أدب

تأملات في قصيدة “حينما لا تحضر قصيدتي” للشاعرة فليحة حسن

حينما تتمرد القصيدة

بقلم الناقد: ناظم ناصر القريشي

حين لا أكتب، أكون أنا… لكن حين أكتب، أكون آخر

فرناندو بيسوا

أولا – النص

حينما لا تحضر قصيدتي

بمجرد أن أحاول الكتابة
يحتشد ملايين القراء على حافة الورقة
راكعين، ساجدين، رافعين اكفهم بالدعاء لولادة قصيدتي
وبمجرد أن يلوّح في الأفق خيالها
تطلُّ على المعنى بثوب شفيف من التشبيه
يتلمظ الشباب طمعاً في تورية
بينما يتفقد الشيوخ طباقها وجناسها بنظرات ثاقبة
حينها يبتسم المعنى منّشدهاً لمرآها
يتواعدان على لقاء حداثوي فوق خطوط الورقة
لكن الكلمات تمانع
تبني جدراناً من نظريات نقدية
فتضيق دروب البوح تضيق
تضيق
تضيقْ
تُغلقُ مخيلتي بهدوء
وتعود الفكرة للرأس
………..
في تلك الساعة
تصيب العالم دوماتَ تلاشي
العمال يرفضون استلام رواتبهم
الفلاحون يتركون حقولهم للأدغال
النساء تتعطل عن مواصلة الحديث
الحوامل تُضربُ عن إنجاب الأطفال
الصغار يجمعون هدايا العيد ويرمونها تحت عجلات (السيارات)
حكامنا يكرهون مناصبهم بشدة
الملوك يبيعون تيجانهم بأسواق الخردة
معلمو الجغرافيا يمزّقون خارطة العالم ويرمونها في سلة المهملات
معلمو القواعد يخبئون الضمة في فتحة السقف ويكسرون السكوّن بضربة على السبّورة
تمزّق أكياس الطحين نفسها وتختلط بالتراب
الطيور تكسّر أجنحتها وتقلع عن الطيران
الفئران تدخل أسراباً لأفواه القطط الجائعة
النقود تبيع نفسها بالمزاد العلني
تلمُّ الشوارع اسفلتها تحت إبطها وتلوّذ بالهرب الى أقرب صحراء
الوقت ينسى ضبط ساعته
(يزعل) البحر من موجه ويترك السمك دافناً رأسه بالطين
القمر يغطّي جسده بعباءة الليل ويرّتجف
تتجمد الأمطار في رحم الغيوم
شمس تموز تختبئ في ثقب الأوزون تاركة الثلج ينمو على لحيته ورأسه
ناطحات السحاب تضّرب رأسها بالجدران لهول الكارثة
تصّغر المدن حتى لتدخل من سمّ الخياط
تتساقط الجبال على الجبال
تضيق عليَّ غرفتي
يتآمر ضدي
السقف … الجدران…الكرسي…. الطاولة…. المروحة …. أرض الغرفة…. زجاج
الصورة…. النافذة …. ستائرها…. ملابسي ….. أنفاسي،
يتعكر صفو الدنيا،
يتغير قياس الذرات،
أتلاشى منزوية،
اسحب ورائي آهات متكسرة
تاركة قلمي
ينتحر في بياض الورقة!

ثانيا – القراءة

غياب القصيدة.. هل هو صمت أم زلزال إبداعي؟
شاعر يبحث عن الكلمات، فلا يجد سوى الريح تكتب على الريح، والماء ينزلق على الماء، والموسيقى تذوب في الصمت.كما يقول محمود درويش: “أنا لا شيء يعجبني، سأترك نافذتي مفتوحة”، وكأن الورقة البيضاء في قصيدة فليحة حسن “حينما لا تحضر قصيدتي” هي هذه النافذة، انتظارٌ لحضور مجهول، حيث يتحول الصمت إلى كيان ثقيل يفرض وجوده، تماماً كما يتحول الصمت عند درويش إلى موقف وجودي وليس مجرد غياب للكلمات.
هكذا، يصبح غياب القصيدة ليس مجرد فراغ بل سؤالاً وجودياً، حيث يتشابك الحضور والغياب في لعبة الكتابة ذاتها. لكن، هل غياب الإبداع هو مجرد أزمة عابرة، أم أنه جزء من لعبة الكتابة نفسها؟

تفكك الجملة الشعرية: بين الصمت والتوتر

تعتمد الشاعرة على تفكيك البناء النحوي لخلق إحساس بالتوتر والاختناق، حيث تتحول الجمل من تراكيب كاملة إلى مقاطع متقطعة تنتهي بالفراغ. مثلاً، في:

“لكن الكلمات تمانع
تبني جدرانًا من نظريات نقدية
فتضيق دروب البوح تضيق
تضيق
تضيقْ”

يتجسد هذا التفكك من خلال التكرار التدريجي للفعل “تضيق”، حيث يتقلص الفضاء اللغوي شيئًا فشيئًا، حتى يصبح مجرد نقطة صامتة. هذا البناء يعكس شعوراً بالعجز المتزايد، حيث تتحول اللغة من وسيلة للتحرر إلى قيد خانق.

كذلك، نجد توظيفاً ذكياً للوقفات المفاجئة، مثل:

“تاركة قلمي
ينتحر في بياض الورقة!”

الفعل ‘ينتحر’ هنا يأتي كسقوط حر في الفراغ، يعكس مأزق الشاعرة في لحظة العجز.بهذا التفكك اللغوي، تصبح القصيدة فضاءً ممتلئاً بالتوتر والاحتدام، بين الأمل في ولادتها واستحالة تحققها، مما يضعنا أمام ثنائية ضدية معقدة، حيث تصبح القصيدة ذاتها بين الحضور والغياب.لكن، هل هذا التفكك اللغوي مجرد تقنية تعبيرية، أم أنه يعكس صراعاً أعمق بين الشاعرة والكلمات؟ هنا، تظهر الثنائية الضدية كعنصر مركزي في بنية القصيدة.

الثنائية الضدية: بين الاحتفاء بالقصيدة واستحالة ولادتها

تقوم بنية القصيدة على تضاد حاد بين حالتين متناقضتين: لحظة الترقب المليئة بالأمل، مقابل الاستحالة المطلقة للكتابة. في البداية، تبدو الورقة وكأنها مسرح لاحتفال مقدس، حيث يتشكل النص بين يدي الشاعرة، لكن سرعان ما ينقلب المشهد:
“لكن الكلمات تمانع… تبني جدرانًا من نظريات نقدية… تضيق… تضيق… تضيق”
التكرار هنا لا يعبر فقط عن انغلاق اللغة، بل يشبه دوامة تقود نحو الفراغ. وكما يرى أدونيس: “القصيدة تأتي ولا تأتي، كأنها الريح، أو كأنها حلم يتبخر عند أول ضوء. هذا يتقاطع مع بنية قصيدة فليحة حسن، حيث تتحول الكتابة إلى لعبة شد وجذب بين حضور القصيدة وغيابها. إنها ليست مجرد أزمة لحظة، بل جزء من طبيعة الشعر ذاته، حيث لا يستطيع الشاعر استدعاء القصيدة متى شاء، بل عليه انتظارها كما يُنتظر الوحي الشعري.

اللغة المتمردة: حينما تصبح الكلمات كائنات حية

في هذه القصيدة، الكلمات ليست مجرد أدوات محايدة، بل كائنات تمتلك إرادتها الخاصة، ترفض الامتثال وتقاوم الشاعرة، وكأنها سلطة مستقلة.
“معلمو القواعد يخبئون الضمة في فتحة السقف، ويكسرون السكون بضربة على السبورة”
هنا، نرى اللغة كعنصر ديناميكي يتجاوز دوره التقليدي، ليصبح جزءاً من الصراع الوجودي للشاعر مع النص.

الشفرة السريالية: اختلال النظام الواقعي وتحطم المنطق

حينما تفشل القصيدة في الحضور، لا يكون التأثير داخلياً فحسب، بل يمتد ليشمل العالم بأسره. تتبنى فليحة حسن نهجاً سريالياً، حيث تنهار القوانين المألوفة للأشياء، ويتحول الواقع إلى مشهد عبثي:
“العمال يرفضون الأجور، الفئران تدخل أسرابًا لأفواه القطط الجائعة، المعلمون يمزقون خرائطهم”
هذا الانقلاب في المنطق يعيد للأذهان أعمال سلفادور دالي، حيث تتحول الحياة إلى مسرح للفوضى.

الإيقاع الموسيقي: بين الهدوء والفوضى

تمتلك القصيدة إيقاعاً درامياً يتطور تدريجياً. في البداية، يكون الإيقاع هادئًا، لكن مع مقاومة الكلمات، يتحول إلى تصعيد متوتر، يعكس اضطراب الشاعرة:
“تضيق… تضيق… تضيق”
يشبه هذا الإيقاع ضربات سريعة على آلة وترية، قبل أن يصل إلى الذروة في لحظة انهيار العالم، ثم ينتهي بنغمة خافتة، حيث يسقط القلم في بياض الورقة، وكأن الصمت هو النهاية المحتومة.هذا التصعيد التدريجي في الإيقاع لا يؤثر فقط على تجربة الشاعرة، بل ينعكس أيضاً على إحساس القارئ الذي يجد نفسه محاصراً في إيقاع متسارع، كأن القصيدة تجره إلى دائرة مغلقة من الصمت والتكرار المتوتر.

اللغة المتحركة في القصيدة

في قصيدة “حينما لا تحضر قصيدتي”، لا تبقى اللغة في حالة ثابتة، بل تتحرك بين فضاءين متناقضين: الانفتاح في البداية، حيث الكلمات توشك أن تتدفق بحرية، والاختناق في النهاية، حينما تنهار اللغة داخل نفسها.

في البداية، تبدو الجمل طويلة، ذات إيقاع متهاوٍ، وكأنها تتهيأ للانسياب:
“يتحلق القراء حول الورقة، يتنفسون ببطء، ينتظرون أن تنبثق الحروف مثل ضوء خافت…”

لكن مع تصاعد الأزمة، تصبح اللغة أكثر ضغطاً، الجمل أقصر، الإيقاع أسرع، والفراغات داخل النص تزداد، كما في تكرار:
“تضيق… تضيق… تضيق…”

هذا التحول في حركة اللغة يعكس الصراع الداخلي للشاعرة، حيث تنتقل الكلمات من حالة الاستعداد للانطلاق إلى الوقوع في أسر الفراغ. وكأن اللغة نفسها تتحول من تيار متدفق إلى جدران نصية مغلقة، ترفض أن تفتح أبوابها للشعر.حينما تصل اللغة إلى حد التمرد الكامل، لا يتوقف التأثير عند الكلمات فقط، بل يمتد إلى بنية المشهد الشعري ذاته، وكأننا أمام مشهد سينمائي يتغير مع تصاعد التوتر.

البنية السينمائية: من مشهد ثابت إلى انهيار درامي

تبدأ القصيدة بلقطة ثابتة: الشاعرة أمام الورقة، صمت ثقيل، انتظار… ثم، مع تصاعد الأزمة، يتسارع إيقاع المشاهد، وكأننا أمام “مونتاج سريع: “الملك يلقي بتاجه في السوق، الأطفال يرمون هداياهم تحت عجلات السيارات، الطيور تكسر أجنحتها.” هذا التصاعد الدرامي يقترن بإيقاع موسيقي متوتر، ربما مقطوعة بيانو متكررة كأعمال فيليب غلاس، حيث تبدأ بنغمة هادئة، ثم تتسارع إلى ذروة توتر، قبل أن تتلاشى فجأة، كما يتلاشى العالم مع غياب القصيدة.

تمرد القواعد: عندما تصبح اللغة جزءاً من الفوضى

لا تقتصر الأزمة على غياب الكلمات، بل تتغلغل إلى النظام اللغوي ذاته. القواعد النحوية لم تعد ثوابت، بل تتحرك في حالة تمرد: “القواعد تنكسر، الضمائر تفرّ من الجمل، والفواصل تفقد وظائفها”. هنا، تصبح اللغة نفسها جزءاً من الفوضى، وكأنها تعكس عجز الشاعرة عن السيطرة على النص، أو ربما رفض اللغة للخضوع لمحاولة الترويض الشعري.

الإبداع واللاوعي: هل نكتب حين نريد أم حين تختار القصيدة؟

في اللحظة التي تغيب فيها القصيدة، لا يكون ذلك مجرد غياب نصي، بل هو توقف في تدفق اللاوعي الإبداعي. الشاعرة لا تعاني فقط من مقاومة اللغة، بل من مقاومة داخلية تجعل الذاكرة الفنية معطلة مؤقتاً.
وهنا يمكن طرح تساؤل:
هل الشاعر سيد كلماته، أم أنه مجرد وسيط لرسالة لم يخطط لها مسبقاً؟

القصيدة الغائبة… إبداع لم يكتمل؟

حين يسقط القلم في بياض الورقة، لا يكون الصمت مجرد غياب، بل احتمالاً لميلاد مؤجل. فالقصيدة التي لم تكتب قد تكون الأعمق أثراً، لأنها تظل مفتوحة على كل الاحتمالات، تحمل في فراغها توتر المعنى الذي لم ينطق بعد. ربما يكون غياب القصيدة شكلاً آخر من الحضور، حضور لا يقاس بالكلمات، بل بما تتركه من أثر في ذهن الشاعر والقارئ معاً. فهل الإبداع لحظة نكتبها، أم لحظة تهرب منا، تاركة أثرها في بياض الورق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى