هجرة الرسول ﷺ
مروة محمد مصطفى | القاهرة
خَافَتْ “قُرَيْشٌ” عَلَى مَكَانَتِهَا وَتِجَارَتِهَا، عندما عَلِمَت بِأَمْرِ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَحَالُفِ الرَّسُولِ ﷺ مَعَ أَهْلِ “يَثْرِبَ”، هَذَا التَّحَالُفِ الَّذِي سَيَزِيدُ مِن قُوَّةِ المُسْلِمِينَ، فَأَخَذَتْ تُعَذِّبُ المُؤْمِنِينَ بِكُلِّ قَسْوَةٍ حَتَّى تَرُدَّهُم عَنْ دِينهِم، فَلَمَّا وَجَدَ الرَّسُولُ ﷺ مَا يُعَانِيهِ أصْحَابُهُ مِنَ العَذاب، أذِنَ لَهُمْ بِالهجْرةِ إلَى “يَثْرِبَ”، فَخَرَجَ المُسْلِمُونَ مِنْ “مَكَّةَ” سِرًا، تَارِكِينَ وَرَاءَهُم كُلَّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ.
أدْرَكَ زُعَمَاءُ “قُرَيْشٍ” أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَوْفَ يَلْحَقُ بِأَصْحَابِهِ فِى “يَثْرِبَ”، فَعَقَدُوا اجْتِمَاعًا كَبِيرًا فِى دَارِ النَّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا جَميِعًا فِى كَيْفِيَّةِ القَضَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَدَعْوَتِهِ، فقال أحدهم: احْبِسوا محَّمدًا.. ارْبطوه فى الحديد، وغلِّقوا عليه الأبْواب، حتى يموت جُوعًا وعَطشًا، وقالَ آخر: اطْردُوه خارجَ مكة.. فى الصحراء حتى يموت، وقال ثالث منهم وهو النضر بن الحارث: أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ شَابًا قَوِيًا وَيُعْطُوهُ سَيْفًا صَارِمًا بَتَّارًا، ثُمَّ يقُومُ كُلُّ هَؤُلاءِ بِضَرْبِ النَّبِىِّ ﷺ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُونَهُ فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ بَيْنَ القَبَائِلِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَهْلُهُ أَنْ يَأْخُذُوا بِثَأرِهِ مِنَ القَبَائِلِ كُلِّهَا.
استعدَّ كفارُ قريش، لتنْفيذ خطَّتهم، وَفِى اليَوْمِ الَّذِى حَدَّدَهُ الكُفَّارُ لِتَنْفِيذِ المُؤَامَرَةِ أرْسَلَ اللهُ “جِبْرِيلَ” ــ عَلَيْهِ السَّلامُ ــ فَأَخْبَرَ النَّبِىَّ بِمَا دَبَّرَتْهُ “قُرَيْشٌ”، وَأَمَرَهُ ألاَّ يَبِيتَ فِى دَارِهِ فِى هَذِهِ اللَّيْلَةِ، كَما أَخْبَرَهُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالهِجْرَةِ إلَى “يَثْرِبَ” ففى يثرب بعضُ المسْلمين الذين عاهدوا الرَّسول ﷺ على نُصْرته، والدّفاع عنه، بَدَأَ النَّبِىُّ يُعِدُّ العُدَّةَ لِلْهِجْرَةِ، فَذَهَبَ إلَى دَارِ صَدِيقِهِ “أبِى بِكْرٍ” فِى وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَأَخْبَرَهُ أنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ بالهِجْرَةِ، وَأَنَّهُ سَوْفَ يَصْحّبُهُ فِى رِحْلَتِهِ المُبَارَكَةِ، فَبَكَى “أَبُو بَكْرٍ” مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ وَعَادَ النَّبِىُّ ﷺ إلَى بَيْتِهِ يَنْتَظِرُ مَجِئَ اللَّيْلِ.
هَاجَرَ النَّبِىُّ ﷺ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِى بَكْرٍ الصِّديقِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ عَلَيَّ بْنَ أَبِى طَالب أَنْ يَنَامَ فِى فِراشِهِ؛ لِيُضَللَ المُشْرِكِينَ؛ وَلِيَرُدَّ الأَمَانَاتِ الَّتِى كَانَتْ عِنْدّهُ ﷺ إلَى أَصْحَابِهَا فِى مَكَّةَ، ومع أن عليًّا كان يْدرك ما سيناله من أذى إلا أنه أَطاع رسول الله ﷺ، ونام فى فراشه.
وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ النَّبِىُّ ﷺ مِنْ بَيْتِهِ أحَاطَ الكُفَّارُ بِمَنْزِلِهِ لِيَقْتُلُوهُ وَيُنَفِّذُوا مَا دَبَّرُوه، لَكِنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنْهُم فَخَرَجَ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ وَمَرَّ بَيْنَ صُفُوفِهِم فَأَعْمَى اللهُ أَبْصَارَهُم فَلَمْ يَرَوْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْديهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9].
اسْتَقَرَّ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِى بَكْرٍ أَثْنَاءَ سَيْرِهِماَ فِى غَارِ ثَوْرٍ، وَكَانَ “عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ” يَنْقُلُ إلَيْهِمَا أخْبَارَ “قُرَيْشٍ” أَوَّلاً بِأَوَّلٍ، وَكَانَتْ أُخْتُه “أَسْمَاءُ” تَحْمِلُ إليْهِمَا الطَّعَامَ والشَّرَابَ، وفى أَحَدِ الأيَّامِ، بينما كانتْ فى طريقها إلى غَارِ ثور، ومعها الطَّعام، لقيها بعضُ الكفار، فأسْرعت أسْماء، ومَّزقت نِطاقَها (حزامها) نصْفين: نصفٌ وضَعته على وسَطها، والنَّصف الآخر أُخَفت فيه وَعاء الطعام، حتى لا يراه الكفار، فيكشفوا أمْرها؛ فسَّماها رسول الله (ذاتَ النِّطاقَيْنِ)، أمَّا “عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ” رَاعىِ “أَبِى بَكْرٍ” كانَ يَسيِرُ بِغَنَمِ أَبِى بَكْرٍ وَرَاءَهُمَا حَتَّى يَمْحُوَ آثَارَ أَقْدَامِهِمَا.
اسْتَمَرَّ الكُفَّارُ فِى البَحْثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى وَصَلُوا إلَى بَابِ الغَارِ، قال أحدهم: هَلْ يُمْكِنُ أَن يكُون بداخِلِ هَذَا الغَارِ أَحدٌ؟، أندهش الكُفارُ وقالوا لبعْضهم: لا يُعْقَلُ أَنْ يَكونَ بداخِلِهِ أَحدٌ، ألا تَرَوا أَن بَابَ الغارِ صَغيرٌ وَمُنْخَفِضٌ للغايةِ، وهذا نسيجُ العنكبوت قد مضى عليه أعْوام كثيرة!، وهاتان اليَمامتان ترقُدان على بيضهما، ولم تطِيرا!، فَلَمَّا سَمِعَ “أُبُو بَكْرٍ” أَصْوَاتَهُم قَالَ فِى حُزْنٍ: “يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم نَظَرَ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمِهِ لَرَآنَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهما”، فَلَمْ يَرَهُمَا المُطَارِدُونَ، وَارْتَدُّوا عَلَى أعْقَابِهِم إلَى “مَكَّةَ” خَائبيِنَ خَاسِرينَ، قال تعالى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾[التوبة:40].
وَلَمَّا يَئِسَتْ قُرَيْشٌ مِنَ اللِّحَاقِ بِهِ ﷺ، رَصَدتْ مُكَافَأَةً ضَخْمَةٍ قَدْرُهَا مِائةَ رَأسٍ مِنَ الإبِلِ لمنْ يَأتِى بِمُحَمَّدٍ، خرجَ الرسولُ ﷺ وصاحبه أبو بكر من الغارِ بعدَ ثلاثة أيامٍ، فكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَصَاحِبُه “أبُو بَكْرٍ” قَدِ اسْتَأْجَرَا “عَبْدَ اللهِ ابْنَ أُرَيْقِطٍ”، وَكَانَ مُشْرِكًا لَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعَانَ بِهِ لِخِبْرَتِهِ بِطُرُقِ الصَّحْرَاءِ، فَسَلَّمَاهُ بَعِيرَينِ لَهُمَا، وَوَاعَدَاهُ أنْ يَأتِى إلَيْهِمَا عِنْدَ الغَارِ بَعْدَ مُرُورِ ثَلاثَةِ أيَّامٍ، فَلَمَّا مَرَّتِ الأيَّامُ الثَّلاثَةُ جَاءَ “عَبْدُ اللهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ” فِى المَوْعِدِ المُحَدَّدِ بِالرَّاحِلَتَيْنِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَصَاحِبُهُ “أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ” وَمَعَهُمَا “عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ” “وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ” رِحْلَتَهُمُ المَيْمُونَةَ إلَى “يَثْرِبَ”.
سَلَكَ “عَبْدُ اللهِ بْنُ أُرَيْقطٍ” بِاالنَّبِىِّ وَ”أَبِى بَكْرٍ” طَرِيقًا لَمْ يَكُنْ يَسلُكُهُ أَحَدٌ إلا نَادِرًا، لَكِنَّ “سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ” مضى فى الطَّريق يبْحثُ عن محّمد ﷺ، طَمَعًا فِى الحُصُولِ عَلَى الجَائزَةِ التِى أَعَلَنتْها قُرَيْشٌ لِمَنْ يَصِلُ إلَى النَّبِيِّ ﷺ وَيَعْرِفُ مَكَانَهُ، ومَا إنْ عَلِمَ سراقةُ بِمَكَانِ النَّبِىِّ ﷺ حَتَّى طَارَ بِفَرَسِهِ خَلْفَهُ، وَلمَا لْحَقَ بِرَكْبِ النَّبِيِّ ﷺ غَاصَتْ قَدَمَا فَرَسِهِ فِى الرِّمَالِ فَسَقَطَ مِنْ فَوْقِهِ، ثُمَّ قَامَ وَكَرَّرَ المُحَاوَلَةَ، فَغَاصَتْ قَدَمَا فَرَسِهِ فِى الرِّمَالِ فَسَقَطَ مِنْ فَوْقِهِ مَرَّةُ أُخْرى، فَخَافَ وارْتَعَدَ، وَعَلَمَ أنَّ اللهَ سَيَمْنَعُه مِنَ إيذاء مُحَمَّدٍ وَصَاحَبِهِ، فَاَخَذَ يُنَادِى بِأَعلَى صَوْتِهِ لِيَطْلُبَ الأمَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَمَّنهُ النَّبِىُّ، وَطَلَبَ مِنْهُ أنْ يُعَمِّىَ أعْيُنَ المُشْرِكِيَن عَنهُ ثُمَّ سَارَ الرَّكْبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِى أمَانِ اللهِ.
وَاصَل النَّبِىُّ ﷺ المَسِيرَ حَتَّى وصَلَ إِلَى قباء، وَهِى عَلَى مَشَارِفِ المَديَنةِ، فَمَكَثَ فِيهَا ثَلاثَةَ أَيامٍ، وَبَنَى بِهَا مَسْجِدًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجدٍ بُنىَ فِى الإسْلامِ، ثم وصل رسولُ الله ﷺ وأبو بكر إلَىِ المَدينَة عَامَ 622م، وَقَد اسْتَقْبَلَه أهْلُ يثرب اسَتقبالا حَارًا، يُنشدون وهم سُعداء:
طَلعَ البدْرُ عَلَيْنَا من ثَنِيَّات الوَدَاعْ
وَجَبَ الشُّكرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا للهِ دَاعْ
أيُّهَا المَبعُوثُ فِينَا جئْتَ بالأمْرِ المُطَاعِ
جِئتَ شَرَّفتَ المَديِنَة مَرْحَبًا يَا خَيْرَ دَاعْ
تَنَافَسَ أَهْلُ المَدينة فِى دَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِيَنزِلَ فى ضيَافَتِهمْ فَكَانَ كلٌّ منْهُمْ يُمْسكُ بِنَاقَةِ النَّبَيِّ ﷺ طَمَعًا فِى نُزُولهَا عِنْدَهُ، حتى بَرَكتْ الناقةُ عندَ دارِ أَبي أَيُّوب الأنصارىِّ، فكانَ رسولُ اللهَ ﷺ ضيفًا عليه، ثُم بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرى المَكَانَ وَبَنَى عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ وَمَسْكَنَهُ.
كانت هجرة الرسول ﷺ من مكة إلى يثرب، استعدادًا لبناءِ أعظمِ دولةٍ في تاريخ البشريَّة، وقد عظَّم اللهُ أجرَ المهاجرينَ، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[الحج:58ــ 59].