التطرف الإسرائيلي وقانون “إعدام المناضلين الفلسطينيين”
عبدالناصر عوني فروانة | فلسطين
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة الأسرى والمحررين
وعضو لجنة إدارة الهيئة في قطاع غزة
تصاعدت وتيرة التحريض الإسرائيلي ضد الفلسطينيين منذ اندلاع “انتفاضة القدس” في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2015، واتسمت السنوات الأخيرة بشرعنة الجريمة، فارتفعت أعداد المعتقلين، ولا سيما الأطفال، واتسعت دائرة الانتهاكات والجرائم بحقهم، وازدادت عمليات إطلاق النار على الأبرياء العُزّل بغرض القتل، أو الجرح وإلحاق الأذى الشديد، ورصدنا ارتفاعاً كبيراً في حجم جرائم الإعدام الميداني من نقطة الصفر بحق من نَفّذ أو شارك في تنفيذ عمليات مقاومة، أو بدعوى الاشتباه في محاولته القيام بعملية طعن أو دهس جنود إسرائيليين، أو ما شابه، حتى بعد أن تم تحييدهم والسيطرة عليهم.
جرائم عديدة لم تتوقف فحسب، بل تصاعدت أيضاً، وبمرور الوقت، تعالت صيحات التحريض الإسرائيلي العنيف بحق الفلسطينيين أكثر فأكثر، بالتزامن مع تصاعُد عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة المشروعة، وازدادت الأصوات الإسرائيلية وارتفعت نبرتها، مطالبةً بإعدام الأسرى الفلسطينيين، منفّذي العمليات الفدائية، انتقاماً منهم وعقاباً لهم على ما قاموا به، وذلك بعد فشل كافة السياسات والتدابير التي اتخذتها سلطات الاحتلال بهدف الحد من عمليات المقاومة الفلسطينية، ولعل أبرز تلك الأصوات كان صوت وزير الحرب الإسرائيلي السابق “أفيغدور ليبرمان” الذي طالب بسن قانون “إعدام الأسرى الفلسطينيين”.
يتضمن قانون العقوبات الإسرائيلي بنداً يُجيز اللجوء إلى عقوبة “الإعدام”، بحق شخص “تعاون أو شارك مع النازية في ارتكاب جرائم حرب”[1]، بينما نُفّذت أول عملية إعدام بتاريخ 30 حزيران/يونيو 1948، بعد اتهام ضابط في الجيش الإسرائيلي يُدعى “مئير توبيانسكي” بالخيانة، الذي دانته محكمة عسكرية إسرائيلية، وتم إعدامه رمياً بالرصاص، ولكن تمت تبرئته لاحقاً بعد وفاته.
وفي تاريخ 31 أيار/مايو 1962، نُفّذ الإعدام الثاني – والإعدام المدني الوحيد- شنقاً بحق الألماني (أدولف إيخمان) بعد إدانته سنة 1961 بالمشاركة في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب متعلقة بالهولوكوست. وكان الموساد الإسرائيلي اختطفه من الأرجنتين سنة 1960.[2]
لكن هذا البند المتعلق بعقوبة الإعدام لا ينطبق على الفلسطينيين المقيمين بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، لهذا سعى “ليبرمان” واليمين المتطرف خلال السنوات الأخيرة لتقديم مشروع قانون جديد يُجيز اللجوء إلى تنفيذ عقوبة “الإعدام” بحق الأسرى الفلسطينيين، على خلفية مشاركتهم في عمليات أدت إلى مقتل إسرائيليين. وأقرّ الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) مشروع القانون بالقراءة التمهيدية الأولى في الثالث من كانون الثاني/يناير 2018، ثم أقرّته الحكومة الإسرائيلية المصغرة (الكابينيت) في تموز/يوليو من العام نفسه، ومع نهاية العام ذاته، وإرضاءً لضغوط اليمين المتطرف، وفي إثر مطالبة “وزير التعليم نفتالي بينت” هذه المرة، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي، في حينه، “بنيامين نتنياهو”، بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر2018، الضوء الأخضر لجهات الاختصاص بالاستمرار في اتجاه الإقرار النهائي لقانون يتيح إعدام أسرى فلسطينيين تمت إدانتهم بتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية أدت إلى مقتل إسرائيليين. [3]
وعلى الرغم من ذلك، فإن القانون لم يُقَر، ليعود مؤخراً عضو الكنيست الإسرائيلي المتطرف ووزير الأمن القومي “ايتمار بن غفير” للترويج من جديد لمصلحة إقرار قانون “إعدام الفلسطينيين”، وقد حصل قبيل تأليف الحكومة الإسرائيلية الجديدة على الضوء الأخضر من رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” بالمضي قدماً في سن القانون.[4]
والسؤال: هل سيتم إقراره وتطبيقه هذه المرة؟
على الرغم من إقرار الكنيست الإسرائيلي مشروع القانون بالقراءة التمهيدية في سنة 2018، فإنه ليس من المتوقع إقراره بالقراءات الثلاث التي يحتاجها المشروع حتى يصبح نافذاً في المحاكم العسكرية، ليس احتراماً لحق الإنسان في الحياة، أو حرصاً على حقوق الإنسان الفلسطيني الأسير، بل لأن إقرار مثل هكذا قانون، سيُظهر إسرائيل أمام العالم بصورة أسوأ مما تسعى لترويجه والظهور به أمام العالم، على أنها “دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان”. فضلاً عن أن مشروع القانون يُصنَّف على أنه “عنصري”، إذ يستهدف الفلسطينيين فقط، ولا ينطبق على الإسرائيليين الذين ينفّذون عمليات قُتل فيها فلسطينيون، لذا، يُعتبر القانون جزءاً من التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، ويؤكد أنها دولة أبارتهايد، وفقاً لتصنيف سابق لمؤسسات حقوقية عديدة، ولعل إسرائيل لن تضع نفسها في هذا الموقف أمام العالم، استمراراً لمحاولاتها المستمرة الهادفة إلى تجميل صورتها المشوهة.
وإن حدث ما هو غير متوقع، من وجهة نظري، وأُقرَّ القانون بمراحله المختلفة وأصبح نافذاً، في ظل تصاعُد التطرف وسط المجتمع الإسرائيلي وتأليف الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تُعتبر الأكثر يمينية وتطرفاً في تاريخ إسرائيل، فإنني أستبعد أن تُقدم الجهات التنفيذية على إعدام أسير فلسطيني واحد صدر بحقه حكم بالإعدام من إحدى المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وذلك تجنباً لانتقادات المجتمع الدولي الذي يتجه إلى إلغاء عقوبة الإعدام، باعتبارها مخالفة جسيمة لحقوق الإنسان. هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، لإدراكها أن هذا سيُلحق الضرر بالأمن الإسرائيلي، وسيهدد حياة الإسرائيليين، إذ سيدفع بالفلسطينيين الغاضبين إلى تصعيد مقاومتهم واللجوء إلى وسائل كفاحية أكثر عنفاً وإيلاماً للاحتلال، طالما أن الموت المحتم هو ما ينتظر المقاوم، وثأراً للشهداء الذين سيتحولون إلى حكايا تُشعل ثورة من تحت التراب وتحرّض الأحياء من بعدهم.
هل إسرائيل بحاجة إلى سن قانون لإعدام الأسرى الفلسطينيين؟
لقد مارست دولة الاحتلال الإسرائيلي، منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية، الاغتيالات والقتل العمد والإعدام الميداني بحق الفلسطينيين، فرادى وجماعات، من دون توقف، ومن دون قانون يحرجها أمام العالم، وأقدمت في مرات كثيرة، وتحت ذرائع مختلفة، وعبر أشكال عديدة وطرق مختلفة، على إعدام المئات من الفلسطينيين، بعد تحييدهم والسيطرة التامة عليهم، أو بعد اعتقالهم وسجنهم، وهناك نماذج كثيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: جريمة قتل الأسير سميح أبو حسب الله في سنة 1970، الذي اعتقلوه من بين رفاقه الأسرى في سجن غزة وأعدموه بعيداً[5]، وحادثة “الحافلة 300” في سنة 1984 وقتل فلسطينيَيْن بعد اعتقالهما وظهورهما أحياء وبصحة جيدة أمام كاميرات الصحافة[6]، وقتل الأسيرين أسعد الشوا وبسام السمودي، بعد إطلاق النار عليهما في سجن النقب في سنة 1988[7]، وجريمة قتل الشاب محمود سعيد صلاح من نابلس بعد اعتقاله في القدس وتكبيله في سنة 2002[8]، وقتل الأسير محمد الأشقر بالرصاص في سجن النقب في سنة 2007.[9] بالإضافة إلى كثير من عمليات القتل والإعدام الميداني التي تصاعدت في الضفة الغربية والقدس منذ اندلاع انتفاضة القدس في تشرين الأول/أكتوبر 2015، وبعد أن بدأ ترويج قانون “إعدام الأسرى”، وقد وثّقت بعضها وسائل الإعلام وكاميرات المراقبة المثبتة في الشوارع. بمعنى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي اقترفت جرائم قتل المواطنين بعد اعتقالهم مرات كثيرة، وتُمارس جريمة الإعدام كسلوك، فتعدم الأسرى، إما بالرصاص الحي، أو بسلاح التعذيب المميت والإهمال الطبي المتعمد، وبالتالي هي ليست بحاجة إلى إقرار قانون يمكن أن يُحرجها أمام العالم، وقد يدفعُّها ثمناً باهظاً ومؤلماً جرّاء الرد الفلسطيني.
لكن الترويج الإسرائيلي لقانون “إعدام الأسرى ومنفّذي العمليات”، يُعتبر بمثابة تحريض واضح وشرعنة للجريمة ومنح ضوء أخضر لكافة الإسرائيليين لارتكاب المزيد من عمليات الإعدام الميداني بحق الفلسطينيين، ويُشكل غطاء قانونياً داخلياً لمقترفي عمليات القتل، وهذا ما يفسّر تصاعُد عمليات إطلاق النار بغرض القتل وازدياد جرائم الإعدام الميداني والتنكيل بالجرحى والمصابين منذ أن تعالت الأصوات الإسرائيلية لتطبيقه قبل بضعة أعوام، ومن المتوقع اتساعها بعد أن تسلّم “بن غفير” وزارة “الأمن القومي”، وهو مَن ينادي اليوم بقتل الأسرى، في ظل تصاعُد التطرف الإسرائيلي إزاءهم ، إذ كشف استطلاع جديد لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي ارتفاع العنصرية بين الإسرائيليين، وأظهر أن أغلبية كبيرة من الإسرائيليين (71%) تؤيد حكم الإعدام على الأسرى الفلسطينيين إذا تمت إدانتهم بالقتل، وأن أكثر من نصف الإسرائيليين (55 %)، يعتقدون أنه يجب على جيش الاحتلال قتل منفّذي العمليات الفلسطينيين، حتى وإن كانوا لا يشكلون خطراً. وتمثل هذه النسبة قفزة عن سنة 2018[10]، وهو ما يعكس بشاعة المُحتل وعنصريته وفاشيته، ويكشف جوهر العقلية الإجرامية والانتقامية للحكومة الإسرائيلية الجديدة اليمينية المتطرفة.
قانون جائر يهدف إلى شرعنة الجريمة وتجريم كفاح الشعب الفلسطيني
يُعتبر مشروع قانون “إعدام الأسرى” قانوناً جائراً وظالماً، وانتهاكاً فظاً وجسيماً لمعايير حقوق الإنسان، وبشكل خاص الحق في الحياة، وفقاً للقانون الدولي، وأن طرحه والمطالبة بإقراره إنما يهدف إلى شرعنة الجريمة المنظمة. كما يشكل مساساً خطيراً بمكانة الأسرى القانونية، ويسيء إلى هويتهم النضالية ومقاومتهم، بما ينسجم مع الرواية الإسرائيلية والمحاولات الرامية إلى تقديمهم للعالم على أنهم مجرمون وقتلة وإرهابيون، وليسوا مناضلين لدحر الاحتلال والعيش بكرامة في وطن حُر، وهو ما يعني أن القانون لا يستهدف الأسرى فقط، بل يهدف إلى تجريم نضال وكفاح الشعب الفلسطيني على مدار العقود الماضية.
إن النضال الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ليس جريمة، وأن تلك العمليات التي نفّذها الأسرى ضد المُحتل تندرج في إطار المقاومة المشروعة التي كفلتها لهم كافة القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، وهي بحد ذاتها شرفٌ تعتز به الشعوب، فالحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه هو باطل في عُرف السياسة والقانون.
في الختام،
أُقرّ القانون أم لم يُقر، فإسرائيل لم تلتفت إلى انتقادات دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم تعِر الاتفاقيات الدولية أي اهتمام، ما لم تُجبَر على ذلك. وما لم تقله منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني يجب أن تقوله الفصائل الفلسطينية وتشكيلاتها المختلفة. لهذا، فمن واجب الكل الفلسطيني التحرك على كافة الصعد والمستويات لمواجهة تحديات المرحلة القادمة، واللجوء إلى استخدام كافة الوسائل والأدوات والآليات المتاحة والمشروعة للدفاع عن حقوق الأسرى والمعتقلين، وحمايتهم من التطرف الإسرائيلي المتصاعد وضمان توفير الحماية القانونية والسياسية لهم، بما يعزز مكانتهم القانونية ويحافظ على هويتهم النضالية ويحمي مشروعية كفاحهم وكفاح شعبهم ضد المحتل الإسرائيلي.