مقال

حلوة يا بلدي

خالد رمضان | كاتب مصري – صلالة

أحبك مصر من أعماق قلبي
وحبكِ في صميم القلب نامِ
سيجمعني بكِ التاريخ يوما
إذا ظهر الكرام على اللئامِ
لأجلكِ رحتُ بالدنيا شقيّا
أصدّ الوجه والدنيا أمامي
وهبتكِ غيرَ هيّابٍ يراعا
أشدّ على العدو من الحسامِ

من كلمات الراحل عمر مكرم : إن مصر ليس وطنا نعيش فيه، إنما يعيش فينا .
إذا تحدثت عن وطني مصر، ولهج لساني بمدحه فأنا أعلم أن شهادتي مجروحة، لأنها بلدي التي فيها نشأت، ومن نهرها شربت، ومن أرضها تغذيت حتى اشتد عودي وقويت شكيمتي، فلا عجب أن تنسال هذي الكلمات من محبرتي حبا وعرفانا بعظيم شأنها، وعلو قدرها .
أنا هنا فقط أطلق العنان لقلمي ليغور في أعماق قلبي حتى يكشف ما به من عواطف جياشة، وانفعالات ثائرة لا يردها راد، ولا يصدها صاد، وكأن هذه العواطف من شدتها، وكثرة تراكمها الأمواج المتلاطمة، أو الطوفان الجموح الذي الذي يفيض بداخلي حبا واشتياقا إليكِ يا مصر .
أتخيل نفسي وأنا أسير على كورنيش النيل، ذلك الطريق المعبّد الممتد على حافتي النهر، أتظلل بأشجاره البهيجة، وهواء النيل العليل يداعب أغصانها، ويغازل أوراقها في صورة فنية إلهية تأسر القلوب، وتجذب العيون، ومياه النهر تتراقص في عينيك، وقواربه الحديثة تمخر مياهه حاملة أسرة صغيرة، أو رحلة مدرسية تتعالى ضحكاتهم، وترتفع أصواتهم، خالية عقولهم من كل هموم الدنيا.
يمد الأب يديه إلى مياه النهر ناضحا الماء في وجه زوجته، أو أحد أبنائه في بهجة حانية، وبسمة ساحرة .

بلادي هواها في لساني وفي دمي
يمجدها قلبي ويدعو لها فمي

وكيف بك إذا وطأت قدماك شواطئ الأسكندرية، أو الغردقة، أو شرم الشيخ، أو مطروح، أو الساحل الشمالي، فكأنك في عالم ٱخر، تغطس في مياهه المالحة، وأمواجه تلاحقك وكأنها تداعبك وتمازحك.
وكيف بك في محافظة الجيزة ماثلا أمام أهراماتها الجسام، تقف مبهوتا مدهوشا محدقا ببصرك متسائلا في نفسك : كيف وبمَ ومتى ولمَ كان هذا الصرح الخيالي منقطع النظير والمثيل ؟!
كيف وقفت راسخة شامخة عبر تلك العهود البائدة، والأزمان الخاوية لم يهدمها طوفان، أو يصدعها زلزال؟!
ثم هيا معي نزور محافظة الفيوم؛ لنسبح في بحيرة قارون، ونرى السواقي الماتعة، والإبداعات النادرة.
وإذا جئت معي نجول في شوارع مصر القديمة، بين أحياء السيدة زينب، نصلي في مسجدها الشهير؛ لنستمتع بعظمة الحضارة الإسلامية، والنفحات الإيمانية، معجبا متعجبا كيف رُصّت أخشاب ذلك المسجد بهذه الهندسة العبقرية رغم خلو ذلك العصر من الجامعات، والكليات ومراكز الهندسة الحديثة؟!أو تلك الأعمدة الرخامية ناصعة الجمال والدلال .
ثم ما يأخذ بمجامع لُبّك وأنت تسير في طرقاتها متأملا مساجدها ومبانيها التي شيدت منذ أكثر من ألف عام، ولا زالت شاهقة شاقة عنان السماء، لم تغيرها المحن، ولم تعصف بها نكبات الزمن.
حري بك أن ترى هذا الإبداع الرهيب مرورا بمسجد السلطان حسن، أو المدرسة الخديوية، أو السنية ، أو الحلمية، حيث تأسرك بجمالها، ويكبلك عظيم تشييدها .
ثم هيا معي لنصعد جبل المقطم، ثم نمر معا بقلعة صلاح الدين الأيوبي الذي شادها لمعركة من أكبر المعارك الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي، وهي معركة حطين .
تصعدها وضربات قلبك تعلو وتخفق، تشتد وتخفت، فلا تدري أكدًّا وتعبا؟ أم فرحا وابتهاجا؟
ثم تجول داخلها تنظر إلى الدنيا تحتها محدقا مدققا إلى تلك المٱذن الكثيرة، والمساجد القديمة التي بقيت شاهدة على حضارة الإسلام والمسلمين عبر تلك الأزمان وعلى مر السنين .
أتخيل نفسي في محطة مصر أستقل قطارا شاقا بي مصر من شمالها إلى جنوبها حيث محافظة أبناؤها ذوو البشرة السمراء، والأرض الغنّاء ألا وهي محافظة أسوان الحافلة هي ومدينة الأقصر بأكثر من ثلث ٱثار العالم .
تحفل محافظة أسوان بأكثر من ثلاثة عشر معلما سياحيا كمعبد أبي سمبل ومعبد كلابشة ومعبد الكرنك وغيرها من المعابد ، علاوة على السد العالي بشلالاته المتدفقة ، ومحطاته النافعة .
وجو أسوان وما أدراك ما جوها في فصل الشتاء، ودفء مدنها وسطوع شمسها .

أنا تاج العلاء في مفرق الشرق
ودراته فرائد عقدي
وقف الخلق ينظرون جميعا

كيف ابني قواعد المجد وحدي

ما أجملك يا مصر !
ثم هيا معي لنريح أعصابنا، ونهدئ من أنفسنا ونخفف من اضطراب مشاعرنا ونحن بين غيطانها حيث الهدوء والسكينة والأمان والطمأنينة، نقطف من ثماره، وننزع من بصله وفجله وجرجيره، فتغيب عنك الهموم، وتذوب في عينيك كل الكروب .
ما أبدعك يا مصر !
لقد فاتك الكثير والكثير إذا لم تركض على حشائش حدائقها الساحرة كحديقة الفسطاط، أو الحديقة الدولية.
لقد خسرت الكثير والكثير إذا لم تصرخ داخل لعبة من ألعاب الدريم بارك، أو تجري بين ملاهي الماچيك لاند، أو الجيرو لاند .
ثم تعال معي لنجلس بين أهلها على حصير من العيدان، ونسكب الشاي، ونتبادل الأحاديث والنوادر والأقصوصات الجميلة، والتعليقات الطريفة .
وليل القاهرة، وما إدراك ما ليل القاهرة !
ذو الأنوار الصاخبة التي تتراقص على أمواج النهر الساهرة،وتلك المقاهي العامرة .
أتخيل نفسي في ساحة الجامع الأزهر الشريف

قم في فم الدنيا وحيّي الأزهرا
وانثر على سمع الزمان الجوهرَ

ذلك الحصن الحصين، والركن الركين، قلعة العلم والدين، يحمل بين جنباته تاريخا عريقا لا يقوى الزمان على محوه من سجلاته الخالدة.
وإذا عبرنا الخندق واتجهنا إلى سيدنا الحسين فستزداد انبهارا وإعجابا، فهو قبلة المسلمين من كل الأماكن والميادين، يأتون زائرين مستمتعين متبركين .

كم ذا يكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العشاق

وأختم بزيارة إلى ذلك الشارع الحافل بذكريات الحضارة المصرية ، وهو خان الخليلي والغورية، لتقتني تحفة فنية تشبه قطعة أثرية .
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وزهرة فواحة من بستان مصر الغالية الخالدة الباقية، قلعة الإسلام والمسلمين، الغنية بعلمها وعلمائها، الأبية العصية العفيفة الرضية، بلد مارية القبطية ، وأم موسى الصابرة النقية ، وعرش يوسف، وزوج إبراهيم الخليل، ومهلك فرعون وقارون وهامان .
اللهم احفظ مصرنا من كيد الكائدين وحقد الحاقدين ، وكل بلادنا العربية بعينك التي لا تنام، واكلأها برعايتك وفضلك وكرمك يا رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى