الهبل والاستهبال باسم الدّين

جميل السلحوت | القدس الشرقية – فلسطين

     من حقّ كلّ إنسان أن تكون له معتقداته وإيمانه ودينه الذي يرى نجاته فيه، لكن ليس من حقّه أن يحرم الآخرين من حرّيّتهم في معتقداتهم. ونحن في البلدان العربيّة وغالبيّتنا من أتباع الدّيانة الاسلاميّة، التي لا مقدّس فيها لفهم الدّين بطريقة صحيحة غير القرآن والسّنّة الصّحيحة، يرفض الغالبيّة العظمى منّا الفهم المتجدّد للدّين، مع أنّ الجميع يؤمنون بأنّ هذا الدّين يصلح لكلّ زمان ومكان، والسّبب هو تقديس كلّ ما هو قديم دون تفكير، علما أنّ هذا القديم هو من أفعال أو أقوال بشر يخطئون ويصيبون مثلنا تماما، وهذا بسبب ثقافة القبيلة الصّحراوية الوحشيّة كما وصفها ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة، فمثلا هناك من يرفضون إعادة تفسير القرآن الكريم بناء على العلوم التي استجدّت بعد المفسّرين القدامى. وتهمة الكفر جاهزة لمن يحاول التّجديد والاصلاح من منطلقات إيمانيّة خالصة.

وخير مثال على ذلك ما جرى للمفكّرين الاسلاميّين عثمان صالحية واسلام بحيري، كما ذكرنا سابقا.

          ومن الأمور اللافتة هو اعتبار الدّين علما، فنجد هناك “علوم القرآن”، “علوم الحديث” علوم الفقه” إلخ، وهناك من يعتبرون “هذه العلوم أساسا للعلوم كافّة”، في حين يعتبر العالم جميعه الرّياضيّات أساسا لكلّ العلوم، ، حتّى بات من يرتدي الجبّة والعمامة ويطلق لحيته “عالما” ولو كان أمّيّا أو شبه أمّيّ، علما أنّ الدّين عقيدة وليس علما، والعقيدة ثابتة لا يمكن خرقها، في حين العلوم تخضع للتّجريب، لكنّ المتعصّبين يكفّرون من يقول بهذا؛ لأنّ الأقدمين هم من أطلقوا “العلم” على الدّين.

     وقد استغلّ ذلك بعض المحتالين والنّصّابين جيّدا، فتلفّعوا بعباءة الدّين، فضلّوا وأضلّوا واحتالوا على ملايين البشر من عامّة المسلمين.

            ومن المؤسف أنّ هناك من أخرج نصوصا دينيّة عن سياقها التّاريخي والزّمني، فأساؤوا للاسلام والمسلمين، فمثلا الدّين الاسلاميّ أقرّ الرّق؛ لأنّه كان معمولا به فترة نزول الرّسالة عند البشر جميعهم، لكنّه أوّل من دعا إلى تحرير الرّق، وجعل “تحرير رقبة” واحدة من التّكفير عن مخالفات وأخطاء وخطايا كثيرة، لكنّ “الدّواعش” عادوا إلى الرّقّ، فاسترقّوا نساء غير مسلمات في العراق وسوريا في أيّامنا هذه، معتمدين على نصوص من زمن الرّقّ، واستهبلوا ملايين ممّن يعانون من الكبت الجنسيّ يؤيّدونهم، ويقاتل الآلاف منهم معهم طمعا في الحصول على أّمّة لتفريغ شهواتهم الجنسيّة. والأدهى أنّهم أباحوا قتل المسلم للمسلم وغير المسلم من أبناء شعوبهم وأمّتهم، متّكئين على “معركتي “الجمل وصفّين.” فالمسلم” إذا قاتل معتقدا أنّه على حقّ فلا إثم عليه إذا قَتَل، وهو شهيد إذا قُتِل!”

       وكذلك بالنّسبة للآثار ومعظمها موجودة قبل الاسلام، وأقرّتها الدّولة الاسلاميّة عبر عصورها، لأنّها تمثّل حضارة شعوبها، وجاء الدّواعش فهدموها معتمدين على نصوص وردت في كتب الأقدمين، وهي تتمحور حول هدم الرّسول –عليه الصّلاة والسّلام للأصنام التي كان العرب يعبدونها، فهل كان أحد يعبد مثلا آثار تدمر أو بابل حتّى يهدمها الدّواعش، كما هدموا غيرها كالمقامات الاسلاميّة التي بنيت في عصور الخلافة الاسلاميّة المختلفة، وهل كان المسلمون لا يفهمون دينهم وجاء الدّواعش لنشر الفهم الصّحيح للدّين؟

       ووصل استهبال بعض “المشايخ” ومنهم دعاة يشار إليهم بالبنان للمسلمين، بأن يوردوا إحصائيّات لعدد الحوريّات التي سينعم بهنّ المسلم المؤمن في الجنّة، حتّى زادت أعداد المخصّصات للرّجل الواحد عن تسعة عشر ألف حوريّة! أليس هذا “الاستهبال” يعبّر عن عقليّة الذّكورة المكبوتة لهؤلاء”العلماء”؟ ولماذا لم يفّكروا بحقوق المرأة المسلمة في الجنّة، وهل من العدالة أن تكون ضرّة لهذا العدد الهائل من الحوريّات؟ ومن أين أتوا بهذه الاحصائيّة العجيبة الغريبة؟

      يقول ابن خلدون في “المقدّمة”: “أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيّة من نبوّة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدّين على الجملة” وما يهمّنا هنا هو أنّ العرب يخضعون باسم الدّين، ولذلك نجد من تلفّعوا بعباءة الدّين، ونصبوا واحتالوا على الآخرين مستغلّين الإيمان الدّينيّ الفطريّ عند العامّة، فيحرّفون الفهم الصّحيح للدّين، تحت شعارات دينيّة يبتدعونها، مستغلّين الجهل السّائد عند البعض في الدّين والدّنيا، فينصبون ويحتالون وينشرون خرافات ما أنزل الله بها من سلطان، فمثلا: في بدايات تسعينات القرن العشرين أشاع أحد المشايخ الذي ينحدر من أصول فلسطينيّة، ويعيش في عمّان، أنّ القيامة ستقوم في شهر حدّده لهم، وأنّ الأرض ستغرق بطوفان عظيم لن ينجو منه إلا من يسكنون إحدى ضواحي عمّان الجنوبيّة، والويل والثّبور وعظائم الأمور سيكون مصير من يمتلكون مالا أو أثاثا فاخرا، ولم يتخلّصوا منه قبل اليوم الموعود، والذي يريد النّجاة بنفسه وعياله ما عليه سوى أن يتبرّع بأمواله في صندوق وضعه لهم في المسجد، الذي يؤمّ النّاس للصّلاة فيه، وأن يضعوا أثاثهم الفاخر في مكان حدّده لهم، ولمّا مرّ الشّهر المحدّد ولم تقم القيامة! وفقد من استهبلهم أملاكهم، تبيّن أنّ “الشّيخ” قد بنى إسكانا بمالهم في المنطقة التي قال أنّ الطوفان لن يصلها، وفرشه بأثاثهم، وتركهم نهبا للفقر والحاجة التي أوصلت البعض إلى درجة المجاعة؛ لأنّه فقد كلّ شيء، وقد برّأ القضاء الشّيخ من التّهم الموجّهة إليه، لعدم ثبوت الأدلّة؛ لأنه لم يستلم منهم مالا بطريقة مباشرة، وأنّ الذي يطالبون به مجرّد “تبرّعات” قدّموها لصندوق المسجد، أو أثاث ألقوا به في العراء! وقد وصل الهبل مداه عند أحدهم عندما هدّد بطلاق زوجته التي رفضت تسليمه مصاغها الذّهبيّ والأوراق النّقديّة التي يملكها، بناء على نصيحة من أخيها الحاذق الذي حذّر من ألاعيب الشّيخ! لكنّها أصبحت ذات حظوة عند زوجها بعد انكشاف الخديعة.

       والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان باستطاعة ذلك المحتال أن يستهبل ضحاياه، لو لم يتدثّر بعباءة الدّين؟ ولا يفهمنّ أحد أنّ الدّين يدعو إلى هكذا جرائم، بل العكس هو الصّحيح، فالدين يحارب هكذا أمور، والويل والثّبور وعظائم الأمور في انتظار مرتكبيها.

      واستهبال النّاس باسم الدّين ليس حكرا على المسلمين وحدهم، بل هو عند أتباع الدّيانات الأخرى أيضا، فهناك من يزعمون أنّ تماثيل حجريّة ومعدنيّة للعذراء تدمع زيتا! وفي تسعينات القرن العشرين أيضا ظهرت إشاعات تفيد بأنّ النّاس يرون العذراء على جدار بئر خَرِب في بيت ساحور قرب بيت لحم، وتوافد الآلاف من المسيحيّين والمسلمين لرؤية “المعجزة”إ وأغلقت السّيّارات التي تقلّهم شوارع المدينة، وشوارع في المناطق المجاورة، واستمرّ الوضع أسابيع إلى أن نزل شابّ في البئر، فوجد أحدهم قد حفر رسما لرجل وامرأة متحابّين وبدون رؤوس على جدار البئر الكلسيّ الذي تساقطت القصارة عنه.

       وفي الدّيانة اليهوديّة أيضا هناك حاخامات زعموا أنّ المسيح المنتظر قادم “لإقامة مملكة يهودا”! وحدّدوا تواريخ لذلك، وجمعوا تبرّعات ماليّة، والتفّ حولهم أتباع، وأخذوا طابع القداسة، فانتشرت صورهم على لوحات الإعلانات وغيرها، وعاشوا وماتوا وأتباعهم يقدّسونهم. وقد ألقت الشّرطة الاسرائيليّة القبض على أكثر من حاخام ممّن يتلفّعون بعباءة الدّين، وصدرت بحقّهم أحكام بتهمة استغلال أطفال جنسيّا!

          وبهذا فإنّ الجهل في أمور الدّين والدّنيا يقود بعض “المحتالين” إلى التّظاهر بالورع والتّقوى، فيستهبلون البعض لمآرب تصل حدّ الجريمة، وليس عجيبا أن ينقاد الضّحايا إلى حتفهم ظنّا منهم أنّهم يعبدون الله.

          أمّا المحتالون والنّصابون المتدثّرون بعباءة الدّين، فهم كثيرون ومن مختلف الشّعوب والدّيانات، فيستهبلون ضحاياهم ويستغلّونهم، ويسلبونهم أموالهم القليلة، ويجدون من يسوّقهم حتى في وسائل إعلام رسميّة، فقبل انتشار فضائيّات الهبل والشّعوذة في بلاد العربان، وأثناء دراستي في جامعة بيروت العربيّة في النّصف الأوّل من سبعينات القرن العشرين، كان التّلفزيون اللبنانيّ ينشر إعلانا للحجز عند “البصّارة أمّ محمد” التي تعرف الطالع ويرتاد “عيادتها” رجال السّياسة! ومساء 18-1-2019 شاهدت على إحدى فضائيّات الهبل العربيّة “الدّكتور …” يصف علاجا لامرأة اتصلت به تشكو من مرض الانزلاق الغضروفي “الدّيسك” فوصف لها أن تقرأ على اثني عشر لتر ماء ثلاث سور قرآنيّة، وتشرب منها كأسا  ثلاث مرّات يوميّا، أمّا سداد الدّين فيتوجّب على زوجها قراءة ثلاث سور قرآنيّة ذكرها لها، مرّة واحدة لمدّة خمسة عشر يوما، وانتهت المكالمة بدعواتها “للدّكتور” لمساعدته المجّانيّة للمرضى والمحتاجين، دون أن تدري أنّها ستدفع لشركة الاتّصالات التي تتقاسمها مع “الدّكتور” أضعاف أجرة أيّ طبيب مختصّ.

     وعلى إحدى الفضائيّات أجاب”عالم” على سؤال لامرأة: “هل يجوز للمرء أن يتوضّأ عاريا في الحمّام؟” فأجاب بلغة الواثق: “يستحسن أن يغطّي الانسان عورته في هكذا أمور، لأنّ الجنّ يتواجد عادة في هكذا أماكن، وممكن أن يدخل جسم الانسان من عورته!” بينما أجاب شيخ أكثر وعيا واقناعا في مرحلة سابقة على سؤال آخر لأمرأة سألته عن إمكانيّة صلاتها حاسرة الرأس وهي وحيدة في بيتها؟ فقال: “ما دمنا نستحي من العباد فالله سبحانه وتعالى أولى أن نستحي منه.”

 وأجاب شيخ عاقل على فضائيّة أخرى:”الجنّ كائنات ضعيفة لهم عالمهم الخاصّ ولا علاقة لهم بالانسان.”

       و”مشايخ” المتأسلمين الجدد الذين يوزّعون مفاتيح الجنّة على من يستهبلونهم ويدفعونهم للانتحار وتدمير سوريّا وقتل شعبها، ويوزّع قائد القتلة “فيديوهات” يقول فيها قائدهم ضاحكا للمنتحر الذي يحمل حزاما ناسفا:

“الله معك فالحوريّات في انتظارك”!

 ولا يعلم ذلك الأهبل أنّ قائده ينفّذ أجندات معادية تستهدف وطنه وشعبه وأمّته. ولم يتساءل أحد من الذين يقتدون بهكذا “مشايخ” أنّ أحدا منهم لم يشارك أو دفع ابنه للمشاركة في هكذا جرائم كي يفوز بالجنّة.

         وقد سبقت الكنيسةُ المتأسلمين الجدد في هذا المجال، ففي أوروبا كانت توزّع صكوك الغفران على أتباعها من العامّة في القرون الوسطى، وجنّدوهم للحرب مع ملوك الفرنجة الطامعين في كنوز الشّرق تحت شعار الصّليب، فيما سمّاه المؤرّخون العرب والمسلمون “حروب الفرنجة” وسمّاه المؤرّخون الأوروبّيّون “الحروب الصّليبيّة”.

      وقد شاهدت أواخر العام 2016 في شيكاغو أمريكيّين يشتري الواحد منهم حمامة من مزرعة دواجن يملكها أخي راتب، فيكسر رقبة الحمامة ويضعها في كيس بلاستيكيّ، ويذهب بها إلى مشعوذة؛ لترى طالعه وتحلّ له المشاكل التي يعانيها! والمشعوذون في تلك البلاد يفتحون”عيادات” مرخّصة، ويضعون لافتات عليها، ويدفعون ضرائب.

    كما شاهدت يهودا اسرائيليّين يرتادون إحدى القرى العربيّة ويدفعون مئات وآلاف الشّواقل لأحد الدّجّالين؛ كي يعرف لهم طالعهم ويحميهم “ببركاته” العجيبة.

فهل يعود البشر لفهم دينهم الذي يحرّم هذه الخزعبلات، أم أنّ الجهل سيبقى معشّشًا في رؤوس البعض؟

 

ثقافة تنمية الجهل وتسويقه

            ومن الأمور اللافتة في مجتمعاتنا من يسمّون أنفسهم “أصحاب الدّعوة”! ومهمّة هؤلاء-حسب زعمهم – نشر الدّعوة الاسلاميّة، ويلاحظ أنّهم في غالبيّتهم جهلاء في أمور دينهم ودنياهم، ومؤهّلاتهم هي:”اطلاق اللحى وارتداء “الدّشاديش””، وهم يقسّمون عامهم بين المساجد، فينامون في كلّ مسجد ما بين ثلاثة أيّام وأسبوع، ومن اللافت أنّهم يطرقون بيوت النّاس دون استئذان أو ترتيب موعد مسبق مع ربّ البيت، ويدعون النّاس للتّواجد في المسجد حيث يتواجدون؛ لحضور “حلقات الذّكر”، ولمّا سألت مجموعة منهم:

لماذا تدعون المسلمين للإسلام؟ هل تعتقدون أنّ المسلمين الآخرين كفّار باستثنائكم؟

فأجاب أحدهم: لا معاذ الله، ولكن لتذكير النّاس بدينهم!

والعجيب في أمر هؤلاء “الدّعاة” أنّهم يعتبرون أنفسهم “علماء”! مع أنّهم في غالبيّتهم جهلاء، وانتسابهم للعلم والعلماء يحمل في طيّاته أنّ غيرهم “جهلاء”!

ذات يوم من أيّام وسنين قليلة مضت، ألحّوا عليّ لحضور إحدى جلساتهم في أحد مساجد قريتي، فاستجبت لهم، وفي المسجد سألني أحدهم” والعصر إنّ الانسان لفي خسر” عُطفت العصر على ماذا؟

 فقلت له الواو هنا واو القسم وليست واو العطف.

 فعاد يسأل: من المقسِم؟

فأجبته: الله.

 وعاد يقول: اتّق الله يا رجل، وهل يقسم الله بالعصر؟

 فأجبته: نعم وأقسم بالضّحى والتّين والزّيتون وغيرها؟

 وعاد يسأل: لماذا؟

 فأجبته: لا يُسأل عمّا يفعل.

 فعاد يدعوني إلى تقوى الله، فقلت له:

 سأتّقي الله وأترك مجلسكم، وغادرت.

       ومن المحزن أنّ الباب مفتوح عند هؤلاء الجماعات لمن يريد الانضمام إليهم، وإذا ما انضمّ يصبح “عالما” بطريقة “أوتوماتيكيّة”! والأدهى والأمرّ أنّهم يرسلون “دعاتهم” إلى دول وشعوب إسلاميّة أخرى، وبعضها لا يعرف العربيّة، فكيف سيدعو غير العالم بلغته العربيّة ودينه إلى الإسلام شعوبا لا تنطق العربيّة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى