سياحة في كتاب (6)…

محمد خضير -فنان وشاعر أردني

ديوان “بوح لا يشفي الغليل” للشاعر المغترب عزيز بارودي، صدر عن دار دجلة “ناشرون وموزعون” الأردن.
نحن أمام شكلٍ من أشكال الشعر الذي فتح أبواب الاحتمالات جميعها مخلفًا صراعًا حول تسمية ما أتى لاحقًا لقصيدة البيت/العمود، والتفعيلة…
تقول نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر): “شاعت في الجو الأدبي بدعة غريبة، فأصبحت بعض المطابع تصدر كتبًا تضم بين دفاتها نثرًا طبيعيًا مثل أي نثر آخر، غير أنها يكتب على أغلفتها كلمة “شعر” يفتح القارئ تلك الكتب متوهّمًا أنه سيجد فيها قصائدَ ذاتُ وزن وإيقاع وقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئًا وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي مما يُقرأ في كتب النثر”.
ومن كبار رواد هذه البدعة، الشاعر الناقد على أحمد سعيد “أدونيس” حيث يدخل إلى عالم البناء الفني للقصيدة الشعرية ليحدّد طبيعة الفروق الجوهرية بين ما هو شعر وما هو نثر منتصرًا للنثيرة، فيقول في كتابه “أوزان الشعر” “إن تحديد الشعر بالوزن تحديد سطحي خارجي قد يناقض الشعر؛ إنه تحديد للنظم لا للشعر. ومهما تخلّص الشعر من القيود الشكلية والأوزان ومهما حمل النثر خصائص شعرية، تبقى هنالك فروق أساسية بين الشعر والنثر وأول هذه الفروق: أن النثر اضطراد وتتابع الأفكار في حين أن هذا الاضطراد ليس ضروريًا في الشعر. ثانيًا: هو أن النثر يطمح لأن ينقل شعورًا أو تجربة أو رؤية فلذلك فإن أسلوبه غامض بطبيعته. وثالث هذه الفروق هو أن النثر وصفي وتقريري ذو غاية خارجية معينة ومحدودة على حين أن غاية الشعر إنما هي نفسه؛ فمعناه يتجدّد دائمًا بتجدّد قارئه ولا يجوز إذن أن يكون التمييز بين الشعر والنثر خاضعًا لمنطق التركيب اللفظي وللوزن والقافية فمثل هذا التمييز شكلي لا جوهري، ومن جهة أخرى ليس الشعر نثرًا ساميًا أو نثرًا معجزًا إذ ليس الفرق بين الشعر والنثر فرق في الدرجة بل فرق في الطبيعة” المتتبع لرأي أدونيس يراه منطقيًا ولكن يبدو أن أدونيس يريد تمييع مسألة الفرق بين الشعر والنثر فالفرق بينهما في الشكل من حيث الوزن والقافية وتركيب الجمل لا يحتاج إلى جدال، وقد تعرّض أدونيس لنقد حاد لما يسميه هو بـ “قصيدة النثر” من قبل النقاد.
وبعيدًا عن توقيعات الخلفاء العباسيين ومقامات الحريري، نحن الآن أمام جرأة عالية –ولا أتكلم عن علوّ النص أو نقيضه- لأن هذا في عهدة النقّاد، إنما نحن أمام شاعر علَّق الجرس، مدركًا واعيًا أن شجر التوت لا نجني منه البرتقال…
وربَّما لن يُشفي هذا البوح غليلَ مَن ذهبوا إلى تسمية النثيرة بـِ”قصيدة النَّثر” كمصطلح معلَّب قادم من الترجمات الغربيّة، لنمارس بذلك كسلًا أدبيًّا آخر يغرِّب اللغة مشوِّهًا ما اتُّفق عليه! فإذا كان الباحث عن لقب القصيدة مؤمنًا بالشعر وتسمياته؛ فلماذا يعتبر الشعر مادة كلاسيكيّة لا تتوافق وحداثويّة المرحلة الأدبيّة!! أدرَكَ عزيز بارودي هذا البون عند أوَّل إصدار له، فكانت واصفة الديوان “نثيرة” وهو بذلك يسجِّل أول جرأة تأخذ النصَّ إلى مرآته الحقيقيّة حتى نراها بثوبها التي هي عليه؛ مدركًا أنَّ مفردة القصيدة وعاءٌ له بحوره وأوزانه التي لا تعلو على النثيرة في كثير من الأحيان. هذا البكر تجربةٌ أولى يخوضها بارودي في المهجر، وقد أحسن حين أبقى على عربيَّته كلغةٍ تستحق الحياة بعد أن تورَّط في ثقافة الآخر التي ذاب أبيضها في كأس عزيز… فكان هذا البوح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى