أدب

حكاية سرّ الزيت لوليد دقة.. الراويةُ، المعتقل، الكلمة

كتب | سليم النجار
أذكر أنّي قرأت يومًا رواية عائد إلى حيفا، واليوم أضيف: هذا السقوط، هذا التلاشي، وهذه الرائحة أيضًا، يارب لطفك.. فشمس هذا الصباح لاذعة، رائحة الرطوبة نُشوقٌ حار يدوِّخ، كان الغيظ يصعد إلى جمجمتي كسوط يبهق في داخلي وأنا أحدّث نفسي في وسط غرفتي، أفكّر في ما قرأت، رواية “حكاية سرّ الزيت” للأسير الفلسطيني وليد دقة، وبين الإحساس بالقهر الذي يأكل داخلي، وبالذنب ربما، شعرتُ أيضًا بضرورة تقديم قراءة نقدية لهذه الرواية..
استوقفتني كلمة “حكاية”، رحت أفتّش فيما إذا كانت كلماتي متطابقة مع الواقع الذي يعيشه وليد دقة في المعتقل الإسرائيلي، ورأيتني أتساءل في سرّي: هل عساني أرافع في محكمة لحقوق الإنسان؟
تحدّثت مع نفسي، لا تُتعب نفسك في المرافعات، فالسجّان الإسرائيلي والقاضي الإسرائيلي متفقان على كل شيء، لقد رأيتُهما بعينيّ هاتين وأنا أقرأ “حكاية سرّ الزيت”، ارتعش قلبي من سكّين السجّان، فذهبت من وجهه لا أدري إلى أين..
لعلّ الكتابة عن حكاية سرّ الزيت للفتيان، طريقة للنجاة ربما..
وُلد الأسير وليد نمر دقة عام ١٩٦٢ في مدينة باقة الغربية في الداخل الفلسطيني المحتل، واعتقل عام ١٩٨٤ بتهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وحُكم عليه بالمؤبد، ويُعد وليد دقة من الأسرى الفلسطينيين الذين مضى على أسرهم أكثر من ٣٥ عامًا..
تمكّن وليد من مواصلة تحصيله العلمي وحصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، ومن مؤلفاته كتاب “قهر الوعي”، الذي يرصد أساليب الاحتلال المتطورة ضد الأسرى لمحاربة وعيهم، وكتب رواية في أدب اليافعين “حكاية سرّ الزيت” والتي نحن بصدد الكتابة عنها، والصادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي عام ٢٠١٨، وفازت هذه الرواية بجائزة الاتصالات عن أدب اليافعين في العالم العربي المقدّمة من دولة الإمارات.
يعاني الأسير وليد دقة من مشاكل صحية عدّة، أمراض تنفسية والتهاب بالرئة اليمنى، سرطان نادر في النخاع العظمي يكون علاجه دوائيًا وليس كيميائيًا، ومع ذلك، يرفض الاحتلال الإسرائيلي الإفراج عنه للعلاج.
رواية حكاية سرّ الزيت من كلمتها الأولى تستفزنا بالسؤال: كيف تحيا الكلمة؟، والتي هي أوّل تعبير منقول لفعل العقل البشري، فبعد اكتمال أعجوبة خلق الإنسان، تبدأ أعجوبة الكلمة، النطق الذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات، لكن لوليد دقة رأي آخر، فالكلمة هنا تكشف تعسّف الإسرائيلي وقهره للكلمة والنطق..
“بدّي أزور بابا، بدّي أزوره، بدّي أزور بابا، كان صوته يتردّد بين الهضاب والوديان، ويأتيه الصدى بكلمةٍ واحدةٍ مفهومة: “بابا”، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُمنع فيها جود وأمُّه من زيارة والده في السحن”.
يتعلّم الإنسان كيف ينطق وكيف يتكلم وكيف يفكر، الكلمة علَّمت العقل، والعقل درَّب الكلمة وجسّد الفكر، ووليد أبدع في توظيف هذه الكلمة ضمن هذا المفهوم..
“ظلَّ جود مُنصتًا يفكر في حديث المرأة التي قالت أنّها تدرِّس ابنتَها في الجامعة، وأنَّها المُعيل الوحيد للأسرة بعد اعتقال ابنها ووفاة زوجها بالسكتة القلبية بعد هدم بيتهم شقا عمرهم، بأشهر قليلة”
ولكن كيف تحيا الكلمة وكيف يحيا الإنسان؟ يجيب وليد على ذلك..
“هل أعبُر الجدار دون اصطحابه معي؟ فهو محرومٌ مثلي تمامًا من لقاء أمه السريع وإخوته شهلوب وحبوب، ثم عاد للتفكير في أم رومي، كيف سأقنعها بكلِّ هذا؟، ظلّ جود يقلِّب هذه الأسئلة في رأسه إلى أن غطَّ في النوم منهكًا دون آت يصل لإجابات شافية”
كانت الكلمة هي صراع البشر عبر تاريخهم، صراع بين الخير والشر، بين الحرية والعبودية، وحكاية سرّ الزيت ميّزت ذلك جيدًا..
“تخيَّل أنَّ الزيت يملكه لصٌّ كالذي سيقتلعني من أرضي ليستخدمه لإخفائي أو إخفائك أو حتى لإخفاء القرية جميعها، فهل يصبح الزيت في هذه الحالة دواء؟، قال جود: بالتأكيد لأ، رايح يكون لعنة على أهل البلد”.
الإنسان بطبعه يريد أن يكون حرًا طليقًا من كل قيد أو حَد، إلّا من القيود أو الحدود التي يضعها هو على نفسه وبملء إرادته ليستعين بها على بلوغ الحياة الكريمة، والحياة الصالحة للفرد والجماعة لا تستقيم إلّا بانتصار إرادة الخير على قوى الشر والفساد في الأرض، ذلك الفساد الذي يمارسه الكيان الصهيوني في فلسطين بأبشع أنواع القتل والاضطهاد والإلغاء والإقصاء، ووليد الروائي في روايته رسم هذه الصورة على الشكل الآتي:
“قال جود وفي نبرة صوته حيرة: بس في العتمة كيف بدِّي الحبِّ اللِّي ما بيلمع، اللِّي ما بيلمع ما بشوفه، والذي تراه لا يخفى، والذي يخفى لا تراه، فعليك أن تبحث عمّا لا تراه”
المأساة التي يعيشها الفلسطيني في فساد العصر، وفساد الأخلاق والقيم القابعة على أجسادهم وقلوبهم وعقلوهم بأيدٍ من حديد، والصورة التي رسمها وليد لهذا الفساد جاءت على شكل سؤال:
“أنا بسألك، ليش مش أنا؟”
“شو يعني؟”
“أي هوّي في أولاد في السجن؟، ردَّ أبو ناب بلهجة احتجاج على السؤال: آه في أكثر من متين طفل، من بلدنا لحالها في ثلاثة”
“حكاية سرُ الزيت”، مدرسة في القيم والأخلاق، هي المدرسة الحقّة والوحيدة التي لا غنى عنها لكل من أراد التحرّر من نيران الاستعمار الإسرائيلي الإحلالي، كل ما تعدّى ذلك من شعارات وتنظيرات قشور لا تلامس واقع الوجدان لأنها غريبة عنه…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى