلومات نافعة، لكنه وبعد ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ كتب اثنين من أعظم الروايات التي عرفها العالم “أنّا كارنينا”، و”الحرب والسلام”.
والمأساة الكبرى في حياة “تولستوي” كانت زواجه؛ فقد كانت زوجته مُحبة للترف وهو يكرهه، هي تتحرق شوقاً إلى المجد والنجاح الاجتماعي، وهو لا يبالي البتة بهذه الأشياء، هي تسعى إلى المال والثراء، وهو يعتبر اقتناء المال والممتلكات الخاصة خطيئة.
عاشت زوجته سنوات تثير أعصابه بنكدها وصياحها وتأنيبها حتى أحالت حياته جحيماً، وكان أخص ما أحنقها عليه أنه أعطى الشعب الروسي مطلق الحرية في أن يطبع مؤلفاته بلا مقابل، ودون أن يحتفظ له بحق الملكية.
وفاضت به كأس تعاسته آخر الأمر، ولم يعد يحتمل شقاءه البيتي المفجع الذي دام نصف قرن، ففرّ من بيته ومن زوجته وهو في الثانية والثمانين من عمره وفي قلب الليل البارد المظلم ليصاب بالتهاب رئوي قضى على حياته في أيام معدودات، في غرفة مظلمة في محطة مقفرة للسكك الحديدية، لا يحيط به غير عدد من الفلاحين.
نصف قرن من نكد العيش أحال “تولستوي” إلى عبقري من عباقرة التاريخ؛ فلم يسبق في تاريخ البشرية أن كُتب عن إنسان من المؤلفات مثلما كُتب عن “تولستوي”؛ فقد بلغ عدد الكتب التي وضعت عن حياته وآرائه ثلاثة وعشرين ألف كتاب بجميع اللغات، وستة وخمسين ألف مقال في الصحف والمجلات، وبلغت مؤلفاته وقصصه مائة مجلد.
وأظن لو أن “تولستوي” كان منعماً في حياته الزوجية لما بلغ هذا الشأن التاريخي المُلفت، ولما صك لنفسه مذهباً فلسفياً جعل من بيته مقصداً لسيل لا ينقطع من المعجبين. إن نبوغه كان تعويضاً لمعاناته الأسرية التي أنفق فيها عُمراً؛ لتخلّد ذكراه أعماراً كاملة.