قراءة في رواية “الأم اللاجيوس” حكاية فاطمة للأديب الفلسطيني نافذ الرفاعي
صدرت عن دار البيرق العربي للنشر والتوزيع في فلسطين
بقلم: هدى عثمان أبوغوش
في روايته الجميلة “الأم اللاجيوس”حكاية فاطمة للرّوائي المبدع نافذ الرفاعي، يجد القارىء نفسه أمام ذاكرة عاصفة بالجراح والغضب، تثيرنا حكاية لاجئة صامدة في زمن الحرب وتحت خيمة رثة، نتابعها بشغف، نستمع لحكايتها فيشتعل أرشيف ذكرياتنا ما نقله الأجداد لنا من حكايا الرّحيل والشتات. هي ذاكرةينقلها لنا الرّاوي بلسان الابن الفواض وحكايته عن أمه المناضلة فاطمة اللاجئة أو كما سماها طفل بريء “لاجيوس” وقد ظلت الكلمة في أعماقه لا تفارقه.
فاطمة اللاجئة هي حكاية الأمهات اللاجئات، الصابرات الصامدات، حكاية الوجع الفلسطيني الذي ما زال ينتظر الخلاص، حكاية الآهات والحسرة على شيء اسمه المفاوضات، فاطمة تطلق صرخاتها بعدم التفاوض والابن يطالب بحقوق أُمه اللاجئة ويوجه نقده اللاذع تجاه المفاوضات التي كانت تجرى في البحر الميت في صورة متناقضة لشكل المخيم.
في هذه الرّواية يبرز الرّفاعي مكانة المرأة الفلسطينية وخاصة الأم وقدرتها على تحمل الصعاب والمشقة، ومساهمتها الفعالة تجاه وطنها من خلال بطلة الرّواية فاطمة التي ساندت جورج من عيون الغزاة، كما وبيّن مدى شجاعتها وصبرها وتحملها العذاب برفقة طفلتها بعيدة عن أهلها وزوجها، ودفاعها عن نفسها وشرفها من الذين يحاولون استغلالها جنسيا، إذن نحن أمام نموذج مشرف للمرأة الفلسطينية في كفاحها وحدها في ظلّ الحرب.
وممّا يلاحظ في سرد الرّواية هو وفاء الفواض وإخلاصه لأمه فاطمة، فهو الحافظ لذاكرتها ووجعها، فبرغم أُميتها إلا أنها تتمتع بفطنة وحكمة في التصرف، هذا الابن البارّ لأمه يفخر بصمودها في مراحل حياتها المتعددة، وحفظه لوصايا أمه اللاجيوس وما أجمل ما قال عنها “لها أسماء عند كلّ موقف”،ومن وفائه لأمه هو نقل جثمانها بمساعدة يافا حين أخرجاها من القبر وتمّ دفنها في مسقط رأسها سرّا.
لقد نجح الرّوائي في وصف الحالة النفسية لفاطمة في ظلّ الحرب من خلال أرشيف حكاية الابن في سرده ليافا، التي أيضا سردت حكاية أهلها وتشردهم في قوارب مدينة يافا، فقد وصف مشاعر الخوف من مشاهد الحرب والقلق الذي لازمها في البحث عن زوجها الذي خرج ليبحث عن المؤونة وشعورها بالوحدة والبحث عن الأمان، وقد كان الأثر النفسي جليا في أحلامها وكوابيسها الليلية بسبب قلقها والإشاعات المختلفة حول وضع زوجها فقد كانت تستيقظ مذعورة من نومها وهي تحلم بمكروه حدث لزوجها، كما ظهر الصراع النفسي عند الأم الطفلة وأسئلتها حول تزويجها وهي قاصر. “أمي اللاجئة ترى نار الحرب تحرق أصابعها معاناة وألما ووجعا”، “انتظار طويل ومؤلم وهي تنتظر نحو الغرب علّه يعود”.
أما الحالة النفسية عند الابن الفواض الذي لم يجعل له اسما محددا لأنه يرمز لكل الأبناء اللاجئين الذين يحملون حكايات الأهل، ويحفظون ذاكرة اللجوء، نجد حالته متعبة في داخله يسكن التناقض في صور اللجوء والتفاوض.أطلق على نفسه لقب الفواض بدل المفاوض، وهويعاني من القهر السياسي ووجع ظروف اللاجىء، نرى في ملامحه وجه الحزن والألم والمرارة، فحالته النفسية لم تكن مريحة منذ الطفولة “كان طفلا لا يدرك شيئا سوى الحزن والصراخ والعويل” وحين كبر وزاد الوعي السياسي أصبح يشتم ويلعن. من التساؤلات التي تبيّن حالة الصدمة وكأنه لا يصدق ما حدث في تساؤله عن اللجوء “لاجيوس اختراع أم خرافة” كما وظهرت حالته الغاضبة والمنتقدة تجاه المفاوضات وشكلها “ما زال الأبرياء يدفعون ثمن جنون السّاسة”، كما أن الأثر النفسي عند الفواض كان في صراعه بتحقيق حقوق أمه اللاجئة الذي تذكره دائما باللجوء وبين الواقع السياسي الذي يفرض عليه العيش كلاجىء، “تقرع أُذني الفواض كلمات أُمه ليل نهار، تسكنه كآلهة اليونان…الخ”. تغلب الفواض في النهاية على الصراع الذي سكنه في كونه المفاوض، حين أعلن توبته عنها. “سألته يافا: أين أنت والمفاوضات./ الفواض: لقد أقلعت وأعلنت توبتي منها”.
أتقن الرّفاعي في رسم صور الرّحيل والشّتات، الجوع والفقر والخوف في الحرب، ووصف ظروف المخيم المتقع، وخيمة فاطمة الرثّة. أشار الرّفاعي في روايته إلى التحولات والقيم السّلبية التي حدثت عند اللاجىء الفلسطيني في المخيم بعد الحرب بسبب الخوف وعدم الأمان مثل اللصوص والحلفان بالكذب، وترك الصلاةوغيرها. ومن جهة أخرى رأينا وجه التعاون بين الناس كالمرأة العجوز التي ساندت فاطمة، وتوجيه إحدى النساء لها بالذهاب للإغاثة لطلب المؤونة لها. ظهر الوعي السّياسي والاجتماعي والاقتصادي عند الأم فاطمة رغم صغر سنها فهي أم في الخامسة من عمرها لطفلة عمرها عام واحد، كالاستفادة من خبرة العجوز وتدبير أمورها في اقتناء العملة الذهبية خوفا من لجوء ربما قادم، ومقدرتها على حماية نفسها، وعلاقتها بالثوار، وقد بيّن أيضا التحول الذي طرأ على تطور شخصية فاطمة من امرأة خجولة أُمية لا تعرف شيئا، ووحيدة، ويسكنها الخوف والجهل إلى امرأة ناضجة، واعية، صاحبة قرار، لديها الإصرار والتّحدي اجتماعية، علمتها الحياة القاسية أن تكون واثقة من نفسها، متمردة، مقاومة، مكافحة تخطط لمستقبلها حذرة من الناس، تعرف كيف تحافظ على حقوقها وتتصدى لأي محاولة لكسر إرادتها أو طموحها.
من المواقف التي تشير إلى إصرارها وتمردها وثقتها بنفسها، عندما أصرت على تعليم طفلتها ولم ترضغ لرغبة جدتها، وكذلك عندما رفضت البقاء عند أخيها، وتصديها له خاصة عندما حاول أن يضربها. “أقطع يدك لو تنمد علي”.
تنقلت الأم فاطمة أثناء الحرب وبعدها في عدّة مدن مثل القدس الخليل أريحا بيت لحم في رحلة البحث عن زوجها وأهلها وتلك إشارة إلى المشقة التي واجهها اللاجىء في ترحاله، وقد أحسن الرفاعي في وصف المدن التي زارتها فاطمة، سواء جمال طبيعة المدينة، الجبال الأشجار والسهول والأماكن المختلفة من عدسة التقطها تارة عن بعد عبر الحافلة وتارة أخرى عن قرب كوصف البحر الميت ودير القرنطل والفنادق. فكيف للذاكرة أن تنسى تفاصيل الألم الفلسطيني فهي تورثها للأجيال.
“الأم اللاجيوس” هي تسجيل للتغيرات التي حدثت عند الفلسطيني في زمن النكبة والنكسة، وما بعدها، وهي سيرة للتغريبة الفلسطينية التي كانت بطلتها الأم فاطمة، وهي صرخة عالية تقول لا تفاوض على اللجوء، اقتربوا واستمعوا حكايات أمهاتنا فتلك حقيقة اللجوء أو اللاجيوس، وهي حكاية كسر الخوف والشجاعة. أختم بما قالته الأم اللاجيوس “أنا لاجئة لا أريد منك أيها العالم الظالم الكاذب هذا الكرت”.