قراءة في ديوان المغربية جليلة الخليع: ظل منحنٍ على مقعد الشمس
بقلم: زياد جيوسي
حين حط في بريدي كتابين للكاتبة والشاعرة الأستاذة الدكتورة والباحثة جليلة الخليع من المغرب العربي، شعرت بفرحة كبيرة حين تصفحت الكتاب الأول “رسائل ليست له” في عمَّان، قبل أن يرافقني الكتاب الثاني وهو ديوان الشعر “ظلٌ منحنٍ على مقعد الشمس”، في حقيبتي اليدوية لأقرأ على الطريق وفي وكني في قريتي خلال رحلة الشتاء للوطن المحتل، حيث اعتدت قضاء بعض الخريف والشتاء وقسم من الربيع في الوطن، حتى حلول رمضان فأعود إلى عمَّان وشرفتي العمَّانية.
لوحة الغلاف وتمتد على الغلافين الأول والأخير عبارة عن مشهد طريق في متنزه شجري والأزهار وأوراق الشجر المتساقطة جعلت من الطريق والأرض لوحة جميلة متمازجة الألوان غلب عليها اللون الأصفر مما يشير للخريف، والأشجار على جانبي الطريق ومدى الرؤية، ومقعدين من مقاعد الحدائق على جانبي الطريق يشكوان من الضياع والوحدة، وتنعكس عليهما الشمس والظلال، وعلى الغلاف الأخير مقاطع شعرية من الديوان، فلعل هذه اللوحة للغلاف تعبر جيدا عن عنوان الديوان الصادر عن دار السليكي للنشر في طنجة/ المغرب.
الاهداء الجميل الذي كتبته الشاعرة بخط يدها لي قالت فيه: “هو محاولة للبحث عن اللغة أو رسم لأشياء تشبهنا، هو اقتفاء للشعر في هذا الضياع الذي يحيط بنا”، لفت نظري بقوة قبل أن أبدأ بالقراءة وأشعر بكم الضياع بين جنبات الديوان وبين الحروف وخلف اللوحات المرسومة بالكلمات، فالضياع تكرر في النصوص بشكل او آخر اضافة لمسائل أخرى ستكون مدار تحليقي في روح الشاعرة من خلال نصوصها الواحد والثلاثين في صفحات ديوانها التي بلغت 105 صفحات من القطع المتوسط.
أول ما كتبت الشاعرة في الديوان في صفحة مستقلة هو: “لا شيء يربطني بذاتي، لا شيء يكتبني قصيدة”، وهذا مؤشر قوي للضياع الذي سنراه في جنبات الديوان، وكانت مقاطع على اربع صفحات ما بين سطرين فأربعة فخمسة فستة مقاطع قبل أن تبدأ نصها الأول، وكأن هذه المقاطع مقدمة شعرية أملتها روح الشاعرة فخرجت عن المألوف بتقديم من شخص آخر أو تقديم نثري منها، وهذه المقدمة إن جاز التعبير أعطت فكرة مسبقة عما سنحلق به بين دفتي الكتاب، حين تقول فيها: “محابري في الظل، تحاول رسم اللامكان، عبثا تسيل، حيرى، فينهمر الضياع”، وبعد القراءة الأولى عدت بين دفتي الكتاب للبحث عن الضياع وعن البقاء.
الضياع: في النص الأول والذي حمل عنوان: “اسطورة الحظ”، نرى الضياع كامنا في العنوان حيث الاسطورة خيال سطره القدماء من خيال لا يتحقق ولا يقارب الحقيقة، فهي في هذا النص تفتقد الفكرة ويتنكر لها الحرف وتفقد الحلم وتمر في حالة قاتمة من الضياع تنهيها بالقول: “وأنا أسطورة، حظ أجرب، يتآكل، في تقاطع الأظافر، لينتهي ميتا، كما ولد ميتا”، بينما في نصها: “إفلاس” تبدأه بالحديث عن الضياع فتقول: “وسنوات الضياع، تتمدد بلظى الإنتظار”، وتنهي النص بالقول: “وأعلن افلاسي”، فهل أكثر من هكذا ضياع كما صورته الشاعرة؟ وتعطينا صورة ضياع أشد قسوة في نصها “اكتئاب” بقولها: “كل الظلال كاذبة، فاحتميت فيها عندما، أشرقت شمس الحقيقة، لتظلي بالعتمة”، وفي نفس النص تقول: “كل المرافئ، غير صالحة لِرُسُوَّكِ”، فتستمر حالة الضياع في الكتاب بدون توضيح لسبب هذا الضياع الكبير، وفي نصها “التواءات” تشير للضياع خلال محاولات الهجرة بالبحر فتقول: “لا نورس يحلق في الأفق، وملامح بلادي بعيدة، خارطة وعمر..”، وفي نصها “الرسم بالكلمات” وهو عنوان ديوان للشاعر نزار قباني تقول: “بقصيدتي التي أعياها دوار البحر، وأتلفت قوافيها عند تصدع العجز”، بينما في نصها “اللاقراءة” نجدها تعبر عن الضياع بالقول: “حبات أفكار مبللة، تراصت عند خطوط البياض، فأعلنت اللاولادة”، بينما نرى الضياع يتمثل في نصها “بقايا في قعر الدواة” بالقول: “أكتظ بي وبي، يستعيدني وهمي وهما آخر، بفقاعات الحلم الزرقاء”.
هذا الضياع في نصوص الشاعرة يثير التساؤل عن العوامل النفسية التي أحاطت بها خلال فترة بوحها لهذه النصوص، وبالتأكيد هي مرحلة زمنية وليست أيام عابرة في رحلة الزمان، فهي تتأوه وتتألم وهي تعيش الضياع الذي يطغى بعتمته على الرغبة بالبقاء، ولكن ورغم كل هذا الألم إلا أن الشاعرة كانت تعيش الوعي الجمالي في بناء النصوص، فكانت نصوصها قائمة على أساس متين من اللغة باستثناء الاستخدام لمصطلحات غير عربية في بعض النصوص والتي سأشير اليها لاحقا، فلم تأتِ نصوصها بقوتها ومعجمها اللغوي متأثرة بالحالة النفسية، بل تجاوزتها بالبنيان وتشكيل كل الكلمات حتى لا يقع القارئ بالخطأ بقراءة الكلمات، وهذا ما سنراه بالنص التالي وهو بعنوان “دوار الفراغ” وهو أول نص في رحلة الضياع تشير فيه لبعض ما ولد هذه الحالة التي تاهت فيها، فهي في هذا النص تخاطب الآخر لأول مرة في الكتاب، حيث كانت كل النصوص السابقة محادثة بين الذات والذات، فتقول في هذا النص: “ما زلتُ على قيد الصفاء، وأنتَ لوحتي التي لم تكتمل”، وتكمل في نفس النص مخاطبة الآخر: “ما زلتَ تختفي عندما ترتكب الظَّلال، جرم التغيب، ومنظاري يرقب كل المجراتِ، عله يعثر على لون الغربة، في سمائكَ البعيدة عني”، وتكمل في نفس النص: “ما زال الشتاءُ متربصا بعمري، وأمطاركَ وابلٌ من وجع”، ومرة أخرى تخاطب الآخر بنصها “متفرقات”، وتعود لخيباتها والضياع بنصها “رعشات” فتقول: “أستحضر إخفاقي ملء الدمع، أسكب عمري في كف الزمن”، وتزداد حالة الضياع والإحساس به في نصها “سأمضي” فتقرر الرحيل وتقول في بعض من النص: “سأمضي، والذكريات تتلاطم صفحاتها، عند دفتي قراري”.
تواصل شاعرتنا جليلة الخليع رحلة الضياع في ديوانها ونصوصه، ففي نصها “سريالية بألوان الغيظ” تقول في نهاية النص: “عند بوابة القصائد، ينهرني الزمن”، لتنقلنا إلى نص بعنوان “سنة لا غير” ويلاحظ في هذا النص أنه يظهر وكأنها تتحدث عن امرأة أخرى بينما هي تخاطب ذاتها بشكل منفصل عنها وكأنها امرأة أخرى، بينما النصوص السابقة تتحدث عن الذات فتقول في مطلع النص: “وتأتي مسرعة كالبرق، تمضغ اوجاعا، وتعض أطراف الخيبة”، بينما تعود للحديث عن الذات في نص “شيء ما” فتقول في نهاية النص بعد وصف مطول للحال: “شيء ما، يشبهني كثيرا، وأنا أطفئ قناديلي، وأفسح مسارات، للدمع”، وفي نصها “عبث” يتبدى الضياع بالقول: “يطلون من تصدعات الزمن، يمررون هزائمهم، ليقصف الرعد، معلنا الملل، في دُرج الحياة الكئيبة”، بينما في نصها “عُمر” والذي اعتلته عبارات لهنري ماتيس تقول: “ننعي الماضي، ونتشبث بأوهامنا القديمة”، وتستمر رحلة الضياع فيما تبقى من نصوص فنجدها تتجلى بالنصوص المعنونة: “غروب”، “غريقة أمد يدي لأمي” والتي تنهي النص بالقول: “عالقة “أنا” ما بين السماء والماء، صورة بضبابية البكاء”، ونصها “في الركن البعيد الصاخب”، و”فيزيائية البوح” و”قصائد مهجورة” و”لا ظل يتبعني” وتقول فيه: “ما زلت على قيد الحياة، أنتظر موتي”، وفي نصوصها “متمردة”، “متواليات”، “ما بين قوسين وشاطئ”، “مشاعر”، “هدير”، “هنا القصيدة”.
البقاء: ورغم الضياع والإحساس العميق بالخيبة الذي عشناه مع الشاعرة في تحليقها، إلا ان البقاء والإصرار عليه كان واضحا في جنبات أشعارها، وإن لم يكن بالمساحات التي أفردتها للضياع، لكنه التشبث بالأمل يطل علينا ولو كان أملا ضعيفا وحلما مشوشا، ففي نصها: “أسطورة حظ” ورغم كل الخيبات فيه إلا انها تمنح نفسها فرصة فتقول: “أبحث عن خط حظي، في كف الحياة”، وفي نفس النص تقول:”أستودع خيالاتي، عين الشمس، حتى تشرق ببلد، لا أسكنه، لا يعرفني”، وفي نصها “إفلاس” نجدها تقول: “أنني ما زلت أقف على أصابعي، لأطال مدارات محجوبة”، وفي نفس النص تقول: “ما زلت أنا، عند فوهة التفكير، أتمتم، أصرخ فجأة، أنهر الزمن الماضي”، ويطل علينا الحلم بالبقاء في نصها “صوت آخر”، فتقول: “”أغمضت عيني، وتأبطت حلمي، إلى حيث لا أفق”، وفي نصها “عبث” تواصل الحلم للبقاء فتقول: “تمتد إلى مسافات الحلم، اللامتناهية، وتترك صداها هناك، يغري العابرين ليلا”، وفي نصها “مدارات معطلة” تقول: “ألغي عقلي من عقدة تفكير، وأوقع بندا للسلام مع ذاتي، وأعود، ببند جديد”.
ونلاحظ رغم قوة اللغة المستخدمة في الديوان، كون الشاعرة حاصلة على درجة “الدكتوراة” في الأدب العربي “وحدة النص العربي القديم” وهي استاذة باحثة، إلا انها لجأت لاستخدام مصطلحات غير عربية مثل: “سريالية وقد استخدمتها عدة مرات في النصوص ومرة واحدة في العنوان/ Puzzle/ ريختر وهو مقياس قوة الزلازل، الجاذبية “النيوتنية” وهذا مصطلح استغربته فنيوتن مكتشف قانون الجاذبية ولا يوجد شيء اسمه “جاذبية نيوتنية”، وهذه الاستخدامات أضعفت من قوة اللغة العربية المستخدمة وبدت الكلمات الأجنبية وكأنها نشازا في النصوص، ونلاحظ أن الشاعرة كانت دقيقة باختيار عناوين نصوصها وعنوان الديوان، فالعنوان للكتاب أعطانا الفكرة الأولية والعتبة الأولى للنصوص متمازجة مع لوحة الغلاف، والعناوين للنصوص عبرت عن النصوص بدون تعارض بين العنوان والنص إلا حين استخدمت كلمة غربية وليس عربية، وكانت النصوص قوية من حيث اللغة والصياغة والتشكيل والتنسيق بشكل عام وليس مطلق، فكان للشاعرة معجمها اللغوي القوي، ورسمت بالحروف مساحات من لوحات رغم حجم الضياع والألم فيها، فكان شِعرها جميل ويشد القارئ بقوة أن لا يترك الكتاب قبل أن ينهيه، فقد حفلت النصوص باللوحات التي روت حكاية الضياع في غالبية الديوان، والبقاء في صور أخرى، فكانت النصوص حافلة بصور بلاغية واهتمت فيها بالتشبيه والمجاز والرمزية، تاركة للقارئ أن يستنبط الحالة والأزمة النفسية التي فرضت نفسها على النصوص، وتركت للقارئ أن يراها مفتوحة على العديد من الاحتمالات، ومنها أزمة الوطن التي تكررت ببعض النصوص ومنها نص “قصائد مهجورة” حيث تبدأ النص بالقول: “تخونني مدني، ليظل وطني بلا سقف”، وفي نصها “التواءات” حين تقول: “وملامح بلادي بعيدة، خارطة وعمر..”، فالشاعرة ورغم حجم الألم كانت تعيش الحلم خلف الكلمات، تحلم بالفرح والوصول والبقاء، وبالتأكيد أن لكل كاتب أو شاعر تجربته الخاصة التي تنعكس بشكل أو آخر على ما تبوح به روحه، وهذه الخصوصية هي التي تجعلنا نميز بين الأعمال الأدبية غثها وسمينها، من خلال تحليق خيالنا بالكلمات وما وراء الكلمات وفي روح الشاعر والكاتب، فكانت النصوص فعلا “ظل منحن على مقعد الشمس”.