إشارة: فيلليني.. فن اللحظة
برهان المفتي | كاتب عراقي
نحب رؤية الأهداف الجميلة من زوايا الملعب جميعها، أياً كانت اللعبة، وكذلك تعجبنا إعادة لحن مميز مرة بالعود ومرة بالكمان وكذلك بالناي والبيانو، وفي كل مرة نكتشف شيئاً جديداً قد يغيب عنا في العزف الجماعي.
اللحظة الفارقة هي التي تشكل الحدث، مثل تلك حين الانفجار العظيم، وما هذا الوجود إلا من تلك اللحظة. قليلون لهم قدرة اصطياد اللحظة الفارقة رغم سرعتها مثل ذلك المصور الذي كتب على واجهة محله ” الحياة فقاعة صورها قبل أن تنفجر”، وأقل منهم مَن يجعل من صيده ذاك حكاية بتقنية ” من حبّة قبّة”، والنادر مَن له القدرة على سحب العالم كله إلى تلك اللحظة الضيقة بزمنها ، ولكن كأنها الكون بتفاصيل اللحظة في تناسق مدهش بين لحظة الانفجار العظيم ولحظة الحدث الفارق في الحياة.
لكل مِن أسمه صفة شخصية، كذلك (وحيد الطويلة) الكاتب المصري المدهش، فهو يجعل لحظةً (وحيدة) حدثاً ( بطول العمر) وصفحات رواياته، يجعل من لحظة في حمّام ملهى ليلي تتحرك وتطول في صفحات روايته (باب الليل)كلها، ومن لحظة على طريق المطار وفي سيارة ضيقة حياة أمرأة وعمرها بكل صراعاتها وتناقضاتها ونفسيتها وحتى هرموناتها وعلاقاتها السرية كما في رواية (كاتيوشا)، ومن لحظة مواجهة بين جلاد مشلول غائب عن كل شيء هي لحظة لكل شيء.. هكذا في (حذاء فيلليني) والصراع النفسي بين “مطاع” و “مطيع”، ذلك الصراع وتحليله يصلح أن يكون منهجاً في دراسة علم النفس، كما يصلح أن يكون مرجعاً مؤسساً لعلم جديد هو “القبيولوجي- علم القبو” في أقسام الشرطة، وحتى في كيفية إدارة “القبو الخاص” كما يدير الطبيب مستشفاه الخاص أو المهندس مكتبه الهندسي أو رجل الأعمال في إدارة أملاكه وأسهمه.
لكن ما يميز فن وحيد الطويلة هي القدرة الفنية في نحت جمل رواياته نحتاً يجعل القارىء في معرض عجيب حين يكتشف أن الكلمات لها قابلية أن تظهر بأجمل أشكال النحت بل وأكثرها فرادة، ذلك هو نحت الدهشة. كل جملة في رواياته لعبة ممتعة، ستراجع نفسك كيف لم تنتبه لقدرة كلمة ما أن تصف كل شيء حتى دون أن تغير فيها أي شيء، وحيد يعرف سر ذلك مثل خيميائي ماهر رغم أنه يعلن ذلك السر للجميع، ولكن بصوت فيه التحدي: هل فيكم مَن يفعل ذلك ؟
في أي رواية من روايات وحيد الطويلة ندرك يقيناً أننا أبناء اللحظة الفارقة، وضحايا اللحظة الفارقة، بل وحتى عشاق اللحظة الفارقة، ولكل نصيب من لحظته الفارقة بحسب ظرف لحظته الفارقة التي قد تجعله سعيداً أو تعيساً.. ولكن واحداً فقط جعل من لحظته الفارقة لحظة زمن (وحيد و طويل).