سياحة في كتاب (5)

محمد خضير – فنان وشاعر أردني

ديوان “لا تترك الغصن خلفك” للشاعرة نور الرواشدة، صدر عن دار الجيل العربي للنشر – الأردن.
——————– (قشَّة فوق صدر الماء) ——————
العرب، ومنذ المُهلهل (زيرُ حاضرة كُليْب والجَليلة) وحتى اللحظة، يحسبونَ الشعرَ فعلًا ذكوريًا بصرف النظر عن جنس قائله، رجلٌ كان أم امرأة. فمن برزنَ من الشاعرات كالخنساء التي بَكت أمجاد أخيها صخر، أو الأميرة الأندلسية ولّادة بنت المستكفي التي مكّنت صحن خدِّها لعاشق عابر، أو شاعرة ما قبل الإسلام عشرقة المُحاربية التي شِربَ العشاقُ فضلَة كأسها، وغيرهن؛ خالفن فكرة الأنثى المستكينة حين أدركنَ أن الدهشة في القصيدة موطنها الكذب لا الصدق، فقدّمنَ لديوان العرب قصائد بيتية صدَّقت ما ورَد في الشعر والشعراء لابن قتيبة وعلى لسان الأصمعي “الشعر نكِدٌ بابه الشر، فإذا ولج إلى الخير ضَعُف”. وكان ابن سلّام الجمحيّ أشار بوضوح إلى أن الذكورة في الشعر غالبَة، فَوسَمَ كتابه بـ “طبقات فحول الشعراء” دون الذهاب إلى تأثيث العنوان بشيء من التأنيث.
والرواشدة في هذه الأضمومة الشعرية تؤكد أن ذكورة الشعر ضرورة من أجل أن تكون القصيدة أنثى، لذلك نثرت القشَّ فوق صدر الماء لعلَّ شاعرةً ما تنجو من قبضة الحياة بشيء من الشعر.
لا تترك الغصن خلفك… عتبةٌ استوفت سيكولوجية المعنى وفاضت عن ملامح الوصيّة التي ذهبت بنا إلى تخيِّل طائرٍ حطَّ رحاله فوق أصابع أنثى خضراء، تورق بالحبِّ، وتهلكُ بالهجران. وهذا أبلغ ما يمكن لوصية يوصي بها غصن لطائر يدركُ أن موطنه السماء، فكيف له أن يحمل غصنًا سَكنهُ ذات تعب؟!
أيضًا، أيُّ مسافة تلك التي صنعتها أقدامٌ تشي بمحلِّ وقْعها الأخير كي تلتقيه هناك؟ وأيُّ ثقة تلك التي منبعها فعلٌ جاوز صيغة الأمر الكثير، بقليل من الأمل “… فاحمل غيابك للبقاءِ أنا هناكْ…”! إنه الشعر، القادر على إحالة الغياب إلى حضور طازج، واستحضار صور من رحلوا لتكون كلامًا لا يشبه الكلام.
نور الرواشدة استطاعت فك رموز عقدة الأنثى الشاعرة دون الوقوع في شبهة التبعية الشعرية، فهي صاحبة موسيقا خاصة على الرغم من أنها تسبح في بحور الفراهيدي المعدودة، حتى حين تلقي روحها في فتنة النثيرة؛ فهي تضعنا فوق سلم موسيقي يسهل صعوده، ولا كسر في عتباته الكثيرة، لذا أراني والقارئ نصعد قمة المتعة بيسر دون الوقوع في حيرة الجنس الأدبي الذي كان في حاليه شعرًا، لأن النثيرة كما عرّفتها الناقدة الفرنسية سوزان برنار هي: “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور… خلْقٌ حرٌّ، ليس له من ضرورةٍ غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى