الشاعر الأردني سمير عبد الصمد وناصر أبو عون يتحاوران في جريدة عالم الثقافة

حاص | الأردن

(1) عودة إلى البدايات.. متى اكتشفت قارة الشعر المفقودة داخل جغرافية روحك المتوثبة؟ وكيف ولجت إلى أبواب القصيدة؟

جواب:

بداية الشعر يخلق معنا، وكل ذات شاعرة، لكن هناك من يتأخر بالولوج إلى عالمه الشعري، بدأت متعلقًا بقراءة القصص، واجدًا فيها ترويحًا وانطلاقًا نحو عوالم الخيال، لكن عرفت مبكرًا أن في ذاتي شيئًا آخر، أكثر جمالًا وتحليقًا، وكان هو الشعر، وجدت نفسي مشدودًا لعالمه قراءة وحفظً وشغفًا، ثم كتابةً… كتابات كانت لمحات وجدانية وتجربة ذاتية. في المرحلة الثانوية، سعى أحد معلمي اللغة العربية، لتبسيط مفهوم العروض والقافية في أذهاننا الغضة، ثم أتاح قراءة بعض محاولاتنا في إذاعة المدرسة، وكانت هذه أولى الخطوات، التي أشعرتني بالزهو. كنت حريصًا على حضور الأمسيات الشعرية لكبار الشعرا، مثل: محمود درويش، وسميح القاسم، وسعاد الصباح، وحيدر محمود، وسواهم، وهذا نمّى ملكة الكتابة والإلقاء لديَّ. بدأت بالنشر بالصحف المحلية والمشاركة في الأمسيات الشعرية، هكذا كانت البدايات. لكن النقلة الحقيقية في تجربتي الشعرية كانت حينما انتقلت للعمل في سلطنة عُمان، حيث بدات نشر بعض قصائدي في صحيفة عُمان، وبعدها تشرفت على مدى سنوات بكتابة اوبريتات احتفالات وزارة التربية والتعليم، وهذا صقل تجربة الكتابة وتطورها بشكل كبير،  فكتابة الأوبريت الشعري، ليست ككتابة القصيدة. وقد تم اختيار عدد من قصائدي الوطنية لتسجّل وتصور للتلفزيون العماني. كما تشرفت بالوقوف على منابر الشعر، بجوار كبار الشعراء، في مسقط ونزوى وسمائل والحمراء، وسواها من الحواضر العمانية، هنا فقط، أحسست بنضوج تجربتي الشعرية، ومازلت حتى الآن أحرص على تثقيف نفسي، ومتابعة تجارب الشعراء، حتى تغدو حياتي أكثر جمالًا

(2) تعريف الشعر بعيدًا عن الأدلجة والخطابين القومي والعقائدي، بما يدعم مرتكزات الهوية الثقافية؟

جواب:

بدايةً، الشعر هو الجمال، وهو شكل فني يستخدم لغة متميزة شفافة، مفعمة بالإيحاءات، تجعل المتلقي يسافر عبر فضاءات النص إلى عوالم مثيرة، تمنحه المتعة والفرح بالدرجة الأولى، وقد تمنحه البحث عن فكرة مثيرة تستفزُ عقله. الشعر يجب أن يكون خارج التعريفات المقولبة التي تقيّد آفاقه، وتحصره في إطارٍ أيدلوجي مقيت. الشعر هو هوية قائله، وشخصيته وقضيته، وثقافته

(3) يُطْعَنُ في الحداثة بوصفها إنجازًا غربيًّا، وهي كذلك بالفعل، أليس من حداثة عربية وكيف يسهم الشعر في تأصيلها؟

جواب:

