أدب

بوح القصيدة عند الشاعر حسين علي الهنداوي

بقلم : فرحان الخطيب| سوريا            

   للشعر نكهةٌ لا يتذوقها إلّا أصحاب المشاعر الرهيفة، وأصحاب الأحاسيس ذات المجسّات الدقيقة المنبثقة والنابعة من حقول الوجدان، والممتدة إلى أقاصي شغاف القلب، وأعالي شعاف الروح، هذا التذوق الجمالي المتماهي مع كينونة الذات الحمّالة لبرعمة الشعر في صباحات الكلمات النّدية، يمتلكها اثنان لا ثالث لهما:

    مبدعٌ خصّه الله بمَلَكَة الإبداع الشّعري، فزكّاها بالبحث والتّقصّي والمثابرة على قراءة أشعار العرب وحسن معانيها، وجميل مبانيها، فحرثَ في لغتها، وقلّم أغصان مفرداتها، وطيّر عصافير الخيال من على أفنانها، حتى تراءت له دوحة من قصائد باسقة التنسيق وبهّارة بأسمى آيات الجمال .

    والثاني، هو المتلقي الذي يشاركُ المبدعَ في تلقّف هذا الفيضِ الشّعري بوجدانهِ قبل سمْعه، وكأنّهُ طائرٌ يبحث بكلّ ما امتلك من شوق ولهفة إلى فضاءات تقوده إلى حيث يُنتثر الحَبُّ من سنابل الشاعر المخضلّة بالصورة والرّفعة والخيال.

    للشعر أجنحة المدى، يحلق بها فوق تضاريس الجغرافية ومتجاوزاً حدودها وأنهارها وجبالها، ويعبرُ حدودَ التاريخ  ليستلَّ من مغاورهِ أيقونات الخلود، وتماثيل الفن الخالدة، ويحيلها إلى لوحاتٍ ناطقة من كلام.

    الشعر هو ذلك الخيال، وجمع من أرتال الرؤى التي تستمد وجودها من الأرض وتتصاعد سموّاً، لتعود إلينا محمّلة بفيوض من فراشات العبارات الملونة التي تحطّ على أزاهير الرّوح فتبعث النّشوة التي لمّا تزل تبحث عن ماهية تشكّل يخضورها في مواجهة العدم .

     الشعر، تسعى النفوس الجذلى لتحظى بحضرته إذا أرّقها طول المسير، ووعثاء الطريق، وتخفق إليه الأفئدة إذا استعرت نيران عواطفها لتبترد في نسيماته العليلة من لوافح الوجد والشوق، ويتهاطل في برْكته دمع الحزين على فقد غالٍ، فتتعافى اللواعج المعطوبة من جرّاء ذلك الغياب الأبدي القاهر، والشّعرُ دريئةٌ لشيخٍ عركته السّنون فاصطادت سهامه التي أطلقها بخبرتهِ العتيقة موعظةّ وحكمةً وفلسفة دهرٍ تخلّدها دهورٌ طوال عبر لغة عالية الشّأن، وشريفة المقصد، ونبيلة الغاية، وأثيرية التطواف على حدّ تعبير الناقد يوسف سامي اليوسف حين قال:  (بيدَ أنّ اللغة لن تصير أثيرية إلّا إذا تخلّصت من عكرها وثقلها وبعدها المياوم، وبذلك فإنها تصبح خفيفة لا على اللسان وحده، بل على النفس قبل كل شيء، وهي إذْ تترسخ فيها تلك السمات القيثارية فإنها تدخل في فصيلة الموحي ).

    وهنا يدلل اليوسف كم تدخل ذات الشاعر في آتون الإبداع ليصهر قصيدته في لهب الخلق الوهّاج، لتخرج القصيدة سبيكة من ضياء وبهاء.

    أمّا متممات القصيدة فهي عالقة لا محالة على جدران مشغل المبدع، يتناول منها ما يشاء من صور وموسيقا وأخيلة وتراكيب ورؤى لتكتمل شعراً سويّا، يمسك بتلابيب المتلقي إلى مواضع الدّهشة والاحتفاء .

      تناغمت هذه المقدمة مع قصائد الشاعر والناقد حسين على الهنداوي، والتي أودعها بين دفتي كتاب سمّاه ” الأعمال الكاملة ” والتي دفعها لي لأتشرف بالإطلاع عليها، وكتابة مقدمة لها، وهذا ما جعلني أهيلُ على أريحيته كثباناً من عطر الأخوة النبيلة والصادقة .

    ..وحين فرغت من قراءتها، وجدت شاعرنا متمسكاً بأصالة موروثنا الشعري، من شكل القصيدة التي أوحت لها أوزان الخليل وبحوره بأن تكون ديوان العرب الذي سجل لهم حياتهم ومآثرهم ومفاخرهم، فترادفت تفعيلات الستة عشر بحراً وكأنها نشيدُ شعريّ صاخب، لم بخفت صوته مئات السنين، ما جعل الهنداوي يصدح به، وإذا حادَ فإنه يمتثل لمجزوء البحر، كما فعل رواد قصيدة التفعيلة الملائكة والسياب في منتصف القرن العشرين المنصرم، ماجعل شاعرنا في دائرة البحور وتفعيلاتها، وهذه سمة زاوج بها الشعراء ما بين أصالة ومعاصرة محمودة.

     وفي تضاعيف قصائده تسامقت أغراض الشعر المتعددة، ولكن ما تعالى منها أربعة من الأغراض لافتات للقارىء، مشغولات بقصدية شاعر يعرف إلى أين يصوّب طلقة خياله، فأصاب في أوّل قنصٍ وصيدٍ دريئةَ الوطن لتكون حبّه الذي لايذبل، وضوءه الذي لا يخفت، يقول :

قبلَ عينيكِ ما عرفتُ الحنانا 

 لا وما  كنتُ  عاشقاً   ولهانا

نتلاقى  على   هديلِ  حمامٍ

   غجريٍّ   يصيح   وا مهجتانا

وعبيرُ الأنسامِ  جاءَ   يغنّي

هذه  الشّام   لا تقولي  كفانا

فالشام حبه، وعشقه، والحنان الذي يفيء إليه، وكذا حال الشعراء الذين تسكنهم أوطانهم، فتغدو في شعرهم نشيداً طافحاً بالتعلّق والتّجذر والانتماء، وخاصة إذا كان الوطن مرموزاً بدمشق أقدم عاصمة في التاريخ، وهي المدينة التي لم تنقطع فيها الحياة، إصافة إلى ظلالها وأشجارها وقاسيونها وغوطتها الفيحاء، فينشدها :

يا دمشقَ الحنانِ يا عطر  لوزٍ

سكبَ الشوق في هواكِ البيانا

فاستعدتِ التاريخ نجماً مضيئاً 

وسماءً     تطاولتْ    عنفوانا

والوطن عند الهنداوي هو معنى قبل أن يكون تراباً وحجارة وأشجاراً وأنهاراً ومنازلاُ وحقولاً ، فهو فرح وشمم وكبرياء وأحلام وإقدام :

” علّمني صوتُكَ يا وطني فرحَ الأيامْ ..

علّمني صوتُكَ أنْ أحيا في القممِ الشّمّ ..

وأعلو فوق الأحلامْ ..

علّمني صوتُكَ أنْ أشربَ من رأس النبعِ ..

تعاليمَ المَوتِ وأشرعةَ الإقدامْ ..”

وقد تبادل الشعراء والأصدقاء قصائد منوعة عبر التاريخ الشعري، وهذا ما اصطلح على تسميته بالإخوانيات، وقد أكثر منها شاعرنا الهنداوي، وكانت تحمل مشاعر أخوية، وعواطف نبيلة، اتسمت بالصدق والوفاء، وحدد منقبات الأصدقاء العالية المكانة، فيخاطب صديقه الشاعر حاتم قاسم:

” كانت ثناياك ترسمُ ليلَ السكونْ ..

وكانت عيونُكَ ترسمُ ألفَ حكايةِ حبٍّ لصمتٍ حزينْ ..

هو الموتُ خلفَ التّصحّرِ ينشدُ ألفَ قصيدةْ ..

ويسكبُ في رأسهِ المتهدجِ لحنَ نشيدهْ ..” .

ويكتب للشاعر حسين السّالم ما يظن أنه مكابدة يعانونها الشعراء حين يستنبطون قصائدهم من عمق معاناتهم، يقول :

” رؤاك يا أيّها الحالمُ المستجيرْ ..

حروفٌ من المجدِ والوجدِ فوق الهجيرْ ..” .

   أمّا حينما يكتب إلى صديقه د. صبري، فإننا واجدوه في كرْم الحياة الذي أصبح حطباً، فغلفته المأساة والبؤس، وعزف الموات لحن نشيده على مسرح الحياة الشاحبة، ولأن الإنسان محكومٌ بالأمل على رأي المسرحي الكبير سعدالله ونوس، فإنّ شاعرنا ينظر من عدسته إلى الحياة، لعله وصديقه يعيدان الحب إلى الوجود، ولو بصيغة ساخرة، يقول :

” لقد خطف الصمت روحَ الحياة ..

وأشرقَ في الموت لحنُ المواتْ ..

تعالَ معي كي نعيد إلى الحبّ أحرفه الرّاحلة ..

ونكتبُ فوقَ جبينِ الرّعاة ..

حكايتنا السّاخرةْ ..”.

