من هو اللبناني ؟

توفيق شومان | مفكّر وخبير سياسي لبناني 

الفارق بين السياسة والعبث، أن السياسة تقوم على إنتاج الأمل، فيما العبث يقوم على التخريب، وعلى هذه الحال ، يكون دور أهل السياسة قائما على ضخ الأمل، بينما العبثيون يدمرون ويخربون ويعبثون بكل جمال.
ما علاقة ذلك بلبنان ؟
علاقة ذلك بلبنان، أن أغلب أهل السياسة أو من يُفترض أنهم أهل السياسة يسعون في كل يوم وساعة إلى قتل آمال اللبنانيين وإلى انتزاع كل إيمان باحتمال خروجهم من كوارث الإنهيارات ومن فظائع الصراعات، وكأن بأهل السياسة، يدفعون الناس دفعا إلى حافة الكفر بإمكان قيامة وطن ودولة.
أولئك عبثيون وليسوا لبنانيين.

من هو اللبناني إذن ؟
اللبناني من يقرأ تاريخه بتمعن وإمعان ويتوقف عند ما يقوله التاريخ عن خلاف نشب بين المدن الفينيقية الثلاث : صور وصيدا وأرواد ، فقرر أعيان المدن الثلاث أن يحلوا خلافهم ونزاعهم ، فأرسلوا وفودا منهم إلى مدينة طرابلس ولم تكن قد تشكلت بعد ، فأقاموا في أحياء ثلاثة ، ومن هذه الأحياء نشأت طرابلس كإتحاد بين الأحياء الثلاث أو المدن الثلاث ، وهو أول اتحاد في التاريخ ينتج عن طريق التفاوض والسياسة والتوافق .
المتلبسون الحاليون بالسياسة ، ينزعون نحو كل منزع ونزاع ، ويعصفون بكل وحدة واتحاد ، هل هم وطنيون ؟ هل هم لبنانيون ؟.
من هو اللبناني ؟
اللبناني هو ذاك الذي أبدع أفضل دساتير العالم القديم في مدينة قرطاجة المأخوذ عن دستور مدينة صور، فدستور قرطاجة هو الواحد الوحيد الذي أشاد به معلم البشرية الفيلسوف أرسطو ، وحوله قال: ” القرطاجيون على الخصوص لهم أنظمة فاضلة، والذي يثبت حكمة دستورهم ، أنه لم يحدث فيها ثورة ولا طاغية “.
معظم أهل السياسة الحاليين، يدوسون على الدستور ، ولا يؤمنون بالدستور ولا بالدساتير ، فيأتيهم غريب من بلاد الغرب إسمه ايمانويل ماكرون ليحدثهم عن ” عقد سياسي جديد “، هل هم وطنيون ؟ هل قرؤوا شيئا عن صور وتاريخها ؟ عن قرطاجة ودستورها ؟ هل هم لبنانيون ؟.
من هو اللبناني ؟
اللبناني ذاك الذي يملك عقلا مرنا ومتسامحا، يحتفظ بإيمانه ولا يتربص بإيمان الآخرين ، لا تستبد به عصبية ولا يطغى عليه تشدد وانغلاق ، وإذا دعاه داع لبناء وبنيان ، يشد الرحال إليه ، تماما مثلما فعل أهل مدينة صور حين بنوا هيكل سليمان ، أو حين بنوا هيكل ” حدد ” في دمشق .
أغلب أهل السياسة راهنا ، أو مرتكبو السياسة ، تقودهم الأحقاد وترأسهم البغضاء وجعلوا كل طائفة مرعوبة من الأخرى ، هل هم وطنيون ولبنانيون ؟.
من هو اللبناني ؟
اللبناني من يفتح كتب فينيقيا ويقرأ أن أهل صيدا وصور كانوا يبحرون إلى موانىء الدنيا حاملين على ظهور سفنهم سلعا ومنتوجات هي الأجود على وجه الأرض ، فيلقونها على الشواطىء والسواحل ، وينتظرون في عرض البحر ، حتى يأتي أهل التجارة يأخذون ما يطيب لهم ويتركون أبدالا من ذهب وفضة ، فلا كان الفينقيون يمتهنون الغش ولا كان الوسواس الخناس يلعب في عقولهم خشية أن يسرق الغرباء بضائعهم وأسلاعهم المرمية على الموانىء والمرافىء.
أكثر أهل السياسة حاضرا، جعلوا من السياسة غشا وشكا ودجلا وكذبا واتهاما وادعاء ، فلا يثق أحد منهم بأحد منهم ، هل هم لبنانيون؟

من هو اللبناني ؟
اللبناني كما يجمع أهل التاريخ والتأريخ ، هو وريث الثقافة العالية والراقية ، تماما مثل ادريان الفيلسوف ابن مدينة صور التي فتحت له مدينة أثينا أم الفلسفة مدارسها ليحاضر فيها عن الفلسفة ، فكان يفتتتح كل محاضرة فيها بقوله المشهور : ” ها … أن الحروف تعود مرة أخرى من فينيقيا إلى أثينا ” ، وبذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو : ” من الواضح أن أبجدية اليونان ( يعني أبجديات العالم المعروفة ما عدا الصينية وأشباهها الأسيويات ) جاءت من فينيقيا ، سواء جاء بها قدموس أو غيره ” .
أغلب أهل السياسة الذين ينتحلون السياسة في هذه الأيام ، ما ثقافتهم ؟ ما معارفهم ؟ وهم الذين لا يميزون بين حروف الجر وأدوات النصب والجزم ولا بين الفاعل والمفعول ولا بين الفتحة والكسرة ، هل هم لبنانيون؟

من هو اللبناني ؟
اللبناني هو الذي ينتج معرفة وثقافة وفلسفة ، مثلما فعل فلاسفة مدينة صور وفي طليعتهم الفيلسوف الشهير فورفوريوس ، إذ شكلت فلسفته أساسا كاملا لقواعد ومصادر الفلسفات المسيحية والإسلامية .
أكثر الذين يتلبسون السياسة في هذا الزمان ، ما فلسفتهم غير تلك الشتائم التي يتبادلونها في سويعات الصباح وفي سويعات الأصيل ؟ هل هم لبنانيون؟

من هو اللبناني ؟
اللبناني ، ذاك الذي أول من أتقن الصناعات الثقيلة، فكانت سفن فينيقيا علامة خاصة وصناعة خالصة لطرابلس وجبيل وصيدا صور، غالبية إمبراطوريات العالم القديم رفعت قبعات الإحترام لصناعات فينيقيا تلك ، ففي الحرب سفن فينيقيا في المقدمة ، وفي السلم سفن فينيقيا مملوءة بالزجاج والفخار والأثاث واللباس والفواكه والخضار والمآكل والمشارب ، وكلها مصنوعات ومنتوجات محلية ، كما يقول أبو التاريخ هيرودوتس الإغريقي قبل الميلاد ومثلما يؤكد كبير المؤرخين وول ديورانت في القرن العشرين للميلاد .
ماذا أبقى أهل السياسة من صناعات ومزروعات لبنانية ؟ جعلوا البلاد قحطا وأرضا يبابا لا مصنعا تركوا ولا حقلا زرعوا ، أعطبوا كل شيء وأنعشوا زراعة الرعب بين المذاهب والطوائف ، هل هم لبنانيون ؟

من هو اللبناني ؟
اللبناني ذاك الذي يتوقف لحظة أمام ما يقوله هيرودوتس عندما زار مدينة صور، فوجد شوارعها في غاية الجمال والنظافة .
ماذا بقي من تلك المشاهد في لبنان غير روائح النفايات التي جعلها أهل السياسة من تقاليد العيش ومظاهرالحياة ؟ هل هم لبنانيون ؟

من هو اللبناني ؟
اللبناني ، ذاك الأنيق الذي يرتدي أفخر الثياب وأجملها ، هي الصورة نفسها التي كان عليها الفينيقيون في صيدا وصور وجبيل ، حيث كانت الملكة المصرية كيليو بترا ، ترتدي ثيابها الملوكية ، مرة من مصانع صيدا ومرة من مصانع صور.
هذه الصورة ، استمرت تناسلا وولادة إلى ما قبل سنوات قليلة ، ولما حل العام 2019 تهشمت هذه الصورة وتكاد تتمزق ، ويمعن أغلب أهل السياسة في إعطابها وإحراقها داعين الناس بعدما أفلسوهم وأفقروهم إلى تغيير أنماط حياتهم ، هل هم لبنانيون ؟

من هو اللبناني ؟
اللبناني جعلته الثقة الحضارية يقول لأبناء اثينا أتيناكم بالحرف مرة ثانية كما فعل أدريان الفيلسوف ، واللبناني ذاك الذي عاش في قرطاجة التي قال فيها المؤرخ الإغريقي ابيانوس : ” إن قوة قرطاجة تعادل قوة بلاد اليونان وثراءها يعادل ثراء بلاد فارس ” ، أي انها تعادل الشرق والغرب .
قد يكون مفهوما أن يحرق الإسكندر المقدوني مدينة صور حتى لا تنافس أثينا ، وقد يكون مفهوما أن تحرق روما قرطاجة بعدما بدا العالم موزعا بين قرطاجة وروما كما يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو .
قد يكون كل ذلك مفهوما
ولكن ما هو غير مفهوم : لماذا يحرق السياسيون اللبنانيون لبنان ؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى