النورج
د. محمود رمضان
مع أن بنيته القوية تثير الرهبة، إلا أنه يحمل في داخله قلب طفل مبهج رغم تجاوزه الستين عاماً، بابتسامته الفطرية استوقفني، وقال: أنا النورج، أحبه لدرجة توحدي معه، فيه فرحة حصاد الشعير والقمح والعدس والحمص، والنورج لمن لا يعرفه آلة مصنوعة من خشب الجوز، والحديد، تجره بقرتان بعد جمع الفلاحين محاصيلهم في مساحة أرض فضاء واسعة، وهي بمثابة الحصادة الحالية.
كانت هذه الآلة رغم بساطتها، تلعب دوراً كبيراً في حياتنا، وبها كنا نحصل على ثمرة تعبنا لمدة سنة كاملة، في جني محاصيل الحبوب، ويقوم النورج يفصل الحبوب عن قشورها التي نستخدمها في تغذية الأبقار والجاموس.
كنت أقف على خشب النورج وأوجه البقرتين للاتجاه الصحيح، ولم أكن أبالي بالتعب طيلة النهار، منذ الصباح الباكر حتى قبيل الغروب، ففرحة الحصاد تنسي الجميع تعبهم طوال العام، ولا أخفيك سراً أن الحصادة الآلية الحديثة لا تثير في نفسي بهجة النورج.
كنا نضع الزرع المحصود على الأرض على شكل دائرة كبيرة بقطر نحو عشرين متراً، وكان يوضع في منتصف هذه الدائرة وتد ونربط البقرتين بالوتد بواسطة حبل لمنع خروج البقرتين عن هذه الدائرة، وكان الفلاحون يتحلقون حول هذه الدائرة الواسعة لتحريك المحصول تحت النورج، إلى أن ننتهي من محصولنا، فنجمعه في أجولة، لينتقل النورج لحقل جيراننا فنعمل معهم، وبالفطرة النقية كنا نساعد بعضنا البعض، نتشارك في فرحة الحصاد، إلى أن نتم لهم العمل بالنورج على الوجه الأكمل ونعبيء معا محصولهم في أجولة.
الفرحة بالعمل بالنورج كانت مبهجة، فحلقات الفلاحين حولنا، شباباً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً كانت مكتملة، كانت النساء تزغرد والصبايا يغنين، والبهجة تصل عنان السماء.
صوت النورج يمكن أن تسمعه في لحن جميل للفنان المبهج سيد مكاوي، في أغنية كتبها فؤاد قاعود، واسمها زرع الشراقي، تقول:
اتقل فوق عيدانك واكبر يا زرع الشراقي
ده صباحك منور يا اخضر والخير في اللي ساقي
يا صغير يا زرع إيديا أنا ساقي التقاوي غناوي
وهضمك برمش عينيه من كتر اشتياقي
ده صباحك منور يا اخضر والخير في اللي ساقي
نوار الحنان خبيته من خوفي عليه بكفوفي
والعود الجميل حبيته من يوم التلاقي يا عيني
ده صباحك منور يا اخضر والخير في اللي ساقي
يا زرع الصباح يا منور محبوبي هواه
مطلوبي وأنا عندك لحد ما تكبر على عهدك وباقي يا عيني
ده صباحك منور يا اخضر والخير في اللي ساقي.
وتمر الأعوام، ويشتري أولادي حصادة ميكانيكية حديثة، تستغرق ساعات قليلة في عملها، ويؤجرونها لجيراننا في الحقول المجاورة، واختفى النورج من الحقول، واختفت معه بهجة الحصاد إلا قليلاً.. كانت أيام جميلة ورائقة.