الشعر يشبه الكائن الحيّ الذي يأبى السكون والتقوقع، ويصر على التطور والتجدد. لفترة طويلة بقيت قوالب الشعر القديم وأساليبه هي المسيطرة على نهج الشعراء، وكل من يخرج هذا النهج مارق؛ لكن نجح بعض الشعراء (المتمردين) في فرض رؤيتهم ونهجهم وأساليبهم على أذواق المتلقين فأصبح المحظور مقبولًا، والممنوع مرغوبًا ومطلوبًا. وفي العصر الحديث حينما بدأت ظاهرة شعر التفعيلة، على يد عدد من الشعراء في العراق ومصر وسواهما، ثارت ثائرة الرافضين، وعدوها خروجًا فاضحًا عن ثوابتنا، بل إن بعضهم عدها (مؤامرة أجنبية خبيثة) لهدم أركان الدين، رغم أنها -في نظري- تطورٌ طبيعيٌ، انبثق من حاجة ملحة للتجديد، وهو تجديد من خلال الشكل، ومن خلال المضمون. إن أي تطور، وتجديد في الشعر تفرضه الحاجة لتجربة تُجاري متطلبات العصر، تكون انعكاسًا منطقيًا لتطور الحياة ونمطها، وسرعة إيقاعها

(4) رزح الشعراء العرب في العقود الثلاثة الأخيرة تحت نير العديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية، محاطين بسياج اقتصادي شائك مما خلّف آثارًا خطيرةً على الإبداع.. كيف يمكننا الانفلات من هذه الأزمة والخروج بأقل كلفة من الخسائر؟

جواب:

هذه المتغيرات رزحت تحتها كل فئات المجتمع وأطيافه، وما الشعراء إلا جزء من هؤلاء، بل هم ربما يكونون الأكثر تأثرًا بها، نظرًا لرهافة الإحساس وطغيان العاطفة، وشعورهم بأنهم أمام مسؤولية جسيمة، ومن جانب آخر السعي لتأمين حاجاتهم اليومية من الحياة الكريمة، والتي تتقاطع أحيانًا مع مواقفهم القومية التي لا تُعجب أهل السياسة، مما يدفع الشاعر للصمت حينًا، وللرمز أحيانًا أخرى؛ لأن الشاعر المثقف يعرف جيدًا بأن أي صدام بين الشاعر والسياسي، فالمنتصر هو السياسي؛ لذا يجب أن تُحصِّن السلطةُ السياسية الشاعرَ والمثقف والمفكر والمبدع من تقلبات السياسة ونزواتها، وأن يكون فضاء التعبير واسعًا، فكلما ارتفع سقف الحرية الثقافية ارتقى الإبداع ونهض المجتمع، وهنا نخرج جميعًا بأقل كلفة من الخسائر التي قد تضر ببنية المجتمع وكيان الدولة وهيبة المثقف

(5) ما أبرز ملامح قصيدتك الشعرية دونما التَّماس مع تجربة جيلك الإبداعي؟ وكيف يتحقق الشاعر في ظل تداخل السياسي الإقصائي مع الإبداعي الديموقراطي وتجاذبات الشللية المقيتة التي تستقطب أنصاف المبدعين والمتعلمين؟

جواب:

لم أكن يومًا شلليًا، ولم تحرك مشاعري سوى رغبتي الشديدة بتقديم منجز يشبهني من خلال الشعر، أو من خلال ما كتبته من مقالات، ومن ناحية أخرى لم أكن صداميًا باحثًا عن الشهرة، وعن ممارسة دور الضحية المطارَد، نادبًا حظي لأقول معرضًا بالآخرين: “أنا غنيتُ يا وطني وما غنوا” كنت متناغمًا مع مجتمعي، موازنًا بين ذاتي والكيان العام، تجربتي الشعرية ببساطة هدفها نشر الجمال والحب والأمل، لا البحث عن العيوب والثغرات، ولم أرتدِ يومًا ثوب المصلح الاجتماعي، ولم أعدّ نفسي بطلًا رافعًا سقف التعبير، بل حاولت أن أكون موجِّهًا بطريقة غير مباشرة، محاولًا ملء نفوس المتلقين بالأمل، فاتحًا لهم كُوّة السعادة، وكل هذا يتناسب مع شخصيتي وطبيعتي

(6) لم يعد الشعر العربي يطرح أسئلة وجودية.. ما السبب؟ ولماذا صارت “أسئلة الشعر حائرة بين منجزه التراثي، ووظيفته الاجتماعية والحياتية، وبين طارئ خلخل قواعد التعاطي الشعري العربي، بانفتاحه على التجديد والتطور الشعري” وفق تعبير عثمان حسن.

جواب:

فعلا. لم يعد الشعر الجديد يطرح أسئلة وجودية، لسببين: الأول: هو الابتعاد عن دراسة الفلسفة ومنع تدريسها في المدارس الثانوية: لأنها -كما قال الكثيرون- ترفٌ فكري لا فائدة مرجوة منه، ولأنها مضيعة للوقت في البحث عن أشياء غيبية لا إجابات لها. والثاني: سيطرة الاتجاه الديني، وإمساكه بتلاليب المؤسسات التعليمية والتربوية والوسائل الإعلامية، وإقناعهم بعض رجالات التربية وقادتها، بأن البحث في اسس حياة الفرد وكينونته ومصيره، هي أسئلة أقرب ما تكون للكفر والهرطقة، فالفلاسفة منذ زمن بعيد لم يكونوا على وفاق مع المتدينين، لذا انكفأ المثقفون عامة، والشعراء خاصة على أنفسهم، ولم نعد نقرأ او نسمع بقصائد تشبه قصيدة أبي ماضي “لست أدري” وارتضوا إما بالعودة إلى ذواتهم وغنائيتهم، أو العودة إلى الشعري المنبري الخطابي المباشر الذي يعطيهم حضورًا جماهيريًا، وإعجابًا يقنعهم بصواب توجههم

(7) هل من دور ووظيفة للشعر؟ وما أهم ملامح الأزمة التي يعيشها الشعر العربي؟ في ظل غياب المؤسسات التنظيمية؟

جواب:

لن أبالغ في وصف دور الشعر ووظيفته وبخاصة في هذه الأيام التي تسيطر فيه وسائل التواصل الاجتماعي لتنشر كل ما هب ودب، لقد انحسر دور الشعر في ظل المتغيرات الكبرى التي تتطغى على تفاصيل حياتنا، وتكاثرت الملتقيات الشعرية وانتقلت من الحواضر للقرى والتجمعات في كل مكان، واخذنا نرى ظهور شعراء لا لون لهم ولا طعم، “وكل يدّعي وصلًا بليلى” ومهما كانت المؤسسات التنظيمية فاعلة ومؤثرة فإنها لم تستطع أن تضبط هذا التكاثر المطرد للشعراء، مع عدم الإنكار بأن هناك أصواتًا شعرية ما زالت تصدح، وتؤثر وتمتع؛ ولكن المتلقي العادي يعجبه في الغالب، الصوت العالي، ولا يهتم كثيرًا بالبحث عن جمال الشعر وتقيده بالأطر العامة لمفهوم الشاعرية.

(8) تكاد القطيعة ما بين القارئ والشعر العربي الحديث أن تصبح شاملة.. ما العوامل التي أدت إلى هذه الأزمة؟

جواب:

لا شك، هنا ردة عن الشعر الحديث وبخاصة قصيدة النثر؛ لأن هذا النوع لم يستطع أن يدخل إلى أعماق القارئ، ويدغدع مشاعره، ويقنعه بأن يقضي وقته “الثمين” بالاستماع إلى كلام لا يفهمه، كما أن بعض الشعراء لا يفرقون بين العمق الشعري، والغموض المقصود، وبين التعمية اللامفهومة، لذا نجد ان هذا الشعر قد قلَّ كاتبوه ومحبوه.

(9) كثير من الأصوات تبشر بعودة القصيدة العمودية لتتسيد المناطق المضيئة في المشهد الشعري العربي .. هل تعتقد أن هذه بشارة أم خسارة في ظل أزمة النمطيّة والتكرار في الرؤية واللغة والصورة والإيقاع التي أصابت قصيدة التفعيلة خاصة، في إطار حركة الشعر العربي المعاصر، منذ ستينيات القرن الماضي، إلى حالة من السأم و”الإرهاق الجمالي”.

جواب:

هذا يقودنا إلى سؤالك السابق الذي من خلاله نجد إجابة لتساؤلك الحالي، فالعودة للقصيدة العمودية هو انعكاس لعدم الاقتناع بمضمون الشكل الجديد للشعر، مازال الكثيرون يعشقون الجلوس أمام شاعر يسمعونه ويتفاعلون مع شعره الذي وجدوه ملبيًا لحاجاتهم الذاتية ونفوسهم الباحثة عن المتعة،ولا يحبون أن يستمعوا إلى شاعر يتحدث بلغة لا يكادون يفهمونها

(10) هناك فشل للنظريات النقدية الغربية التي تمّ شتلها في البيئة العربية وبتعبير فخري صالح (لا تتجذر في الواقع الثقافي وظلت مجرد أيقونات ثقافية نخبوية لا تتصل بحاجات حقيقية للثقافة العربية.. ما تقييمك للمنتج النقدي العربي المشتت بين الأكاديمي والصحفي الانطباعي؟

جواب:

في فترة من الفترات طفت على سطح النقد الشعري نظريات نقدية أجنبية أبرزها النظرية البنيوية، وكثرت الدراسات في هذا المجال، لكنها لم تكن ترضي، إن لم أقل تقنع المتلقي العربي؛ لأنه وجد فيها بُعدًا عن عوالمه الثقافية، فقد غدت الدراسات أصبحت إلى الرياضيات والأرقام التي لا تتناسب مع طبيعة الشعر، ولذا نجد ارتدادًا عن هذه النظريات والعودة إلى الدراسات الأكاديمية للويس عوض على سبيل المثال. وسواه من أصحاب النطريات النقدية. أما النقد الصحفي فهو في الغالب مجامل ومقولب ومبرمج يصلح لنصوص متعددة، ولأسماء مختلفة

(11) في ظل اتساع حرية التعبير على مواقع الإنترنت، وتحطيم جدار الاحتكار داخل الصحافة الورقية وظهور مصطلحات من قبيل: (المواطن الصحفي)، وشعراء (الفضاء الأزرق)، و(المؤسسات والصحف الإلكترونية)، و(الجوائز وشهادات الدكتوراه الفخرية) التي تتطاير في الفضاء.. ما ملامح مستقبل صناعة النشر؟.

جواب:

كل ذلك من لزوم ما لا يلزم، ففضاءات الإنترنت جعلتنا نتعامل مع أناس فضائيين ورجال آليين، ليس بيننا وبينهم قواسم ثقافية مشتركة، وما انتشار الدكتوراة الفخرية إلا إحدى هذه الجوائح التي هبطت علينا بمظلات مخرومة، وغدت تفرض حضورها بسبب وبدون سبب، فتراجعت الحقيقة خطوات للخلف، وتراجعت دور النشر، وانقطعت الصلة او كادت بين الإصدارات الرصينة والمتلقي الحقيقي، وأفلست بعض دور النشر. ويكاد الكتاب الورقي والصحافة الورقية يغدوان جزءًا من الماضي

(12) لك الحق في إضافة روزنامة من الأسئلة فاتتني جديرة بالطرح.

جواب

“لم تترك لنا أستاذ ناصر أبوعون مجالًا للتفكير بأي سؤال آخر، شكرًا جزيلًا على جهودك المباركة، في نشر الثقافة والمعرفة بكافة أشكالها”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى