غالب هلسا والكاتبة وفاء كمال الخشن وجهًا لوجه (4)

ـ ( س ) ـ لقد اتهمك البعض بالماسونية، رغم انتمائك للحزب الشيوعي الذي يؤكد ارتباط الماسونيين بالمخابرات الأمريكية فما قولك في ذلك؟

ـ ( ج ) ـ اتهمني في ذلك شخص سوري يُدعى ” بشار مصطفى ” ، ودافعتْ عني أسرة تحرير مجلة ” الموقف العربي ” حينذاك. وربما كان التباس المدعو بشار, ناجما عن قراءته لإسمي في مجلة ” فلسطين الثورة ” بين قوائم الماسونيين. دون أن يقرأ التنويه المذكور في الهامش الذي يؤكد أن “غالب هلسا” المذكور في القائمة ليس هو الكاتب العربي المعروف ..وذُكر في التنويه عمل ذلك الشخص ومواصفاته التي لا تنطبق عليَّ مطلقاً.

***

ـ ( س ) ـ لقد ارتفعت نغمات كثيرة غير اتهامك بالماسونية. كاتهامك بالنيرونية والساديّة, وتشويه حقائق الحياة, بالإضافة إلى الموجة التي ادّعت أنك صاحب الروايات الإباحية التي تروج للبغاء وللمومسات.. وأنت تؤكد دوماً أن النقَّاد لن يتناولوا رواياتك بشكل إيجابي.

ـ ( ج ) ـ لأنني أعرف نقادنا تماما.. فالنقد الأدبي يجب أن يكون معرفة وثقافة, والناقد يجب أن يتعامل مع النص بشكلة وروحه, بأفق مفتوح, دون مواصفات مسبقة ونظرات ومعطيات يدخرها النقاد الذين تناولوا رواياتي بالنقد… نحن نفتقد لنقاد يبحثون عن أسرار النص ومزاياه, ويقرأون النصوص قراءة معمقة قبل أن يحكموا عليها. وأغلب نقادنا يتناولون النصوص بسطحية تجعل القارئ أشد ارتباكا ً وتشوشاً.

” نجيب محفوظ ” عندما أصدرتُ روايتي ” الضحك ” , أُعجِب بها . وكتب أو تحدث عنها في أربع مقابلات صحفية وإذاعية. ولم يُكتب مع ذلك عن رواياتي إلا القليل وتناولوها بسطحية. مع إن هنالك روايات متدنية القيمة نالت اهتماماً نقدياً أكثر من رواياتي.

أما عن موضوع المرأة المومس.. فقد تناوله الكثير من الأدباء العرب ” نجيب محفوظ، وحنا مينا وهاني الراهب ويوسف إدريس وادوار خراط وغيرهم. بالإضافة إلى أن هذا الموضوع شائع في الأدب العالمي.

وكبرهان على ذلك أذكر العديد من الأسماء التي تناولت هذه الفئة من النساء مثل. بروست .سارتر, غوركي, تولستوي, شتاينبك, نورمان ميلر، ودستويفسكي. بالإضافة إلى فوكنر وبلزاك ومورافيا وغيرهم…. وأنا لم أتحدث في رواياتي عن تلك الشخصيات بعمق ولم أخض بتفاصيلها؛ لأنني لم أكن أمتلك معرفة عميقة وكافية بتلك الشخصيات ولا أقول ذلك فخراً أو اعتزازا بل تلك هي الحقيقة.

***

ـ (س ) ـ كيف ترى موقف الرواية العربية من المرأة.

ـ ( ج ) ـ الرواية العربية تضم أنماطاً من النساء غير واقعية. وهذه الأنماط نفسها هي التي تحدد مسيرة الرواية, وليست الرواية هي التي تحدد مسيرتها, فلو كانت المرأة مومساً فاضلة, تجدها تتمتع بحب جارف عنيف ويكون مصيرها الموت في النهاية. وإذا كانت فتاة فاضلة, فإنها ستتعرض لعقبات كثيرة تحبط طموحاتها. وتؤذي حياتها العاطفية. كأن يقف الأهل عقبة دون زواجها ممن تحب, أو تقف التقاليد الاجتماعية ضدها, أو يخونها الشاب الذي تحبه ويخدعها.. بالإضافة إلى أن رواياتنا لا تصور المرأة العربية على حقيقتها. فمثلا: المرأة السورية متطورة وراقية, وكذلك المرأة المصرية حضارية جداً, بينما المرأة اللبنانية متخلفة برأيي وبدوية حتى ينقطع النفس, ومع ذلك لا نلمس ذلك في الروايات .

لقد أذهلني موقف ” هلسا ” من المرأة اللبنانية. خصوصاً أنه قال لي معقباً: وهذا الكلام للنشر . دون أن يعلم أنني لبنانية بسبب لهجتي السورية. ولا أدري لم َ لم أسأله يومها عن سبب ذلك التصريح ؟!! ربما لأنني منحازة إلى نصفي الشامي .ولكنَّ الأمانة الأدبية تستدعي مني أن أذكر ذلك دون تبرير الكاتب, حتى لو كان الأمر يمسني بسوء. وقد أكد ” هلسا ” أيضاً أنه لم يحب بيروت في يوم من الأيام. قال:

ـ  كنتُ اكرهها ودائما كنت أشعر أن حياتي فيها لن تكون مستمرة. ودمشق هي المدينة الوحيدة التي انغرزتُ  فيها وأحببتها, ولم أقدر على مغادرتها.

***

ــ ( س ) ـ لمْ تحب بيروت, لكن مواد الكتابة عنها كثيرة لديك. وخاصة فترة الحصار التي عشتها.

ـ ( ج ) ـ بصراحة لا أحب أن أكتب عن مدينة لم أحبها, ولم أمارس فيها أحلام يقظة خاصة تتعلق بمستقبلي.

***

ـ ( س ) ـ إذاً لمَ َ لم تكتب عن دمشق مادمتَ قد احببتَها حتى الذوبان؟

ـ ( ج ) ـ لأن دمشق تراوغني باستمرار. وتتحداني, وعليَّ أن أنغمس بتجربة إنسانها وأحسُّ معه. وأتذوق بمذاقه … ” حنَّا مينا ” الذي عاش فيها سبعة عشر عاماً, لم يكتب عنها حتى الآن .فلا تلوميني .

ـ كل ما أذكره في أنه قال لي في نهاية الحوار:

سأقول لك سراً لم أبح به لأحد من قبل:

(خفقت الكلمة في أوردتي كسيمفونية شجية وتوثبت كل حواسي) . همَ ” غالب ” ليبوح بالسر لكنه تعثر وتلعثم قليلاً, ثم صمتَ .

قلتُ له:

ـ ماذا هل ارتكبت جريمة على غرار أبطالك وتريد أن أساعدك بإخفاء الجثة؟

ضحك وقال متكتماً : لا…لا ..

قلت: لقد عرفتُ السر.. أنت السفاح بطل رواية ” السؤال ” .

ضحك وقال: بلهجة مصرية:

ـ كش برة وبعيد .

ـ ( س ) ـ ما هو السر إذاً ؟

قال: لن أبوح لك به إلا بعد أن تحضري لي من أرشيف مجلتكم ” بيروت المساء ” مقالين لي عن ” جمالية المكان عند غاستون باشلار ” .

***

ــ ( س ) ـ وهل تذكر تاريخ المقالات؟ فأنا أرهق زميلنا في الأرشيف دوماً في استخراج المقالات حين لا أعرف تاريخها .حتى بتُّ أخجل منه .

ـ قال إذاً لا تريدين أن تعرفي السر .

ـ قلت أمري لله .

بعدها بيومين سافرت إلى لبنان وألحيْتُ على رئيس التحرير (زهير الهواري) حتى أحضرَ لي تلك المقالات من الأرشيف. عدتُّ فرحة بها واتصلتُ عدة مرات ولم أجد ” غالب ” , ولا أدري لماذا لم أكن لجوجة وملحَّة . فالمقالات بقيت بحوزتي وغالب رحل من أمامنا دون أن يستأذن .

ترى ماهو السر الذي كان سيبوح به ( غالب هلسا ) قبل أن تنسل الحياة من بين جوانحه وقبل أن يغلق جفنيه في غفوة كبرى !!؟

في آخر مرة رفعت السمَّأعة للاتصال به .كان هاتفه يردد لهاث قصيدة حزينة .

كذلك نعيش

في كل خطوة نستأذن للرحيل

ومضيت وأنا أردد ماقاله “رودان “إثر وفاة ” مالارميه ” : ترى كم من الوقت سيقضي هذا الكون ليخلق فيه دماغ كهذا ” ؟ .

انتهى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى