هالة أقل.. قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني | فلسطين
البيت الكبير فارغ إلّا من صدى الأصوات التي لا تبرح سمعه ولا تغادر الفضاء المحيط به. يجلس على الفراش متكئاً على الوسادة الموضوعة فوق مسند صلب ما يجعل الاتكاء عليهما معاً مريحاً جداً بالنسبة له.
يجلس مرتاحاً مقتنعاً بأن هذا الفراش وثير جداً، فرشة الصوف المنجّدة حديثاً بوجهها ذي الرسومات الزاهية الألوان، ومقتنع بذلك على الرغم من أنه لم يجرب غيره من فراش البيوت القريبة أو البعيدة.
يعتقد بكل جوارحه أنه أفضل فراش في محيط القرية دون أن يسمح لبعض هواجس الغيرة، التي بدأت تراوده أخيراً، أن تخرق هذا الاعتقاد. لكن الهواجس هاجمته اليوم، دفعها بقوة فارتدت إليه ككرة ارتطمت بالحائط. تكاثرت من تلك الكرة كرات كثيرة، شتم الأصل الذي نبتت منه هذه الكرات، شتم أصلها وفصلها، شتم صديقه الذي فجّر بحديثه قبل قليل نافورة الكرات هذه.
الحديث الذي نقله الصديق عن أمه التي زارت ذلك البيت في طرف القرية والمحاط بسور عالٍ عندما ذهبت لتعمل لدى أصحابه، أسهب صديقه بوصف تفاصيل العز الذي يعيشه أهل ذلك البيت.
تضايق كثيراً من الكرات التي ترتد من حائط إلى آخر داخل البيت وفي اتجاهات متعددة. أصبح مسكوناً بهاجس الخوف من هذه الكرات، يخاف أن تضربه إحداها في وجهه أو أن تغير مسارها لتضرب الحائط الآخر حيث توجد دائرة كبيرة من الهالة التي تنتشر حول الصورة الكبيرة الموضوعة في إطار محيطه من الخشب العريض الذي كان في يوم من الأيام ذهبي اللون، هالة يراها كلما نظر إلى الصورة كأنها أشعة يخرج كل شعاع منها من الصورة الكبيرة المؤطرة التي يسهب جده في وصف محاسن صاحبها، وجهه المستدير النوراني، فروسيته، وشاربيه اللذين يمتدان بأبهة لمسافة خارج دائرة وجهه، وعينيه اللامعتين كعيني صقر. تكاثرت الكرات فبدأ يحرك يديه في كل الاتجاهات ليدفعها بعيداً، كما يهش الذباب أو موجات حشرات البرغش التي تهاجم الناس في أيام القيظ، تعمل يداه بنشاط ليبعد الكرات التي تتردد في ارتداداتها بين الحائطين ليحمي وجهه، ولكنها أصبحت أكثر خطراً من الذباب والبرغش، إنها الآن كالدبابير التي انطلقت بعد أن استفزها بتحريك عشها بعصاه بتحريض من ذلك الولد نفسه.
عدّل من جلسته وخفّض رأسه ليصبح أبعد ما يمكن عن مستوى حركة الكرات. ضربت إحدى الكرات اللوحة فاهتزت اللوحة اهتزازاً قليلاً، فصاح ألماً كأن حجراً أصاب رأسه، ثم تتالت الكرات التي تصيب الصورة المؤطرة فلم يصمد الزجاج الذي يحميها، تهشم وسقط على أرض البيت شظايا كان لاصطدامها بأرض البيت دويّ ملأ أذنيه كأنه انفجار قنبلة، ووصلت بعض الشظايا فراشه.
تفقد نفسه، كان كل شيء في جسمه سليماً.
أغمض عينيه وأمسك رأسه بيديه. هدأت الكرات.
رفع يديه عن رأسه، فتح عينيه واتجه نحو الحائط ليتفقد الصورة التي أصبحت عارية من زجاجها، فاقترب منها يتفحصها بعين يملؤها الرعب على مصيرها بعد انفجار الزجاج.
اقترب ودقق في الصورة، صدمه المنظر، كانت قديمة باهتة الألوان، وكان الوجه مستطيلاً دون محاسن تذكر، وكانت العينان ذابلتان تحت حاجبين أبيضين كثّين وخاليتان من اللمعان الصقريّ.
تراجع إلى الخلف عدة خطوات مصدوماً، فرك عينيه بقوة معتقداً أن العيب فيهما وليس في الصورة، هدّأ من روع نفسه لدقائق بقي فيها مطرقاً ومغمض العينين أملاً في أن يريحهما على أمل أن تعود لهما القدرة على الرؤية السليمة.
تقدم مرة أخرى من الصورة بخطوات بطيئة، يملؤه الأمل بأن يعود للصورة ألقها وألاّ يتكرر الرعب الذي أصابه في المرة الأولى.
عيناه لم تكذبا في المرة الأولى، الصورة باهتة، والوجه مستطيل وليس باستدارة البدر، والعينان صغيرتان ولا لمعان فيهما، والحائط الذي ظلت الصورة معلقة عليه معتم وليس هناك هالة تحيط بالإطار الذي خسر زجاجه.
تراجع مرة أخرى بخطى ثقيلة تحمل جسداً متعباً يعلوه رأس يضج بأمواج متلاطمة من التفكير، الصورة القديمة تحاول الرجوع عبر الأمواج لكنها تغرق، والصورة الجديدة تتقدم كما هي محمولة على موجة تحيط بها علامات استفهام كبيرة، تختفي مع الموجة العابرة لتعود مع موجة جديدة تتقدمها علامات الاستفهام.
ألقى نفسه على الفراش الذي تركه، أحس بقساوة الفراش، لم يستطع أن يمد جسده ويتكئ على الوسادة، ترك الفرش واتجه نحو الباب المؤدي إلى فناء البيت.
خرج وجلس تحت شجرة التين الكبيرة في فناء البيت في انتظار أبيه ليسأله بعض الأسئلة، وسرّح نظره في الأفق الغربي مراقباً سرب سنونو يتفنن في عمل تشكيلات في طيرانه على خلفية ضوء شمس الأصيل.
أعطاه جو الغروب بعض السكينة، ولكنه ارتجف خوفاً حين رأى للحظة أن رف السنونو تحول إلى كرات تتجه نحوه. نفض رأسه بقوة وصرخ “لا…لا…لا”، استدار وظل يردد لاءات متتالية متصاعدة في شدتها.
هدأ وأعاد النظر نحو الغرب، كانت الطيور في السرب واضحة على خلفية الأفق الغربي، لم تعد الطيور مجرّد أجسام سوداء تسبح في الفضاء، رآها طيوراً واضحة بكل التفاصيل، حتى أنه رأى عيني الطائر من هذه الطيور تلمع خلف منقاره، ورأى تفاصيل الجسم الذي ينطلق منه جناحان مفرودان على اتساعهما وفي نهايته ذيل بشعبتين.
سرب السنونو يبتعد وينعطف نحو الجنوب وظل يبتعد حتى اختفى.
ظل يستحضر صور تشكيلات طيرانه ويتأملها كأنها ما زالت حاضرة أمامه، تساءل منذ رآها في طفولته عن سر هذه الحركات في أسراب السنونو التي تأتي مرة في السنة ولم يجبه أحد، ولم يجد في الكتب جواباً شافياً عندما كبر.
بعد قليل عاد السرب، ظهر من أقصى الجنوب نقاطاً صغيرة تكبر تدريجياً حتى أصبحت مقابله في الجهة الغربية، أصابته الدهشة “ما هذا؟”.
كان كل طير في السرب يحمل بمنقاره كرة صغيرة. قام السرب بالطيران بتشكيلاته المعتادة، ثم اقترب باتجاهه حتى أصبح فوقه. بدأت الكرات تتساقط صغيرة ثم تكبر تدريجياً أثناء سقوطها، التصق بالجدار خوفاً من سقوطها على رأسه، عندما وصل بعضها الأرض لاحظ أن سقوطها لم يكن قوياً كما كان يتوقع، مدّ يده وتلقف إحداها قبل أن تصل الأرض، أمسك بها فوجدها كرة ناعمة، لم تكن كما تصورها عندما كانت تملأ فضاء البيت وهشمت زجاج إطار الصورة، تلاشى خوفه منها فأخذ يركض يتلقفها بيده اليمنى دون خوف بينما يمسك بيده اليسرى طرف قميصه الفضفاض جاعلاً منه كيساً يضع فيه الكرات التي يجمعها.