الوجود الإنساني بين الحب والتملك

أ.د. / رأفت عبد الباسط محمد قابيل

أستاذ علم النفس بكلية الآداب بجامعة سوهاج – مصر

  لا ترتبط جودة الحياة الإنسانية بما يمتلكه الإنسان من متع الحياة بقدر ارتباطها بقدرته على الحب، وتصالحه مع نفسه والأخرين والمجتمع الذي ينتمي له، ويعيش فيه، فجودة حياتك الإنسانية إذن تبدأ بما هو في داخلك، بمدى إحساسك بالسلام الداخلي والاطمئنان والرضا والسعادة وراحة البال والسكينة والمحبة، وليس بما تمتلكه من أشياء مادية ثمينة أو غير ثمينة تكمن خارجك، في بيئتك، أو بيتك أو مكان عملك أو مكان ترحالك.

  فالإنسان هو وجود في العالم Being in the world إلا أن وجوده ليس فقط وجود مادي-جسدي، وإنما أيضاً وجود إنساني-روحاني مشروط بقدرته على الحب، بقدرته على أن يُحٍب ويُحَب، وأن يأنس ويُنس به، فالقدرة على الحب هي التي تضفي، وتعطي لهذا الوجود الإنساني معنى وقيمة، فالوجود الإنساني يفقد معناه وقيمته لو فقد هذا الوجود الحب بمعناه الحقيقي الذي يتضمن معرفة حقيقية بالأخر، والاهتمام به ورعايته، والرغبة في العطاء، واشباع احتياجاته، واحترام خصوصيته.

   وجدير بالذكر أن هناك – وللأسف وهم كثر-من يربط وجوده، واحساسه بقيمته ووزنه في الحياة بما يمتلك، ولسان حاله يقول، ويردد ” أنا أمتلك إذا أنا موجود ” ” واللي مامعوش ما يلزمناش “، ” وقيمة الإنسان بما في جيبه” وكأن قيمة الإنسان تتحدد وتقاس فقط بما يمتلكه من مال أو ثروة أو منصب، أو جاه، أو جمال جسم أو مظهر.. متناسين أن قيمة الإنسان تكمن في حفاظه على انسانيته المشروطة بقدرته على السمو والعلو وتجاوز تلك الحالة المادية والجسدية والشهوانية، وأن يكون في حالة من التسامي والسمو والمحبة والتصالح مع ذاته والأخرين والمجتمع الذي ينتمي له.

    إن معيار الله وتقيمه لك كإنسان هو ليس بما تمتلكه من متع الحياة، وإنما بمقدار محبته لك، فمعيار الله هو الحب، وحب الله، ونيل محبته ورضاه يجب أن يكون هو غايتنا، فانت في الحقيقة لا تملك شيء لو افتقدت حب الله لك حتى وإن ملكت الدنيا، وما فيها، فمن فقد حب الله فقد الدنيا والأخرة، ومن يعيش في معية الله، وينل محبته ورضاه يمتلك كل شيء.

   إن محبة الله سبحانه وتعالى – وليس امتلاك متع الحياة – هي المرتبة التي يجب أن نتنافس فيما بيننا لبلوغها لأنها تمثل غذاء الروح، وهي التي تكسب الانسان القدرة على الحب والشعور بالطمأنينة والسكون، وتجنب القلق والخوف والهموم والحزن، وتمده بالطاقة لمواجهة صعوبات الحياة، وتكسبه القدرة على تحمل طباع البشر، وتعينه على أداء أعماله وعبادته سبحانه.

   ومن أهم علامات حب الله للإنسان شعور الإنسان بالرضا، والسعادة، والسلام الداخلي، وزهده في متع الحياة، بحيث لا يجد نفسه فيما يمتلك من مال او ثروة بقدر وجودها في إقامة علاقة طيبه مع أفراد أسرته، وزوجته، وفرحته بأحفاده، وزملائه، وفرحته بتفوق أبنائه، وما يحققه من إنجازات في عمله، ومن أعمال خيرية تطوعية … وهكذا.

  ومن علامات حب الله أيضا للإنسان تواضعه وعدم تكبره على الأخرين ومقدار انكاره لذته، وعدم تعصبه لنفسه أو حبه الشديد لها، وخاصة وأن هناك مواقف تستدعي منا حفاظاً على سلامة علاقتنا بالأخرين ألا نتشبث بذواتنا، أو نتعصب لها، وألا نعتقد بأن ذواتنا دائما على حق، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، أو أنها لا تخطأ متناسين أن طبيعة الإنسان الوقوع في الخطأ والذنب، كما جاء في حديث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ” كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون”. (الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه).

   ومن العلامات أيضاً حب الناس لك، لا أقول كل الناس، وإنما أغلبهم حيث يكتب الله لك القبول في الدنيا، فإذا أحب الله عبداً حبب الله فيه خلقه كما جاء في الحديث ” إن الله إذا أحب عبداً نادى جبرائيل إني أحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبرائيل في أهل السماء: أن الله يحب فلان فأحبوه، ثم توضع له المحبة في الأرض “.

   لا شك أن الامتلاك أصبح هو أسلوب الحياة السائد بيننا، والذي تتبناه الأنا الطماعة الجشعة التي تسعى للاستحواذ دون مراعاة لوجود أخرين، وكلما زادت رغبة الأنا في الامتلاك والاستحواذ كلما تضخمت، وتكبرت، وابتعدت عن جوهرها الإنساني الروحاني، وأصبحت الرغبة في التملك عندها غاية وليس وسيلة، وأصبح التملك في قلب صاحب هذه الأنا وليس في يده، وأصبح التملك أكبر همه ومبلغ علمه، ولم يعد لا يرى إلا نفسه، ولا يتحدث إلا بضمير أنا”، ولا نجده يتحدث بضمير “نحن” الذي يراعي أن هناك أخر يجب الاهتمام به، وإقامة علاقة حب معه قائمة على العطاء، والاحترام، والرعاية والاهتمام، والعمل على إشباع احتياجاته.

   والسؤال الذي أود أن أطرحه هنا ما هي الصفات التي يتصف بها أصحاب تلك الأنا التي تميل إلى حب الامتلاك؟

غالباً ما يدل إظهار عدم احترام الأخرين والتكبر عليهم على حب التملّك، حيث يميل الأشخاص أصحاب الأنا المحبة للتملك إلى إصدار تعليقات سلبيّة اتّجاه الأخرين؛ كالتحدّث بوقاحة، وسخرية، بالإضافة للنقد، وقد يكون الهدف الرئيسي هو إحساس وإشعار الأخرين بأنّهم لا قيمة ولا وزن لهم حيث تنظر الأنا المحبة للتملك للأخر بوصفه نكرة، كما تستخدم الأنا المحبة للتملك أسلوب التهديد؛ حيث تهدد تلك “الأنا” الأخر بإمكانيّة تركه والاستغناء عنه في حالة عدم سماع الكلام أو تنفيذ الأوامر، وغالباً أيضاً تتصف الأنا المحبة للتملك بالسيطرة والرغبة في التحكم في الأخرين، والغيرة عليهم ليس بدافع الحب أو الخوف عليهم، وليس بوصفهم أشخاص مستقلين لهم كينونة مستقلة ولكن بوصفهم أتباع “للأنا”، وكأنهم ملكية خاصة لتلك الأنا العاشقة للتملك، التي تتعامل مع الأخرين كأنهم أشياء وليسوا ذوات مستقلة، وكل هذه الصفات تكون غالباً مصحوبة بتقلب حاد في المزاج والعصبية والتوتر.

   إن تلك الصفات الآنفة الذكر – التي تتصف بها أصحاب الأنا المحبة للتملك، والتي اتخذت من التملك أسلوب حياة لها – تسهم في تشكيل أنماط من العلاقات والارتباطات المضطربة مع الأخرين، والتي إما أن تتأخذ الشكل التسلطي الأناني المتحكم في الأخرين، أو أن تأخذ الشكل التدميري العدائي الذي يلحق الأذى بالأخرين، أو الشكل الامتثالي الخضوعي الذي يجبر الأخرين على سماع الكلام، وتنفيذ الأوامر، والعيش في جلباب الأنا المحبة للتملك، وهى كلها أشكال من الارتباطات والعلاقات الزائفة التي لا تعبر، ولا تؤدي إلى ارتباط إنساني بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة حيث الأنس والمؤانسة، ومشاعر الحب المتبادل، والانتماء.

وجدير بالذكر أن النمط والشكل الصحيح والأصيل واللائق للإنسان بوصفة كينونة مستقله لها احترامها وتقديرها هو النمط القائم على الحب الحقيقي المثمر الذي لا يختلف جوهره عن جوهر حب الأم لطفلها، وحب الأنسان لأخيه الإنسان، والذي يتضمن عناصر أساسية تميزه عن باقي أنواع الحب الأخرى، وهذه العناصر هي المعرفة الحقيقة بالأخر، والرعاية والاهتمام، والعطاء، والاحترام والشعور بالمسؤولية تجاه الأخر، والسعي الجاد لإشباع احتياجاته.

   لا شك أن الفهم الحقيقي لماهية الإنسان، وماهية وجوده الإنساني من حيث كونه وجود متسامي ومتعالي ومتجاوز لما هو مادي وجسدي وغرائزي، وأنه خليفة الله في أرضه هو الضامن الوحيد للحفاظ على جمال إنسانيته وعلاقته بذاته، والأخرين، والمجتمع الذي يعيش فيه إلا أن هذا يتطلب من الإنسان مراقبة ذاته ومحاسبتها، حيث إن الإخفاق في تلك المهمة يجعل الإنسان حبيس جسده ومطالبه، وغرائزه، وشهواته، وأنانيته، وأطماعه ورغبته في التملك دون مراعاة لوجود أخر له حق عليه يجب عليه أن يراعيه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [ الحشر : 18 ]    فالإنسان قوّام على نفسه، عليه أن يحاسبها قبل فوات الأوان، اعتمادا في فعل هذا على قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه” حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى