نصّوص شرقيّة ونبوءة الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي

د. موج يوسف | ناقدة أكاديمية – العراق
النبوءةُ والاستشرافُ مصطلحان كشفا عن عمق الأعمال الإبداعية وما فيها من تأملات الفنان أو الأديب وكيف يقرأ المستقبل بتأملٍ، فمثلاً لوحة الفنان الإسباني سلفادور دالي بعنوان (الفاصوليا تفور غضباً) والتي تنبأ بوقوع الحرب الإهلية في إسبانبا، ووقعت بعد شهور من رسم اللوحة.
وهذا يذكرنا بقول نيكولاس اللاهوتي وهو أيضاَ فيلسوف :(الإنسان آله آخر بما أنه خالق للفكر وللأعمال الفنية)،وبالتوازي مع هذا يؤكد لاندنيو الفلورانسي صاحب النزعة الافلاطونية عندما قال : إنَّ (الله هو الشاعر المتعالي وأن العالم قصيدته).
قد يتبادر في ذهن قارئ السطور أن الكاتبة بالغت بمنزلة المبدع الذي يظّن البعض أن مهمته تقتصر على صنع الجمال، وحتى لا نهرب من النبوءة المقلقة التي أثارها العنوان، وما علاقتها بالشاعر الراحل البياتي وهل وقعت؟ ديوان نصّوص شرقيّة الصادرة عن دار المدى، وهو أخر ما كتب البياتي من قصائد في عامي 1999 و1998 خلاصة لتجربته الشعرية. وما نلحظه تعدد شكل القصيدة بين العمودي والحر والنثر. ولا يهمنا الشكل بقدر ما يهمنا الرؤى المختبئة وراء النصّ، وما حملته من استشرافٍ كشفَ فيه الشّاعرُ عن قرب رحيله إذ يقول في قصيدته (سجون أبي علاء المعرّي) المؤرخة 20/2/1999 في ختامها: ما بين الوردة والسِّكين
روحي قطرةُ ضوءٍ تخبو
وأنا أخبو معها
سنموت كلانا في هذا المنفى الملعُون
فلماذا يا أبتي انجبت حصاناً غجريّا أعمى
لا يعرفُ في هذا الصّقع الشّاسع أين يموت ؟
تشعُ أضواء الأبيات إلى المستقبل وما يحمله الحاضر من نبوءة، لكن هل بعد الرحيل من هذا العالم مستقبل؟ ملاذه الأخير ولحظه تحرر روحه من الجسد ستكون المنفى الأخر الذي يخلّصه من غربته، جاء استشراف النصّ زماني ومكاني، فالأوّل عندما استعمل حرف السين مع الفعل المضارع نموت (سنموتُ كلانا في المفى الملعون) ودلالة السين هي المستقبل القريب، أما الثاني (المكان) المنفى علم أن مكان موته بالمنفى ولا أمل من العودة أو الدفن بوطنه الأم، والحصان الغجري الأعمى هو الجملة الثقافية التي رثى بها ذّاته المتنقّلة بين الدول، عندما ضاق به آفاق العالم وتغرّبتْ ذّاته في أرضٍ جافةٍ لا يمرّ منها دجلة، فالحصان الغجري يدل التنقل والسرعة والاغتراب، والأعمى هو التوقف، فهنا انطفئ ضوء حياته. بغداد لم تغب عن شعرائها حتى وأن طال الزمان على فراقهم عنها، لكنّ البياتي يعيش فيها بشعره،ونلحظ نبوءته الشعريّة بقصيدة (أوراق بغدادية مجهولة) على لسان المرأة الإعرابيّة فيقول: الإعرابيّة قالت :
هذه سنواتٌ حلّت فيها اللعنةٌ
فالنّاسُ جياع
والكواكب نحسٍ
تتساقطُ فوق مقابر بغداد
من يدري ؟ فالوحش الرابض
في ذاكرة الشعب المقموع
يعود
ليأكل قبل نهاية هذا القرن الأحياء
النصُّ أحدثَ إثارةً معنويّةً عبر تَعدد أصّوات القصيدة فلم يكن صّوت الشاعر وحده، بل امتزّج مع صوت الإعرابيّة وهي معادل موضوعي عن الأمة، وميّزة هذه القصيدة هي من قصائد ما بعد الحداثة التي تظهر لذّة المعنى، وتهجر الغنائية، وتفسر الحياة فضلاً عن النبوءة الحاضرة، فالوحش الرابض قد يظّنُ القارئ أنه إستعارة عن الحاكم الظالم، لكنَّ ما هو إلا موجة قادمة من الوحوش تأكلُ النَّاسَ الأحياء وتصادر حياتهم. ربما لو قرأ قارئ هذا النصّ قبل التحول السياسي في العراق لقال هذه هلوسات شاعر سيما في قصيدته بعنوان نصوص شرقية إذ يقول : قالت المغول قادمون
قلت : نعم فلقد رأيتهم قبل سنوات بعيدة
يقتحمون أسوار المدينة وها أنا أراهم الآن
يقتحمون أسوار بغداد من جديد
قد يتبادر في ذهن المتلقي عن أي مغول في العصر الحديث ؟ وهل بقي أقوام همجية في عصر التكنولوجيا؟ ولماذ بغداد كلّ مرة تُغتصب؟ النصّ هو يؤيد الفكرة التي أشرنا إليها في النصّ السابق، ويستشرفُ بإحتلال بغداد مرة أخرى من قبل المغول وليس المقصود بتلك القبائل الهمجية وأنما من قبل حكوماتٍ لا تختلف همجيتها عن المغول، بل أشد وحشيّة، وهذا ما حدث في عام 2003 وما بعدها عندما وقعت بغداد في أنياب المحتل وأعوانه، فدهسوا جسدها بعد ان اغتصبوها في وضوح النهار، غير أنهم ولّوا مغتصبها عليها. فقال (وها أنا أراهم الآن يقتحمون أسوار بغداد من جديد) القصيدة كتبت عام 1999 فوقعت نبوءته كما وقعت نبوءة الفنان سلفادور دالي. هنا يتوضح أهمية الأدب الذي لا يصنع الجمال فقط، بل يضع الحياة والله موضع التساؤل، والشّعرُ لا يتساءل عن النظم الإنسانية فقط، فالكون كله يقع في محل التساؤلات ونصوص شرقية لا تخلو من الأسئلةٍ الوجودية وقضايا الوجود والعالم بتأملِ شاعرٍ يُدركُ معنى أن يصابَ المرءُ بلعنة الشّعر. والشّعرُ كالدين حيث أن كليهما يشتركان بالإيمان بالحياة غير أن الأوّلَ تقريرٌ عن التجربة وليس التجربة ذّاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى