التطوع والمبادرة في الخطاب القرآني.. مغايرة الطرح (1)
إبراهيم محمد الهمداني
طالما ارتبط مفهوم التطوع بصورة أعمال الخير، ذات المعاني والمجالات المتعددة، سواء على العبادات الدينية، أو السلوكيات والمعاملات بين الناس،كما ارتسمت صورة المتطوع في الذهن الجمعي، في ذلك الشخص الذي يكثر من أعمال الخير والإحسان إلى من حوله، دون انتظار مقابل منهم، كما ارتبط فعل التطوع في التصور الجمعي، بالكثير من أعمال الطاعات، وصور التقرب إلى الله تعالى، بنوافل الصلوات والصيام والصدقات، علاوة على أداء الواجب بتمامه، سواء أكان ذلك في مناسبات مخصوصة، مثل شهر رمضان المبارك، وأيام الحج، والأشهر الحرم وغيرها، لما لها من عظيم الفضل، وما فيها من عظيم الأجر والثواب، أو كان ذلك في سائر أيام العام، كما هو شأن قرناء القرآن، وأئمة الحق وأعلام الهدى، الذين طوعوا أنفسهم لله تعالى، وألزموها بصلوات وأذكار وصيام وصدقات، وأعمال خير وبر وإحسان، قاموا بها وواظبوا عليها، متجاوزين نطاق الواجب والمفروض منها، إلى اجتراح فعل الزيادة والإحسان، وبذلك يصبح جزاؤهم هو المنصوص عليه في قوله تعالى:- “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة”، ورغم اجتهاد الكثير من المفسرين، في تحديد معنى الحسنى، ومقاربتهم لها من خلال القرائن النصية الدالة عليها، إلا أن الزيادة تظل لغزا مبهما، وبابا مفتوحا على احتمالات لا نهائية، يعجز عندها الخيال، عن بلوغ معرفة حقيقة وعظيم ذلك الأجر، والفضل الإلهي العظيم.
يمكن القول إن التطوع هو:- فعل الزيادة فوق محددات الواجب، وأكثر من منصوصات المفروض والمكتوب، حبا لله، وطمعا في جزيل أجره وعظيم ثوابه، وقد اقتران فعل التطوع بمفهوم الخير، في معناه الشامل، ومدلولاته الواسعة،”فمن تطوع خيرا فهو خير له”،إذ يعود عليه ذلك الخير بالاختصاص والملكية “له”، “ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم”،حيث يكافئه الله جل وعلا، بشكر صنيعه وإعلان مدحه، والثناء على عمله، وهذا أيضا باب مفتوح من المعاني اللانهائية، لعظيم فضل الله وكرمه، وبما أن التطوع في ذاته هو خير، أي زيادة من الخير، وكذلك نتيجته تؤدي إلى خير وزيادة في الأجر والثواب، فإنه يستلزم المبادرة والمسارعة إلى فعل الخيرات، كما يفعل أولئك الذين امتدحهم الله تعالى بقوله:- “ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات أولئك من الصالحين (114)” آل عمران، وفي قوله تعالى:- “وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90)” الأنبياء،وفي قوله جل ثناؤه:- “والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون (61)” المؤمنون.
بذلك تتجلى دلالة الربط في الخطاب القرآني، بين مفهوم التطوع، وما ينطوي عليه من أعمال الخير/الخيرات، في حال المسارعة والمبادرة في أدائها والقيام بها، ليصبح التطوع صورة من صور تسخير النفس برغبة ذاتية، في فعل الخير وأعمال البر والإحسان، في صورها المتعددة، والمبادرة والمسارعة إلى تنفيذها، ابتغاء وجه الله تعالى، وتحقيقا لما فيه المصلحة العامة،حسب مقتضى الإحسان، وكل تطوع – مهما كان ضئيلا – هو كبير بمعناه وأثره، ولا ينبغي الاستخفاف أو الاستهانة بالقليل من الجهد أو المال أو كليهما، المبذول طوعا من الذات أو من الآخرين، كما لا ينبغي الإحجام عن التطوع، بالمتوفر والمتاح، بسبب ضآلته وقلته، بل يجب المسارعة إلى بذل ذلك القليل، لأن قيمته في قصديته ومقاصده، الرابطة بين العبد وربه جل وعلا، في حال المسارعة إلى الخير ابتغاء وجهه، ومادام الأمر كذلك، فلا يجوز احتقار القليل المبذول طوعا – من الخير – في سبيل الله، لما لذلك من خطورة على المجتمع المسلم، حيث يتراجع الكثير منهم عن المبادرة إلى فعل الخير، ويحجمون عن بذل القليل من الجهد والمال، خجلا واستنكافا من الظهور بذلك القليل، إلى جانب أصحاب الدثور، ذوي الأنفاق الكبير، وفي هذا السياق يحذر الله جل وعلا من مغبة ذلك الفعل، ويذم أولئك “الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79) التوبة.