مقال

“تحت الوصاية” دراما صادقة تراهن على الشعب المصري وقضاياه

الناقدة السينمائية د .ليلى بالرحومة | تونس

تميز مسلسل “تحت الوصاية” بطرحه لقضية شائكة ومهمة تمس المجتمع المصري، تمت صياغتها بمنتهى البراعة والاقتدار، دون الوقوع في فخ المبالغة المملة ودون السقوط في الميلودراما .
تسليط الضوء على موضوع الوصاية على أطفال المتوفى من طرف الجد في تواجد الأم وأضراره هو الموضوع الأساسي لهذا المسلسل، و نتوقع أن يساهم هذا العمل في تغيير هذا القانون في مصر كما ساهمت قبله أفلام وأعمال درامية نالت نجاحا جماهيريا و تقبلا من المجتمع المصري مما أثر على المشرع ليعيد نظره في بعض القوانين.

الكتابة السيناريستية لخالد وشيرين دياب كتابة جيدة حبكت بشكل تظهر فيه الشخوص واضحة المعالم فالكتابة عميقة تدل على التمكن من خبايا علم إجتماع الأسرة و علم نفس الطفل ، بالنسبة للإخراج لمحمد شاكر خضير نلاحظ الإتقان و المجهود الفني المبذول إلى درجة تكتمل فيها العملية الإبداعية الدرامية من كل جوانبها، كادرات سينمائيّة بامتياز ،إدارة الطفل الممثل بحرفية كبيرة ذكرتنا بأعمال السينما الواقعية الإيطالية التي طالما فاجأتنا بممثلين أطفال تميزوا وأبدعوا نذكر على سبيل المثال الطفل “إنزو ستايولا” في فيلم سارق الدراجة .
فمسلسل “تحت الوصاية” مطنب في واقعيته الجميلة والبسيطة و كل حلقة بمثابة درس في السينما الواقعية ففي كل حلقة نجد عقدة درامية تتفكك بطريقة سلسة ومحبوكة تشد المتلقي.
ومما ساهم في نجاح العمل البعد الجمالي للمكان ففضاءات التصوير حقيقية، بحيث صورت كثير من المشاهد داخل ميناء حقيقي وداخل باخرة حقيقية مع تمكن و تمثيل متقن لتفاصيل الصيد البحري وخصوصية طباع الصيادين بحيث جاءت شخوص البحارة المرافقين لشخصية الفنانة منى زكي حاملة لمصداقية درامية كبيرة.

لقد صور المسلسل في مدينة “عزبة البرج” أكبر ميناء صيد في مصر، ودمياط هي من الأماكن التي نادرًا ما تم التصوير فيها ، يعني المناظر المصورة والمشاهد الطبيعية ليست مألوفة لعين المشاهد وهذا ما أضفى تشويقا في الحكاية وأعطى روحا مختلفة للعمل ، بعيدًا عن الصور الكلاسيكية عن البحر التي تعود عليها المشاهد في بحر الإسكندرية أو شرم الشيخ والغردقة.

على مستوى التمثيل نجحت منى زكي في نحت تحولات الشخصية وأبعادها الاجتماعية والنفسية
بأداء تشخيصي متميز تتفوق فيه على نفسها وتتجاوزها، فلا مسافة لديها تقريبا بين الانفعال الداخلي وتعابير الوجه و حركات الجسد . لقد أدت الدور بحساسية مرهفة، وموهبة فذة فنسينا تقريبا أن منى زكي أدت لسنوات دور البنت المصرية الجميلة الرومنسية، لقد قدمت لنا هذه المرة صورة كسرت بها القوالب فتنازلت عن جمالها لتقترب أكثر من الشخصية الحقيقية للأرملة المكسورة.

حبكة المسلسل ومصداقية الشخوص جعلت كل من يتابع هذا المسلسل يتعاطف بتماهي كبير مع شخصية الأرملة الأم التي تؤديها منى زكي بصدق يلامس مشاعر المشاهد، هذا التعاطف الذي يصل لدرجة الحقد على الشخوص الرجالية التي تستغل هذه المرأة المنكسرة .
الشخصيات الرجالية أبدعت أيضا ونذكر هنا تميز الفنان القدير “محمد عبد العظيم” في دور الريس فنحتار هل نكرهه لدور الشر الذي صدمنا به أم نحبه تقديرا لمجهوده و صدقه في أداء الدور حتى أن جملته الشهيرة ” ده جنبري مزارع” صارت حديث الجميع طيلة مدة عرض المسلسل.
تميز أيضا الاستاذ الكبير” رشدي الشامي” العائد بقوة للشاشة إضافة الى “خالد كمال” في دور البحرية حمدي، كما تميز ” أحمد عبد الحميد” و”دياب” في دور العم الشرير والمتسلط.
تقريبا كل الممثلين كانوا في أدوار مناسبة لهم ، يؤدون بإتقان ويتحركون في أماكن الشخصيات وبيئتها بكل بساطة ودون تكلف وكأن عالم الصيادين عالمهم الطبيعي . كما لا ننسى تالق مهى النصار ونهى العابدين .
الطفل “عمر الشريف” رغم صغر سنه لمحنا نضجا واضحا في أداءه الباهر بعد عمله في فيلم بره المنهج ومسلسل البحث عن علا، لقد أبدع هذا الطفل المعجزة في دور ياسين فكان صادقا في شجنه وبكاءه وغضبه الطفولي البريء وجعل الجمهور يحبه ويتعاطف معه و ذكرنا أحيانا في طفل فيلم كفرناحوم لنادين لبكي .
كما لا ننسى لمسات “ريم العدل” في تصميم الملابس فرغم إنحصار كل اللبس في بوتقة الفقر والخصاصة والجو الشعبي إلا أن الجمالية كل الجمالية في كمية الصدق والاقتراب من واقع البحارة والصيادين ،وراء تصميمات ريم العدل حس مرهف وذهن يفكر ويدقق في التفاصيل والجزئيات .
بالنسبة للموسيقى التصويرية هي من تأليف الفنانة “ليالي وطفة” و رغم كمية الشجن الموجودة في المسلسل إلا أن الملحنة لم تعتمد ذلك الارتجال السهل والثقيل على المتلقي وذلك الاستسهال و اللجوء الى مقام الصبا أوالاستعمال المجحف لآلتي الكوله والناي كما تعودنا في كلاسيكيات الدراما المصرية والعربية عموما ، بل بالعكس بدت مبتكرة مجددة إذ إعتمدت موسيقى أوركسترالية تعتمد على مزج متناغم بين الآلات الوترية والآلات الهوائية فعبرت الموسيقى عبر المقامات التي تم إستعمالها كما يجب عن جو البحر والصيد والميناء .
يعد تحت الوصاية عمل فارق في الدراما المصرية لأنه يعبر عن توجه يرهص بتحول جديد ، توجه موغل في واقعيته يعالج هموم المواطن المصري يهتم ، بقضايا المرأة وقوانين الأسرة والأم .وهذا يحسب للدراما المصرية فمنذ مسلسل فاتن أمل حربي لاحظنا أن هنالك نزعة حقيقية نحو الاهتمام بالأمومة والأطفال والأسرة وهذا التوجه جدي ومشرف ، فهل سيؤدي العمل إلى إعادة النظر في قانون الوصاية ويكون بذلك الفن في خدمة المجتمع وقضاياه الهامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى