درويش أو الدخول إلى معبد الخراب المقدس
نداء يونس | فلسطين
ميراث لغوي وشعري ومعرفي سائل لا يمكن بحال تجاوزهُ أسس لمرحلة فاصلة لما قبل ولمن بعد، لهذا تجاوز الجغرافية والتاريخ والزمن بسلاسة وكثافة وتجاوز اللغات والقوميات والشعر والنقد، هذه محاولة لوصف نص لمحمود درويش وأثره الفراشة.
لماذا كنت اخاف درويش في حياته، لماذا كنت رفضت بالمطلق أن أحضر أمسياته في رام الله، وكنت تجنبت التقاط صورة فوتوغرافية معه حين صادفته في احدى شوارعها؟ لا أعلم، لم يكن موقفي هذا مفهوما لي ولا يزال، لكنني اذ استحضره في ذكرى رحيله العاشرة، فانني مضطرة الى التنويه بأنني لم أكن صديقة لدرويش: لم أعرفه شخصيا، لم أشرب القهوة في بيته، ولم أجلس اليه في مقهى نأكل السلمون الذي كان يحب مع بعض المشروب الفاخر ولم أحضر طلاقه لزوجته الثانية في مقهى صغير في باريس، أمام حضور عشوائي مرتجل، لا يشبه نصه الشعري او النثري.
لماذا درويش؟
منذ الوعي الأول على شعره، أدركت قدرته على ان يؤسس لفوضى شديدة الجاذبية حيث تتسلل اللغة المجازية خارج منطقة الشعر الى فضاء انساني يسقط فيه شكل البلاغة القديمة انما ليس شعريتها او أدواتها، وحساسيتها تجاه المدهش. شعرية الادب هي ذاتها اللغة كما يقول رولان بارت، اللغة في نسقها واستعاراتها وفي بناء النص ورؤياه، ومن هذا التعريف المبتكر للشعرية، يمكن القول بان النص الدرويشي استطاع ان يشكل فضاء ارتطام للشعراء والنقاد والقراء.
الارتطام هنا ليس نمطا بلاغيا ولا احد الادوات الشعرية فقط، اذ يصبح للنص الذي ليس نقيضا للذات الشاعرة، وللثقافة الجوانية التي لها ألق لا يقاوم وللوعي الممتزج بالعبث الطفولي استطالات كما تصير القصيدة انبوب اختبار قابلا للانفجار، هكذا، فإن الشاعر كما قصيدته ودرويش كما نصه يذهبان أبعد للتأسيس لتوظيف بُنى “الخراب” أو القصية النثرية وأدواتها – كما اصطلح المدرسيون على وصفها – في النص الشعري.
يدرك درويش أن البناء لعبة تركيب للفوضى وأن الموهبة تعني توظيف أدوات من زمن لم يأت وهو الذي يقول” فالقصيدة/ زوجة الغد وابنة الماضي، تخيم في/ مكان غامض بين الكتابة والكلام”; فأي بناء دون تفكيك واي خلق دون تجريب واي استحضار للتمثلاث المعرفية والجمالية دون استدعاء لزمن قادم يمكن أن نسميه الشعر الذي يعني بمدلولاته الرؤية والاستشراف والدهشة! ان ادراك هذه اللعبة لشعر يحمل مراياه بيديه ويرى الماوراء وهو مغمض العينين ويتحرك في المنطقة الخطرة يجعل فكرة الاقتراب من نار الاوليمب التي ليست ابدا “نارا باردة” كما يقول الشاعر العراقي شوقي عبد الامير في مقام آخر “يلهو بها الانبياء” مربكة وربما تفسر تلك المسافة التي احتفظت بها مع الشاعر. ان دخول معبد للخراب المقدس ليس أمرا سهلا.
النص الشعر– نثري
يرتكز النص الدرويشي على ثنائيات متضادة تخلق حالة جدَّةٍ معرفية قائمة على المزاوجة احيانا كثيرة بين النقائض وبعيدا عن الرتابة الشعرية والمتوقع، بل ان درويش يميل أحيانا الى المزاوجة بين الشعر والنثر مرتكزا على – وليس هذا فقط- ما يمكن ان نسميه احيانا بحوار القرين ” أين كنت اذا؟ قال لي: كنت….” ويقوم بذلك من مسافة شاهقة بين الوعي والعبث والمعرفة والعاطفة وابتكار الصورة المجازية المذهلة في السياق النصي النثري الاقرب الى العادي البسيط وبين كونية القصيدة وتفاصيلها التي تبدو كالسير في نفق اللاتوقعات والتفاصيل مضيئة، ما يجعل للقصيدة سلوكا واضحا ومربكا في آن وحيث يقول لهذه المزاوجات الاسلوبية النثرية والشعرية “طيرا معا/ كجناحي سنونوة تحملان الربيع المبارك” و”بلا قمر للبلاغة”.
الانتقال الحر المؤسس في فضاء النص الشعر- نثري هو ارتطام خارجي ومباشر بالمحاولات المدرسية لفرض تعريفات ايدلوجية معرفية لماهية الشعر من جهة ولتعريف النثر من جهة أخرى كشكلين منفصلين الى الأبد، كما يؤسس لتخريب محاولات فك النسقين الكتابيين عن بعضهما، اذ لجأ درويش وعن وعي مستشرف- من خلال ممارسة فعلية طبيعية وتلقائية للنص الدرويشي تنحاز للجمال وللحاجة الواعية العابثة- الى توظيف المعرفة في سياقات اعلى من الاكاديميا في فضاء النص الشعري بكل ثقله من الغموض والعرفانية والموسيقى وف فضاء النص النثري من خلال توظيف مقصود واوسع للنثر وأكثر غنى بما يشوش وظائفية النثر والشعر المعتادة والمحددة، وتقديمهما معا بما يضيف معنى جماليا للنص من جهة وتوظيفا ابعد من النسق المدرسي في التعامل مع الجمال.
تؤسس سلوكية النص الدرويشي لحالة اشتباك فعلي وتخريب لما يتم تقديمه من تعريفات النثر والشعر، كما تبني لشكل أعلى ولا محدود للجمال والذائقة الشعرية من خلال الحضور المحض خارج عباءة اللغة وحدها، وبعيدا عن ممارسة الكتابة ذاتها، كما يقول بول رومتور.
أدوات للخراب
ان تقليد البناء اسهل من تقليد الخراب، لهذا يتعثر الذي يحاولُ النص الدرويشي بالسيولة الشفاهية وفيزيائية النص وحرارته وتلقائية العارفة وانزياحاته المفاجئة في الغة كما في– وعلى سبيل التمثيل فقط- شطرته الشعرية التي يقول فيها “القريبة من حدود الله” وحيث يتنفس النص بين الفيزيائي العادي الدلالي لكلمة حدود مثلا وبين الروحاني المفاجئ اللامكاني في كلمة الله والتي تؤدي بالقارئ الى الاستقرار لكن في اللامتوقع، او وفي انزياحات القافية داخل النص الشعري والتي تكسر غنائية النص من داخله بازاحتها الى منتصف الشطرة الشعرية او من تحريك/ تسكين الحروف الاخيرة للقافية المكررة لخلق تواصل يكسر الاستمرارية التقليدية للقافية آخر الشطرة الشعرية او تحقيق تهدئة غنائية كما في “أما ظلّك، فلم يتبعك ولم/ يخدعك، فقد تسمّر هناك وتحجَّر، ثمّ اخضرّ كنَبتة/ سُمسم خضراء في النهار، زرقاء في الليل. ثمّ نما وسما/ كصفصافة في النهار خضراء، وفي الليل زرقاءُ” أو كما في “الطريقُ طويلٌ إلى أين؟ مرتفعاتٌ/ ومنخفضاتٌ. نهارٌ وليلٌ على الجانبين/ شتاء قصير وصيف طويل. نخيلٌ/ وسروٌ، وعبّاد شمسٍ على الجانبين”. كما استخدم ادوات أخرى مثل الاسماء الاعجمية او الارقام أو غيرها من أدوات لخلق الانزياح بما لا تتسع المساحة لذكرها.
شاعرا أم ناقدا
كان درويش صرح في حوار معه أنه لم يعرف ان يكتب قصيدة نثرية”، لكنه بالاضافة الى نصوصه من 1995 وحتى 2005، مثل الجدارية وكزهر للوز او ابعد او لماذا تركت الحصان وحيدا او لا تعتذر عما فعلت، وكما في أثر الفراشة الذي يطلق عليه “يوميات” وفيه 126 نصا منها 46 نصا موزونا، لم يدمج درويش الموزون منها والغير موزون في نص واحد كما فعل في حضرة الغياب الذي اسماه “نصا”، وحيث لا يميز القارئ اين ينتهي الشعر واين يبدأ النثر، قام درويش في انتاجه الشعر-نثري بالجمع بين الوزن والسمات الاسلوبية لكتابة النثر من خلال أداتين: الايقاع الداخلي الذي يخلقة تجانس المفردات وتكرار الحروف، والايقاع الخارجي الذي يتحقق من خلال الوزن والقافية مستلهما التجربة الفرنسية. ربما كان الشاعر يخشى تخريب الشعر من ممتهني كتابة الاسطر وتوزيعها وتسميتها بقصيدة النثر، الا ان ما قدمه من قصائد نثر ممتزجة او منفصلة عن قصائد التفعيلة التي كتبها، تؤكد أن درويش كان يمارس الخراب الخالق او الواعي بانتقاله من النثر الى الوزن بينما كان يمارس نقدا للاستسهال ويحذر منه سواء من خلال استخدامه المقصود للعناوين الموازية لدواوينه أو محاولة التهرب من الاعتراف من معرفته بكتابة قصيدة النثر في أكثر من لقاء صحفي.
تمكن درويش من توظيف بنى الخراب او قصيدة النثر في النص الشعري من خلال كتابتها بأدواته والتعبير عنها: شعريا كأسلوب ونسق ورؤية وسلوك، ونقديا كمجابهة نقدية استشرافية لامكانيات تخريب الشعر، وبهذا مارس درويش الشعر كموهبة والنقد كمدرسة وخرج من اطار النظرية الى التطبيق الحر للجمال بما يقدم للشعر كممارسة جمالية متحركة وحيَّة وليس كتنظير ثابت وللشاعر كصانع وليس كمتلقٍ وللشعر كأنبوب اختبار وليس كعنصر كيميائي خامل.