واحةُ الخالصين

عمر حمّش | فلسطين

عادت جبالي حامتْ، وخلتُها لا محالة ساقطة.. هرولتُ هرولةَ فَارٍ؛ فكانتِ الدُنيا ذاتَها .. إسفلتٌ يترنحُ، وعَرباتٌ تمضي، ووجوهٌ أعتمتْ في شمسِ نهار .. كنتُ أضرِبُ إلى مَفرَجِ كروبي .

صعدتُ الإسفلتَ وهو المطروق بلا صعود؛ حتى وصلتُ الفسحةَ الدائريّة المُعَبَّدة، عبرتُها مراوغا، ولم أتبين ملامحَ أحد؛ وقد خلتُ المارينَ فارين مثلي؛ وكلٌّ إلى مأمنِهِ يشدُّ الخطَى.

اجتزتُ ما تبقى من عَمارٍ، وقد ساقتني ساقاي؛ فكنتُ المسوقَ المطيعَ إلى فُرجةٍ سورٍ كَلِح، تهدّم في غيرِ موضِع.

فوق طرقةِ الترابِ؛ صعدتُ سلمَ السماء، وقد تجهمتِ فوق هامتي الجبال ..

عبرْتُ؛ فتنفس قلبي في مرأى الأجداثِ المصطفة، وقد حسبتُها عادت عرفتني؛ فابتسمتْ.

رمقني صمتُ الأشواك المهيبُ، وشرع خطو عينيَّ يتحسس تحتَ البلاطِ مضربَه، فكنتُ كنفّار؛ جاء يدعو الراقدينَ، وقد خفق صدري لبزوغِ رؤوسِ الشواهدِ.

عدتُ أقولُ:

هذا فلانٌ، وذاك فلان .. هامستهم همسا، وخاطبتهم صياحا، ليس يسمعُهما سواي، والموتُ عاد يتلقطُ المغادرين فرادى، ثمّ يحصدُ جمعا، وهدرتِ الطائراتُ، وتبعثرتْ الأجساد، ووجدتني أًصيحُ، وأجمعُ العظام، ورأيتُ جريَ النعوش، ذاتَ النعوشِ مُحَمَلَةً بالأشلاء، وبالهتاف، وعادتِ الأمنياتُ أمامي تٌذبح، ومفجوعةً تموت، ووقفتُ أرمقُ الملامحَ، وهي تهوي في حُفَرِ السَفرِ الساكنة ..

لم أقوَ على استبقاء وجهٍ بعينِه، فالوجوه تزاحمتْ فوق الشواهدِ، وترنحتْ، وقد عبرتْ كلابٌ، وتقفّزتْ قطط .. وامتطّ نباحٌ، وماج مواء، وحسِبتُ كلَّ هذا ندبا، ورثاءً، وقلتُ:

وربما اعتراضا على تجرؤِ تطفلي ..

في كلِّ هذا شدتني أشجارٌ عنيدة، أنبتها الموتُ، وأزهارٌ شوكيّةٌ، خلقتْ تخصصا لمهابةِ الموقف، وزادته فرادة، فاتسقتُ أنا، حتى أحسنتُ، وتماهيتُ مع قداسةِ مشهدِ واحةِ الخالصين .. وانطلق من أعلى جمجمتي خيطُ دخان، سرعان ما انفلت؛ ليشتدَّ، ويمسي عمود مدخنة مرجل ..

صرتُ أتنقلُ – مفلتا دخاني – وضربتُ في الصمتِ؛ حتى خَفَّت أحمالي، وصرتُ بوزن ريشةٍ تلاعبت، أثملها صمتٌ مريح، لا يقطّعهُ إلا  النباحُ، والمواء، كلازمتي لحنٍ لن يدركه سواي، آتيه؛ فيستقبلني؛ ألقي عليه أحمالي؛ فيلقي سمفونيته .. ويقولون: مشعوّذ.. يقولون: مجذوب .. مسحورٌ، أو مجنون .. يقولون ما يقولون .. لا شيء يمنعني؛ أنْ أهرّبَ رأسي من الجبالِ الحائمة، كلما تداعتْ، وأن أكونَ مع كلِّ هذا الحبِّ في جنةِ واحةِ الخالصين ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى