حكايا من القرايا.. “الأقراص”
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
ذاك يوم… يذكره من يذكره، يوم جميل كأنه عيد، عيد أم مصطفى.. كان ذلك في الشهر الرابع من السنة، وقد قست الشمس على ربيعها قليلاً، مبشرة بصيف حار، كانت المدرسة ملآى بالتلاميذ في المرحلة الأساسية، يتعلمون ما فرضه عليهم المنهاج… يداوم التلاميذ ثلاث حصص، ثم يخرجون إلى الساحة لأخذ فرصة يرتاحون فيها، ويسمّون هذه الفرصة (التنفّس) وكأنهم كانوا بلا نفس داخل الصف… المدرسة تخلو من المقصف، ولو وجد المقصف لتعذر وجود قروش أو تعاريف (التعريفة نصف قرش) للشراء من المقصف… لذا وَجَدْتَ الجوع قد بدأ يتسلل إلى معد الأطفال، جوع يخجلون من التعبير عنه… وقد اعتادوا على تحملّه… ولعل المعلم – وهو معلم منفرد- في المدرسة يقرصه الجوع أيضاً، فالمعلم جائع والتلميذ أكثر جوعاً.
بعد التنفس في منتصف الحصة الرابعة، تفاجأ المعلم وتلاميذ الصفوف الأربعة… دخول أم مصطفى حرم المدرسة، أم مصطفى تحمل على رأسها(جونة) كبيرة واسعة، وخلفها ابنتها تحمل (قُبْعة) وثالثة هي بنت الجارة تحمل قبعة أيضاً… رأى الجميع أم مصطفى وهي تحمل على رأسها، رأوها تسير في الشارع وظنوا أنها سارحة لتقديم الغداء لحرّاثين في أرضها… لكن كانت المفاجأة عندما اقتحمت القائدة أم مصطفى المدرسة، بل اقتحمت غرفة الصف الوحيدة… لم تطرق الباب وإنما صاحت بأعلى صوت ” ع العافية يا مقريّة ” وردّوا عليها بصوت واحد ” الله يعافيك ” فسخت أم مصطفى حملها واضعة الجونة على الأرض، وكذلك فعلت البنتان… خرج تلاميذ المدرسة إلى ساحتها، وبقي في الصف المعلم والضيفات… قالت أم مصطفى: خبزنا هذه الأقراص لنوزعها عن روح المرحوم (أبومصطفى)… ترحّم المعلم على المرحوم… وبدأت أقراص الزعتر والحلبة والزلابية ترتب على أدراج التلاميذ، وبدأت البنتان توزعان البيض ذا القشرة الحمراء على المقاعد أيضاً… وتناول المعلم صرة من النقود من الحجة، ووضع قرشاً جانب كل قرص… ما أجمل المشهد! بستان من ورود منوعة… مأكولات شهية، يزينها البيض الأحمر المسلوق مع قشر البصل… ويحلّيه قطر الزلابية… ويكمل المشهد الزاهي قرشاً حلالاً زلالاً يشتري به التلميذ من الدكان بعد رواحه من المدرسة…
ضرب المعلم الجرس، فاصطفّ التلاميذ، أشار المعلم لهم فدخلوا صفّاً تلو الآخر… دهشوا مما رأوا… فلا كتاب، ولا دفتر… لا قلم ولا ممحاة على المقاعد… بل تحولت الأدراج إلى طاولات نشر عليها ما لذّ وطاب من الأقراص… وما تلوّن من بيض… وقروش… طلب المعلم من التلاميذ قراءة الفاتحة بشكل جماعي لروح المرحوم، دعا له وأمّن الطلبة… ودعاهم إلى أكل ما قسم الله لهم عن روح المرحوم… وسرعان ما رأيت الأفراد يتجمعون ويتحلقون حول موائدهم… والسعادة تملأ وجوههم… وهم يهزمون جوعهم… ويأخذون قروشهم… شكر المعلم أم مصطفى… وشكرها التلاميذ… وأصبحت الحادثة خرّيفية في البلدة يتوارثها جيل تلو الآخر…