بقلم: د. أحمد جمعة
يتردد داخلي طوال الوقت: يا كمال يا كمال، بدي يوسف بدي يوسف، يا عمّار يا عمّار!
هل انتهى كل شيء هكذا فجأة وبهذا العمر القصير؟! لا أستطيع تحمل فكرة أن ينتهي الأمر بهذه السرعة، وأن يعيش المرء بعدها عمرا كاملا من الألم، من تكرار النداء الأخير، من تخيل النظرات الأخيرة، ليس أقسى من أن يموت من تحب، وتعيش، تعيش على فتات الذكرى، كل كِسرة ذكرى تجرح العين بملحها، تفتح في العقل ألما لا يسكت بتهديد عصا أي مسكّن، فقط يرتفع صريخه وينهش بلا توقف كل خلية في الشعور، كل خلية في القلب..
كيف انتهى الأمر بهذه السرعة يا كمال، كيف هكذا انتهى الأمر يا يوسف، كيف راح الولاد إلى قبورهم دون أن يتناولوا عشاءهم الأخير؟! كيف سيعيش الأب بعدما التقط صورة مع أشلاء عائلته، صورة عائلية للذكرى؟!
صدقني أقسى ما يحتفظ به المرء هي الصور، لأنها ليست فقط دموعا مؤجلة، إنها موت لا ينتهي، يفتك بصاحبه كلّما فتح الصورة، عذاب لا يدرك كنهه إلا الله..
لا تتوقف كلمات الأم عن التردد في رأسي: عمره سبع سنين، شعره كيرلي، أبيض وحلو ..
أي كلام قد يعزي هذه الأم عن الأبيض خاصتها أبو شعر كيرلي؟! حتى إنها لم تستطع الاحتفاظ منه بشعرة تؤنس بها روحها حين تستفرد بها الوحشة كل ليلة، تلتهما بتلذذ مقيت، لا كلام قد يشفي الجرح الذي انفتح في قلبها، بل إن قلبها كله الآن جرح لن يدمله أي رثاء..
يؤلمني بقساوة أن كمال قد رحل أيضا، لكن يسري عن وجعني أنه استجاب لاستغاثات أخيه، راح يخمد حريق صوته المترجي، راح يحضنه ويضمه إلى قلب طفولته ويحنو عليه بقبلة الأنس..
يا عمّار، لم لا تجيب على نداء سمية التي تسكن روح أمّك؟! إنها تنتظرك تخرج نبيا من تحت الركام، تنتظرك من يوم، يومين، سنة، تنتظرك من عمر دموع الأنبياء في قبلة المقدس، لماذا لم تخرج يا عمّار لأمّك كي ترى؟!
لماذا لا يستجيب العالم لنداءات الأمهات؟! لماذا لا يأتي لها العالم ببنتها؟! لا يتوقف نداؤها داخلي: يا عالم هاتولي بنتي! هل كل بنات العالم الغربي كافيات ليعوضنها نظرة واحدة إلى بنتها؟! هل ملامح بنتها المطبوعة على جفنيها، وعلى حجرات قلبها، تشبهها ملامح أي بنت مهما بلغ جمالها في هذا العالم الجافي السافل؟! هاتوا لها مرح التي تحب رسم الجمال والضحكات والعيون الفائضة بالبسمات، هاتوا لها بيسان التي كانت تريد علاج العالم من أحزانه.
يا الله، كان ينوي عمل عيد ميلاد لها، لماذا أطفأوا شمعة قلبه وأشعلوا في روحه جحيم الغياب؟!
أخبروني، ماذا فعلت تلك الطفلة الصغيرة بكيس براءتها ما زالت؟! عشرين سنة كان ينتظر قدومها، ثم هكذا فجأة تروح؟! هكذا ترووووح؟!
من يمسح من ذاكرة الطفل الذي كان يقف عند رأس أمه الممددة على سرير المشفى هذه الفجيعة؟! وأي ذكريات جديدة قد تمحو هذه الندبة التي بحجم أم؟!
كن بار بأمّك يا عُمر، ردد خلفها الشهادة كي يبرد قلبها الأسخن من نار الآخرة، كي تعود إلى أحزانها عالية الرأس، فخورة بشهادة طفلها الذي لم يدرك بعد خيانة الأوطان لمواطنيها، هيا حبيبي، ارفع صوتك كي تسمعك ضمائر العالم العفن، ربما تبث فيهم نخوة المعتصم.
لقد كانوا سبعة وثامنهم أمهم، من أدخلهم كهف الموت بلا رحمة وسمح لكلب القذائف أن ينهشهم هكذا؟! لربما يأتي يوما صلاح الدين ويبني على أشلائهم مسجدا تأسس على تقوى وعزة لا شفا جرف هار وخيانة.
تتردد داخلي أصوات كثيرة تلعنني، وتدفعني بلا هوادة إلى الخزي من نفسي، لا أستطيع رؤيتي، ولا سماعي، هذه الأصوات تنهشني وتجر روحي من شعرها إلى حقيقة لم يكن لتُصدق، النوم مع مثل هذا النخر في الرأس مستحيل، لعل موتا يرحم ما ألم بي من عذاب..
هل انتهى كل شيء هكذا فجأة؟! نعم، انتهى كل شيء، فقط بقي الألم والحزن الأبدي