وهكذا تتدفق المشاعر الإخوانية بوحاً صادقاً وشفيفا ومعبّراً، يبثها لأصدقائه، فاتحاً أبواب شكواه من الدهر وصروفه على مصاريعها، فهي لم تكن إخوانيات منادمة، ومطارحات فكاهة ومداعبات لاهية، بكل كانت مناجاة روح متعبة، لأرواح علها تفيض بظلالها على هجير حياة.ويحض الشاعر راحلته قبل أن يدركه الختام في غرض الوجدانيات التي خاطب فيها معبوده مناجياْ مبتهلاً :

” أنا الطفلُ يختارُ ألعابه من نجوم ..

ويبكي إذا نجمةٌ سرحت في السّديم ..

إلهي ..

أنا الشيخُ يرفع نحو السماء يديه ..

ويشكو ذنوباً تناهت إليه ..” 

     إنها لأبلغ كلمات تتعالق بين  وجدان الشاعر وذات خالقه عبر مناجاة طافحة بسيرورة العمر منذ الطفولة إلى ما بعد الكهولة، إنها مناجاة العارف بالخلق والخالق والمخلوق، مناجاة اللائذ بخيمة هذا الكون العجيب، هذا الكون الحاوي لفسيفساء الحياة الداهشة .

    ويذهب الشاعر سالكاً دروب الأبوّة الضافية على فلذات كبده، فيخفق الشعر ترانيم حنو، وموسيقا حنان هادئة، وهو يخاطب ابنته “غيد” بصورة شعرية شارقة ألقة، ولمَ لا والشعر كما قال الجاحظ :(فنّ تصويري يقوم جانب كبيرٌ من جماله على الصورة الشعرية وحسن التعبير).وهذا واضح في هذه المخاطبة لابنته:

” تجيئين ..

تشرق شمس من النور في زحمة الانتظار ..

وينبلج الصبح ألف قصيدة شوقٍ ..

ولحن افتخار..”

إنها العاطفة الصادقة المتلفعة بغلالة الحب، وسموّ الفخر بما أنجب، وهذا لعمري ما يشي بتربية تتسامق إلى أعلى درجات بناء الإنسان على هاتين الثيمتين . 

وفي قيلولة مع ماحوله من عناصر الوجود، وإبداع معطياته، يدخل الشاعر بفلسفة الشعر، وبشعر الفلسفة، متذكراً أن الحياة مهرة أصيلة رامحة نحو الضّوء والارتقاء، وعلى فارسها أن يمتطي صهوتها بعزيمة المقاتل، وهمّة المتفائل، ليثير مكامن التّوثب والتّوفّز في الذات الحالمة، ليصعد دِراجَ الجمال والجلال ويعيش الحياة ماجداً ذوّاقاً :

إيّاكَ أن تخشى  الحياةَ   وتجحدنَّ   لقاءها

ودعِ النّسائمَ في جبينكَ    تنتشي  بجلالها

وافتحْ لها  باب  العبورِ  ولا تخفْ    إقبالَها

ولسنا في عجلة من قراءة هذه المجوعة من قصائد الشاعر، دون أن نفتح أقنية الغزل ليتسرب إلينا هواؤه، وبعض من شميم وروده ورؤاه، وبوح القلب ونجواه، وإن كانت قليلاً، فلربما قليله يغني عن كثيره، يقول :

” لا زلتُ أذكرُ العباءة الأبيّةْ ..

وأنتِ تلبسينَها شامخةً كالطّودِ كالسّحابِ كالجبالْ ..

عيونك الخضراءُ تستفزّني ..

وصوتُكِ الحنونُ يستفزّني ..

وعلّمَ الأشجارَ ألّا تنحني ..

وعلّمَ الأنهارَ أن تسيرَ باختيالْ ..

وعلّمَ النّسيمَ أنْ يرشَّ عطره على الآصالْ .. ” .

ونمضي بين قصائد الشّاعر، كأننا في أجمة من من اخضرار الشعر، وباسق حوره وصفصافه، تصطاد ذائقتنا غزالات اللغة المتقافزة على سهوب الشاعرية الجميلة، وتسرح أفكارنا في أجوائها الشاسعة الأمداء، ونسبح في معاني الكلم المنساب بين رياض الأفكار الزّاهرة، فلا غيوم داكنة، ولا زمهرير يواجهنا من بين إشراقات الشاعر، كلّ ما قاله يتّسق مع سلاسة ووضوح رؤيته، ودماثة وليونة أخلاقه، وإذا كان الشّعرُ نضّاح لذات الشاعر عبر دلاء القصيدة، فإنّ شاعرنا استطاع أن يُبزِغَ لنا أناهُ بكل ما اكتنفها من وشاغلها من شيم الحياة العالية .

ولا يسعني في نهاية هذه القراءة لمجموعة أعماله الشعرية الكاملة، إلّا أن أتمنى له مزيدا من الإبداع والعطاء، وهو الفارس في هذا الميدان، وخاصة أنّه خوّاضٌ في تآليف أخرى كالدراسة والبحث والنقد، وباعه فيها تمتد إلى أقاصي الدّرس والاجتهاد ..

حسين علي الهنداوي، مبارك هذا الانجاز . 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى