د. خالد سالم | أكاديمي مصري
الحديث عن”ابن السّرّاج ” في الأدب الإسباني يحمل المتلقي دائمًا إلى العصر الذهبي في الأدب الإسباني، وبالتالي إلى القصة الموريسكية[1]، خاصة وأن هذا العمل الأدبي، “ابن السّرّاج والجميلة شريفة “، عمل رئيس في أدب تلك الحقبة، التي عكست بشكل أو بآخر، سلبًا أو إيجابًا، الحضور العربي في شبه جزيرة أيبريا، إسبانيا والبرتغال، طوال ما يقرب من عشرة قرون، إذا أخذنا في الحسبان أن هذا الحضور لم ينته بتسليم غرناطة عام 1492، بل استمر إلى حضور ممثل في الموريسكيين، أي العرب الذين تحملوا عناء العيش مضطهدين في الأرض التي شهدت مولدهم، لأجيال طويلة، حتى طردهم نهائيًا في بداية القرن السابع عشر[2].
شهد هذا العصر الذهبي، القرنين السادس عشر والسابع عشر، في الأدب الإسباني ظهور أعمال أدبية مُوَلَّدة، مرآة للتعايش بين الثقافتين العربية الإسلامية والمسيحية في هذه البقعة من أوروبا، حملت الأدب الإسباني الوليد إلى مصاف الآداب العالمية مبكرًا إلى يومنا هذا، من أبرزها دون كيخوتي، ودون خوان مانويل، ولاثارييو دي تورميس[3]، ومسرحيات لوبي دي بيغا، إلى جانب العمل الذي بين أيدينا، ” قصة ابن السّرّاج والجميلة شريفة”، وأعمال أخرى. وهي أعمال تنقل صورة العربي الأندلسي في المتخيل الإسباني، في هذا الفضاء الخيالي الذي صنعته قرائح الكتاب الإسبان اعتمادًا على الخيال تارةً وعلى الوقائع التارخية تارةً أخرى، لكن من منظور المنتصر، المتعالي على الآخر، في أغلب الأحيان، وإن حاول المؤلف جعل المسلم مثاليًا حسب منظور القصة الموريسكية، إذ إنها ولدت في هذا السياق.
إنه السياق الذي شرع في منح المسلم المهزوم بعض حقه، وتعاظم هذا السياق ليصل إلى الرومانسية على المستوى الغربي التي تخللها تيار يستلهم أعمالاً تنتمي إلى هذا الحضور: “ابن أُمية”، لمارتينيث ديلا روسا، “قصيدة غرناطة” لخوسيه ثورّييا، في إسبانيا، و”آخر بني سراج”، للفرنسي شاوتوبريان[4]، و”حكايات الحمراء” للأميركي واشنطن أرفينغ. لم يكن هناك عائق أمام نعت الفرسان العرب بالنبل في مساواة مع نظرائهم الإسبان بموجب روح التيار الأدبي السائد في عصر النهضة. وهو ما سيدركه القارئ لقصة “ابن السّرّاج والجملية شريفة” التي تعود جذورها إلى ما يسمى بالقصائد الشعبية الحدودية وتعالج أحداثًا واقعية، حوادث وقعت على الحدود بين الثقافتين، مع منح الشخوص المسلمين درجة من المثالية، وهو ما يُشاهد في شخص ابن الريس بطل هذه القصة، في قسمها السردي وقصائدها الشعبية، إذ يتصف بالنبل والوفاء بكلمته للإسباني المسيحي وإن عرضته هذه الخصال للحبس والحرمان من الزواج بشريفة، وهو المشروع الذي كلفه الوقوع في الأسر بينما كان ذاهبًا للقائها والزواج بها. وهذه المثالية تشمل طرق حياة المسلمين وملابسهم وعاداتهم. والملفت للنظر أن هذا الجانب الإيجابي عن العرب لا يزال قائمًا في مخيلة الإسبان إلى اليوم رغم التشويش الذي شابها جراء ظروف سياسية ودينية وأخرى تتعلق بدور الكنيسة التاريخي وجماعات التأثير الصهيونية والعمالة المهاجرة منذ تسعينات القرن العشرين.
القصة الموريسكية جنس فرعي داخل النثر السردي ذو طابع مثالي، في إطار النثر الخيالي للقرن السادس عشر، عمل دائمًا على تقديم أبطال مسلمين وفي الوقت نفسه جعل من العلاقة بين المسلمين والمسيحيين علاقة مثالية قائمة على التعايش وكرم التعامل بين الطرفين، وأدخل في هذا العنصر السياسي، إذ أن السلطات لم تكن لتريد حدوث مواجهات مع المسلمين، إذ كانت فترة يعلوها السلم، وكان سلمًا منشودًا في بلد فتي ما شرع يسيطر على العالم الجديد، أميركا اللاتينية التي وصل إليها الإسبان سنة سقوط غرناطة، أي في عام 1492.
يعكس هذا العمل خصائص القصة الموريسكية من مثالية جلية، فهناك تعاون وتفاهم بين الملسم والمسيحي، مع وجود عنصر يقشب العقبات كلها، وهو الحب، حب ابن الريس لشريفة. وهو تيار يحاول إعادة خلق فضائل الفروسية في العصور الوسطى، بدلاً من البعد عنها على غرار دون كيخوتي. وهي بصفة عامة قصص قصيرة مكثفة، مع استثناءات قليلة في هذا السياق خرجت عن هذه القاعدة، من بينها “الحروب الأهلية في غرناطة”. والشخصية الموريسكية تنتشر في أعمال ذلك العصر الذهبي الإسباني والفترة اللاحقة، ولم تقتصر على السرد، بل امتدت إلى الشعر الشعبي والمسرح.
وبحثًا عن المناخ الثقافي لهذه القصة، المجهولة المؤلف، لجأ هذا الأخير إلى شخوص بأسماء وألقاب عربية أندلسية، إضافةً إلى كلمات عربية اقتبستها اللغة الإسبانية إبان الحضور العربي في شبه جزيرة أيبريا، لا يدركها قارئ النص المترجم، بل الأصلي. وتسعى القصة إلى تعايش ممكن بين ثقافتين متنافرتين سنتئذ، في زمان كان يحاول النظام الجديد توحيد ثقافة إسبانيا وافساح المجال أمام المسيحية كي تكون السيطرة لها وتصبح الدين الوحيد في شبه الجزيرة، وهو ما أدى إلى طرد الموريسكيين بشكل نهائي في مطلع القرن السابع عشر. إلا أن هذا التعايش المنشود في “قصة ابن السّرّاج والجميلة شريفة” لم يكن سوى حلماً، يوتوبيا، صعب المنال. ومع هذا فقد تجلت في القصة روح العرفان بفضائل المهزوم، على عكس مسار تاريخ البشرية، و ما كان يخالفت الروح السائدة حينئذ، الأمر الذي وصفه البعض بأنه مغالاة في تمني التعايش بين ثقافتين متنافرتين بسبب ظرف الصراع التاريخي في تلك الفترة الذي ترتب على ما يسمى بحرب الإسترداد، استرداد إسبانيا من أيدي العرب، وهو خطأ تاريخي إذ أخذنا في الاعتبار آراءً أخرى ترى فيها حربًا أهليةً، فهؤلاء العرب والمسلمون توالدوا ثمانية قرون منذ عبور طارق بن زياد المضيق وبدئه غزو شبه الجزيرة.
ورغم هذه المثالية واليوتوبيا فإن واقعًا ملموسًا نجده في هذه القصة، يتمثل في خلفية حقيقية وتاريخية وأحداث شهدتها مملكة غرناطة، إلى جانب عائلتي بني السَّرَّاج والثغريين، ما يثبت أن التاريخ لعب دوره في مسرح “ابن السّرّاج “. لهذا فإنه تمثل مزجًا لعالم الفرسان العاطفي على حدود ثقافتين.
تشكل “ابن السراج والجميلة شريفة” إحدى زوايا مثلث الأعمال المهمة المجهولة المؤلف التي تنتمي إلى عصر النهضة إلى جانب “القوادة”[5] و”لاثارييو دي تورميس”. ولا تزال هناك علامات استفهام حول هوية هذه القصة، تتعلق بتاريخ تأليفها، إذ كانت هناك ثلاث طبعات لها، أبرزها النص الذي ضُمن في القصة الرعوية المشهورة “ديانا” ونشرت في مدينة بلد الوليد عام 1561 وزيد عليها قصة حب ابن الريس لشريفة. ويذهب البعض إلى أن الناشر ضَمّن هذه الطبعة من الرواية الرعوية القصة سالفة الذكر، حب ابن الريس وشريفة، لأسباب تجارية[6].
وعمد هذه القصة مجموعة من الأغاني الشعبية الإسبانية، وهي مجهولة المؤلف وتاريخ التأليف كغيرها من التراث الشفاهي في أي ثقافة. وظلت هكذا إلى أن تناثرت ضمن صفحات مؤلفات أخرى حتى نشرت لأول مرة في منتف القرن السادس عشر. وقد تناقلتها الأجيال حتى القرن الماضي وتغنى بها أهل الريف الإسباني في سهراتهم قبل سيطرة المرناة –قبل وسائل التواصل الإجتماعي!- والتطور الذي طرأ على الحياة في الريف، وهو ما حكاه لي بعض الأصدقاء الذين عاشوا وتغنوا في الريف بهذا الأغاني الشعبية في صغرهم، خاصة في إقليمي قشتالة.
والقصة في موضوعها تبدو للوهلة الأولى بسيطة، فهي تعرض لحكاية ابن الريس، أحد أشراف الأندلس، فبينما كان في طريقه من قَرطمة ، للقاء محبوبته شريفة الجملية التي تعيش في قصرها في كوين، وكان عليه أن يعبر منطقة حدودية معادية، ألورة، بينما كان يطلق عليه الإسبان حرب الإسترداد لا تزال قائمة والطوائف العربية الإسلامية تتنازع على السلطة، اعترضه فرسان مسيحيون يعملون في خدمة عمدة ألورة رودريغيث دي نربايث. وقع صراع غير متكافئ الطرفين، ومع هذا تغلب العربي على الفرسان المسحيين، إلا أنهم استنجدوا “بالبطل” المسيحي، العمدة، الذي تمكن من ابن السّرّاج في الجولة الثانية. وقع ابن الريس في الأسر، وبينما كان الحزن يملؤه نظرًا لأن الواقع الجديد سيحول دون وصوله إلى خطيبته والزواج بها. حكي مأساته للنبيل المسيحي الذي تفهم قضيته وأطلق سراحه لأيام يعود بعدها إلى الأسر. وعملاً بنبله وفى الفارس العربي المسلم بكلمته، فبعد لقائه بمحبوبته وزواجهما عاد إلى العمدة المسيحي الذي أطلق سراحه نهائيًا، بلا فدية، فما كان منه إلا أن أرسل هو وزوجه، شريفة، للمسيحي هدية ثمنية تتناسب مع كرم العمدة الإسباني.
تركت “ابن السراج والجميلة شريفة” أثرًا مستمرًا في الأدبين الإسباني والأوروبي. هذا بالإضافة إلى أن هذا الكتاب كان نقطة إنطلاق لبدء مجموعة نوعية من الأعمال التي عُرفت بالأعمال الموريسكية لتقف على رأسها كلها في مجال السرد. وحظيت بانتشار أدبي طال شخوصها الثلاثة: دون رودريغو وابن الريس وشريفة، ونالوا شعبية واسعة في قصائد الخيال الشعبي في El Romancero . وهو العمل الذي ترك أثره في أعمال إسبانية وأوروبية أخرى، أبرزها دون كيخوته، خاصة الجزء الأول من الفصل الخامس، وهذا ليس مستهجنًا في بطل هذا الرواية الذي أصيب بالجنون بسبب قراءة الكثير من الكتب. وقد أجرى بعض الموازاة بين دولثينيا في دون كيخوتي، وشريفة في هذه القصة الموريسكية. ومن ناحية أخرى اقتبس لوبي دي بيغا حبكة هذه القصة الموريسكية، وهو ما أكده دون مواربة. ثم تخطى تأثير “ابن السراج والجميلة شريفة” حدود إسبانيا لتصل إلى إيطاليا وفرنسا. واهتم الكتاب ذوو الميول الرومانسية بالقرن الأخير من حرب الاسترداد في شبه جزيرة أيبريا، وما تضمنه من صراعات وحروب بين العرب والمسيحيين، بالإضافة إلى الوضع المتقلص للحضور العربي في الأندلس، وما تضمن ذلك من مشاهد وحكايات خيانة وكرم، عنف ونبل، فكانت مادة ثرة لأولئك الكتاب. وهو ما حدث في حالة شاتوبريان في عمله الأكثر تمثيلاً، استلهامًا لهذا التيار والحقبة الأندلسية Les Aventures du dernierAbencérrage الذي كتبه سنة 1826.
وهناك آراء كثيرة حول قصة “ابن السراج والجميلة شريفة”. ولعل من أبرزها كان لبارتولوميه خوسيه غياردو، المعروف بزهده للمديح، إذ قال عنها: هذا العمل يبدو وكأنه كُتب بريشة من جناح ملاك” [7]. ومن جانبه رأى مينينديث بيلايو إن العمل، في نسخته الخاصة ببيغاس، عبارة عن “نموذج لطبيعة حنون، لرق، لحسن ذوق، لمشاعر فياضة ونبيلة، بحيث أنه لا يوجد في أدب لغتنا قصة قصيرة تتفوق عليها”[8].
لقد خيمت الحدود بسحرها بين ثقافتين متصارعتين، لكن المنتصرة كانت تجنح إلى السلم لأهداف سياسية واجتماعية، لهذا تحلت العلاقة بالكرم بين الطرفين، كرم دون رودريغو دي ناربايث تجاه النبيل العربي المهزوم، ابن الريس. وكانت هذه العلاقة جديرة بأن تفسح المجال لصفة أدب الحدود. غير أن المناخ التاريخي للحدود يعيد طرح قضية الكرم، وهي نواة تتعلق بالحبكة بصفة عامة ما يؤدي إلى معالجة جديدة من النوع الأخلاقي والسياسي، فشخوص العمل يعيشون مواجهة ترجع لأسباب دينية حاسمة وتتعلق بالوطن الوليد، إسبانيا، مع سيطرة للموضوع الجوهري في هذا السياق، وهو الكرم.
حاول مؤلف العمل تخصيص مساحة لآثار المواجهة بين بطلي القصة عبر المضاهاة بينهما، وهنا لجأ إلى سن كل واحد منهما، ما يوحي بالتأثير على تصرفات كل واحد انطلاقًا من خصوصيتها، فالمسيحي يتسم بالخبرة انطلاقًا من سنه وظروفه، وفي المقابل نجد العربي شابًا يتسم بالجرأة، فيه بعض النزق، ما يجعله موضعًا للنصح. وعليه يطلق الشاب العنان لعشقه لشريفة فيجرفه هذا العشق ويحول دون التروي والتفكير في العواقب. كلاهما يعمل من منطلق ظرفه الشخصي، ويمارس الفضيلة بموجب وضعه، وكان اللقاء على أساس أن كل واحد في حاجة إلى الآخر ليحقق الكمال الإنساني. لهذا جاء نربايث متشحًا بالنضج والهدوء مقابل ابن الريس نجده في حاجة إلى مساعدته، وهو ما حمله على أن يعرض عليه قصة عشقه ومأزق الوقوع في الأسر يحول دون تحقيق مبتغاه: لقاء محبوته والزواج بها.
هي إذًا حرب الحدود بما تتضمنه من معارك ومناوشات الهدنة. إنها نقطة انطلاق هذه القصة، وهناك تشغل المناوشات الفردية حيزًا من ساحة العمل الذي يتضمن صور الحرب وأحداثها المتواتر. إنها معركة بين مسلم ومسيحي أدت إلى سقوط أحدهما في الأسر، رغم شجاعته وصرعه لرجال الثاني، وهو حادث يومي في حرب الحدود، استغله المسيحي ليظهر ما لديه من فضيلة الكرم. ويعتقد أن التقاليد كانت وراء الربط بين درسي الكرم. والكرم جلي في إطلاق سراح الأسير واحترام امرأة المهزوم على غرار ما كان يحدث في تلك الفترة.
اظهار الكرم في هذا العمل موضوع أساسي، ومحاولة من الكاتب اضفاء طابع تاريخي على هذه الحالة، فالسياق التاريخي كان يسمح بهذا الشيمة، على غرار كتب الفروسية، فهذه حالة فارس حدود، وهو دون رودريغو دي ناربايث الذي تمكن بسبب ظروف الحياة الحدودية بين مسيحيي قشتالة وعرب غرناطة في حقبة المملكة النصرية، وبعد مناوشة حدودية، من القبض عليه، بعد أن أظهر بسالته وقوته القتالية. من كل هذا، وعلى أرض هذا الموقع الحدودي، نسج المؤلف حبكته، ودون هذه الحدود يصعب على المؤلف كتابة القصة.
وفي هذا السياق يقر الناقد وأستاذ الأدب المقارن كلاوديوغيين بأن هذه القصص والحكايات الحدودية لا تقدم المسلم على أنه مسلم، بعيدًا عن النظرة الشمولية للمسيحي. وهذا يحدث لقانون الإبداع الشعري نفسه الذي ينتهي إليه العمل. ويقول إنه ليس تقريرًا تاريخيًا أو إجتماعيًا، بل عملية سرد وُضعت على أساس خبرة جماعية للشعب الإسباني وتشمل المسيحيين والمسلمين، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين كانوا يعيشون في المناطق المتاخمة للحدود، بما في ذلك سكان القصور، وكانت هناك علاقات حرب وسلم متبادلتين صبغت أسلوب حياتهم. لقد اختار مؤلف “ابن السراج والجميلة شريفة” الخيوط السردية للحمة في هذا الوضع التاريخي الخاص بالحدود، ففي القرن الخامس عشر كان الحد في إسبانيا الفضاء الوحيد في أوروبا الذي كان فيه هذا النوع من الحياة[9].
بيد أن لوبيث إسترادا يصر على اقتراب “ابن السراج والجميلة شريفة” إلى الفن القصصي، وأشار إلى الميزات الشكلية. وبهذا فهي مسألة متابعة السرد، أي الشكل الذي يُدرج فيه تطور المحتوى في العمل بمتابعته ذاته. ويلاحظ أن مؤلف العمل يضع في مسار الحكاية حالة حب تؤدي إلى اللقاء بين المحاربين بينما الحل الودي يسير عبر الطرح العاطفي، وهو أمر خاص بالقصة من وجهة النظر العامة. هذه الحالة من الحب جعلت من ابن الريس مسلمًا شجاعاً وعاشقًا فارسًا، ولهذا ضمن القصة أسرار حبه لشريفة في لحظة الذروة.ويقول إن العشاق المسلمين يلتزمون بالقيام بذلك على أكمل وجه، بشكل أكثر نبلاً منه في المسيحية.
والشخصان لهما وجود حقيقي تاريخيًا، فعائلة بني السراج عائلة غرناطية معروفة. يروى عنها أنها نالت منصب مهم في عهد بني الأحمر، في القرن الخامس عشر. وفي قصر الحمراء لهم قاعة تحمل اسمهم، القاعة التي قُتل فيها نبلاء العائلة. أما دون رودريغو دي ناربايث فقد شارك في غزو أنتكيرة فعلاً، ورفاته موجودة في قبر في كنيسة سان سباستيان في أنتكيرة. وهي شهادة حقيقية على واقع – حياة الحدود الأندلسية في القرن الخامس عشر- بُنيت عليه القصة والقصائد الشعبية لحقبتها، وهي مادة ذات طبيعة أدبية. وكلاهما يعمل بموجب قانونه، قانون الجماعة التي ينتمي إليها كل منهما.
لا يوجد في “ابن السَّرّاج” أي نية لتغيير قانون المسلم المهزوم ولا حتى في حالة هزيمة السلاح ولا بعدها، ولا في حالة حرية الزوجين العاشقين. وقعت الأحداث مع حفاظ كل طرف على قانونه. قد يُنتمى إلى قوانين مختلفة، ومع ذلك يتم الإجتهاد كي يتم الحفاظ على الظرف الإنساني تحت لواء الفضيلة، على الأقل بين الأفضل والأكثر تصنيفًا في كل مجموعة. وكذلك في حالة ما إذا استدعت حتمية سياسية قيام المعركة، فإن الفضيلة يمكن أن تؤدي إلى إعادة الإنسجام بين الرجال في أقرب فرصة ممكنة. المعيار الإنساني يفرض نفسه على الآخرين، وهو ما يعمل كمؤشر جودة له، وفي هذه الحالة فإنه هو أهم ما يعمل كأساس للقصة. وكذلك في قيام السياسة بمواجهة الرجال والحرب تمثل إحدى وسائلها، فإن الإعتبارات الأخلاقية يجب أن توجه مسارهم كي يعودوا إلى الصداقة والوفاق[10].
و”ابن السراج” قصة تدور أحداثها على أراضٍ أندلسية- إسبانية، وأحداثها جزء من مجموع تاريخي وثقافي غاية في التعقيد، رغم بساطتها أمام المتلقي العادي. إلا أن عناصر الاختلاف الظاهرية تحقق نموذجية مقعدة رغم سهولة العرض. وقد أراد المؤلف أن يعرض ما كان يحدث عندما كان الرجال يوضعون تحت الإختبار في لقاء بدأ حربيًا وانتهى وديًا.وتحويل الحرب إلى وسيلة للتوصل إلى الصداقة، إحدى تظاهرات السلام، يبدو أمرًا يدور بين فرسان في حيز من الروحانية المدنية: البطل المسيحي يبذل جهدًا من أجل التوصل إلى هذه القمم من الطيبة دون تتدخل بشكل واضح العوامل الدينية، وهو ما يحدث بموجب ومن أجل حالة ضمير. يكتفي البطل بذاته كي يتغلب على الصعاب ويواصل تصرفه الشخصي والإجتماعي ما يؤطر لانسجام يجمع بين القانونين، المسيحي والإسلامي، دون ربط أيٍّ منهما بالآخر. وهذا المستحيل التاريخي يؤطر لتوتر خاص يدركه المؤلف ويفسح له فضاءً. وفي هذا الإطار يقول البريطاني بيتر نورمان دون Peter Norman Dunn، أستاذ الأدب الإسباني، إن العمل قد يبدو ساذجًا بسبب المعالجة الفنية المفرطة، إلا أن هذا يشكل جزءًا من معنى العمل الذي تكمله الخبرة الشعرية للغنائية والملحمية. ويلجأ الكاتب إلى هذا الأمر كي يحدث في القارئ حالة من الرضاء الروحاني عند التأكيد على أن انتصار الفضيلة يسفر عن آثار من خلال اللحمة القصصية التي تُبرز نموذجية مثالية.
جلي أن قصة ابن السراج نالت، منذ انتشارها، أهمية تخطت الحدود المحتملة لعمل من نسج الخيال والتناقض بين عرض الحكاية القائم على الصداقة بين المسلمين، ممثلين في أحد أبناء عائلة بني السراج النبيلة وشريفة، والمسيحيين، ممثلين في القائد الحدودي دون رودريغو دي ناربايث. وكان هناك الواقع السياسي والإجتماعي الذي كان يتفاقم في العنف الواقع على الموريسكيين، وهو عنصر أبرزه الأستاذ في جامعة مدريد أوتونوما أنطونيو راي آثاس وزميله فرانثيكسو سيبييا[11]، إذ يشيران إلىأنالدرس النموذجي في التسامح الديني الذي يمكن استشعاره بين السطور في هذا العمل لم يُستغل لتحسين العلاقات بين الأقليات والسلطات، إذ ساءت هذه العلاقات حتى تمت عملية طرد الموريسكيين. ومع ذلك فإن النجاح الأدبي كان كبيرًا في السياق السردي وتخطى الواقع المؤلم للأحداث الثاريخية، وفتح طريقًا مؤثرًا عبر الأشعار الشعبية، إلرومانثيرو Romancero، صوب القرن السابع عشر.
وفي هذا السياق يشير كلاوديو غيين إلى أن العمل لا يتضمن أي جهد لإعادة بناء حياة المسلمين[12]، وأن الواقع الموريسكي في تلك الحقبة لم يُسجل على صفحات هذا العمل، رغم أنه استُحسن استقباله على يد النبلاء الذين كانوا عمد سياسة الملك. إلا أنه يمكن أن يكون بمثابة تذكرة بوجود الموريسكي الذي كان في ظرف صعب أمام المجتمع ورافضًا للاندماج، وكان قبل ذلك بنصف قرن المسلم المحارب الذي كان ينعم بفوائد الصداقة والتودد إليه.
لا شك في أن الاكتفاء بقراءة واحدة للقصة قد يؤدي إلى رؤية جزئية للقضية، واذا كانت محدودة فيمكن أن نعد قصة ابن السرّاج حلمًا شعريًا جميلاً، وكذلك فهمها على أنها عدوان أدبي خفي ضد سياسة ملك. وهنا يقر لوبيث إستراد باحتمال يصب في أن مؤلف العمل قد ساقه حدسه إلى هذا التفسير المتعدد، وكان نجاحه يكمن في التوصل إلى التشفير في إطار الوحدة القصصية وأن يؤدي هذا إلى طريق الخلاص الأخلاقي: الشخصي في مقابل السياسي، أي ما يعني انتصار الأفراد، نربايث/ ابن الريس، في مقابل الجماعة، حرب الحدود.
يكمن نجاح قصة ابن السرّاج في جمع هذا الكم من الظروف، استعراض تنوع الحياة على الحدود في الحقبة الأخيرة من العصور الوسطى عبر غطاء فكري من عصر النهضة بالجمع بين التقليد والحداثة، التاريخ والخيال، حسب الذوق الإسباني. وبهذه الطريقة نجح في الأدب الصرعة نفسها المرتبطة بعالم البلاط بغطاء اسلامي من أجل التظاهر بالمناوشات نفسها مع المسلمين ثم تحولت بعد سقوط غرناطة إلى أمر معتاد.
إن هذه الروح، روح الحدود في منظورها الإيجابي تجاه العربي المهزوم، أو الذي في حاجة إليهم، ممتد إلى اليوم ممثلاً في الكثير من أعمال المسرح الإسباني المعاصر. إنني أعني هنا مسرحيات إسبانية تعالج مسألة الهجرة، وهي الظاهرة الطارئة والدخيلة على الأدب الإسباني، وبالتالي على المجتمع الإسباني كله. إنها ظاهرة الهجرة من دول المغرب العربي وإفريقيا إلى إسبانيا بحثًا عن سياق اقتصادي ومعيشي أفضل. وقد أدى هذا إلى ردة فعل متنوعة في المجتمع الإسباني، وتلقفها الأدب الإسباني، وعلى وجه الخصوص المسرح، إذ نُشر في العقدين الأخيرين عشرات الأعمال تعالج ظاهرة الهجرة، وكيف يتعامل المجتمع الإسباني مع المهاجرين، بعضها استلهم عنوانه من العربية.
الأعمال المسرحية التي تعالج هذه المسألة تحاول جلُها توعية المجتمع تجاه هؤلاء الضيوف الجدد من منطلق أن إسبانيا كانت في تاريخها المعاصر بلدًا طاردًا للكثير من سكانه الذين اضطروا يومًا ما إلى الهجرة إلى بلدان أوروبية أخرى وأمريكية لاتينية، في منتصف القرن العشرين، إضافة إلى المناداة بالابتعاد عن العنصرية تجاه المهاجرين. وبالإضافة إلى الأعمال المسرحية التي تعالج هذه المسألة فهناك أعمال أخرى تدور حول التعايش في الأندلس بين أبناء الثقافات الثلاث التي تعايشت في ظل الحكم العربي لشبه جزيرة أيبريا طوال ثمانية قرون.
المشهد في العقد الأخير من القرن العشرين شهد تحولاً كبيرًا ما أفسح المجال أمام ظاهرة جديدة، ظاهرة الهجرة إلى إسبانيا عبر مضيق جبل طارق وما صحبها من خطاب إجتماعي سياسي حول الدمج والإندماج، وخطاب الإقصاء وكراهية الأجانب وعدم التسامح، والتهميش، والخوف على الهوية الوطنية، إلخ. الخوف من الاختلاط بثقافات أخرى وضياع التقاليد تمثل غطاءً لتمويه العنصرية وكراهية الأجانب، دون أن يدرك مؤيدو هذا التوجه أن ضياع التقاليد في المجتماعات الغربية مرتبط بظاهرة العولمة أكثر ارتباطه بظاهرة الهجرة.
وقد اهتم أكثر من مسرحي بمعالجة الظاهرة في أعماله، وهي الظاهرة التي تشغل المجتمع الإسباني ما يصب في تظاهرات سلبية متزايدة تجاه المهاجر، نتيجة مخاوف جماعية تنبع أمام المجهول والغريب والتمازج بين الأجناس. بعض هذه الأعمال يشجب تصرفات ومواقف للمجتمع الإسباني المعاصر تجاه المهاجرين. ومن بين المسرحيين الذين عالجوا هذه الظاهرة خيرونيمو لوبيث موثو الذي وضع عنوانًا عربيًا لمسرحيته له وهو أهلاً Ahlán، (1996)، ودابيد بلانيل David Planell في مسرحية “بازار Bazar ” (1997)، وخوان مايورغا في “حيوانات ليلية Animalesnocturnos” (2003)، وسيرجي بيلبيل في مسرحية “غرباء Forasteros “، (2004)، وخوسيه مورينو أريناس ” الشاطئ Te vas a ver negro ” . الأعمال التي عالجت التعايش في الأندلس كثيرة، ويعنينا هنا مسرحية رأس الشيطان La cabeza del diablo” للكاتب خيسوس كامبوس غارثيا، ومسرحية “زهراء: مفضلة الأندلس “Zahra : favorita de Al-Andalus للكاتبة أنطونيا بوينو، إضافة إلى أعمال أخرى كثيرة.
تجمع جل هذه الأعمال على رسالة رئيسة تصب في أن على المجتمع الإسباني أن يكون أكثر سخاءً بصفته مضيفًا، لكن هذا لا يعني أن هذه الأعمال لا تنتقد جوانب أخرى، بما في ذلك تصرفات المهاجر نفسه. كما أن رسالة هذه الأعمال واضحة: على المجتمع أن يتغير ليتواءم مع الوضع الجديد، أي وجود المهاجرين في المشهد المحلي.
من الملفت للنظر أن الأعمال التي تشهد هذه الظاهرة الجديدة في المشهد الأدبي والثقافي الإسباني حملتني على التفكير في مولد أدب حدود جديد يعالج التماس بين الثقافتين العربية والإسبانية، على غرار القصة الموريسكية وأشعار الحدود Romances fronterizos التي انتشرت في القرن السادس عشر، وعالجت صورة الموريسكي المهزوم لكنها رفعت من شأنه بابراز خصاله النبيلة وفضائله.هذا رغم أنا “الآخر” لدى المسرح ليس المسلم المهزوم، بل المسلم الذي لجأ إلى إسبانيا وعبر حدودها بشكل غير شرعي، في أغلب الأحيان، عبر مراكب بدائية صورها بعض هذه الأعمال المسرحية. الظروف مختلفة لكن هناك عناصر مشتركة، يقف على رأسها الشخوص المسلمون، في حالة ضعف وحاجة إلى كرم الإسبان في استضافتهم وتوفير سبل حياة كريمة لهم بدءًا بالعمل.
وددت بهذا أن أنهي دراستي عن القصة الموريسكية لأشير إلى أن روحها تمتد إلى اليوم في الأدب الإسباني، موقفه من “الآخر” العربي، وهذا موضع دراسة أخرى أعددتها في سياق آخر ونُشرت بالإسبانية في العدد 49 من مجلة “أبواب الدراما [13]، على أمل أن نفسح مساحةً من بحوثنا لهذا الجانب من الأدب الإسباني المعاصر الذي يصل الحاضر بالماضي.
[1]موريسكيmorisco صفة تطلق على من العربي الذي عاش في إسبانيا المسيحية بعد خروج العرب من الأندلس، وبالتالي فهي تنسحب على ما يرتبط بعرب هذا السياق التاريخي.
[2]تبعت في الدراسة النص الوارد في طبعة فرانثيسكو لوبيث إسترادا:
Franciso López Estrada (Edición), El Abencerraje (Novela y romancero), Cátedra, Undécima edición, Madrid, 1997.
وهو النص نفسه الذي ترجمته إلى العربية ونُشر في المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018.
[3]نشرت ترجمتها بالعربية مسلسلة على حلقات في جريدة “المساء” المصرية، خفي الفترة من 16 إلى 22 أبريل عام 1979، تحت عنوان “مغامرات صعلوك”، وكانت أول ترجمة لهذه القصة إلى لغة الضاد، ثم تلتها ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في نهاية السنة نفسها ضمن إصدارات معهد الثقافة الإسبانية العربيةقبل انتقاله إلى العالم الآخر ليحل محله معهد العالم العربي ثم ذوبان هذا الأخير في الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي، وكان يمثل أيامًا خوالي من إهتمام إسبانيا بالثقافة العربية قبل أن تحل العولمة بأثارها السيئة على ثقافات العالم الثالث. ويرجع الفضل في إنشاء ذلك المعهد إلى واحد من أبرز مستعربي إسبانيا في القرن العشرين الراحل إميليو غارثيا غوميث.
.
[4]ترجمها إلى العربية شكيب أرسلان ونشرت في مصر، مطبعة المنار، 1925.
[5]ترجمالشاعر الفلسطيني والأستاذ في جامعة مدريد “القوادة” ونشرها ضمن إصدارات المعهد الإسباني-العربي للثقافة، عام 1979. قبل انتقاله إلى العالم الآخر ليحل محله معهد العالم العربي ثم ذوبان هذا الأخير في الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي، وكان يمثل أيامًا خوالي من إهتمام إسبانيا بالثقافة العربية بعيدًا عن توجهات العولمة. ويرجع الفضل في إنشاء ذلك المعهد إلى واحد من أبرز مستعربي إسبانيا في القرن العشرين الراحل إميليو غارثيا غوميث.
[6]Víctor de Lama y Emilio Peral Vega (Edición), EL abencerraje y la hermosa Jarifa, Editorial Castalia, Madrid, 2000, p.9.
[7] M. Menéndez Pelayo, Antología de poetas líricos castellanos, VII, Pág. 162.
[8]Marcelino Menéndez Pelayo, Estudios sobre el teatro de Lope de vega, V, pág. 213.
[9]Claudio Guillén, 1966 pág.189.
أحد أبرز من كتبوا في نظرية الأدب المقارن من منظور مختلف، يقترب من المدرسة الأميريكية. عاش معظم حياته فرنسا والولايات المتحدة حيث درّس في الجامعات الأميركية. وكتابه المهم هذا له أكثر من طبعةوعنوانه:
ENTRE LO UNO Y LO DIVERSO: INTRODUCCIONA LA LITERATURA COMPARADA (AYER Y HOY)
[10]Luis Milán, Libro intitulado el Cortesano, Madrid, Aribau y C., 1874.
[11] A. Rey Hazas y F. Sevilla, ¨Contexto y punto de vista en el Abencerraje, 1987, pág. 426.
[12]C. Guillén, 1965, págs. 192-194.
[13]Khaled Salem, El teatro español contemporáneo ante el fenómeno de la inmigración y la problemática de su recepción en árabe. Revista las Puertas del Drama, nº 49.