توتة جدي
د. محمود رمضان
مبهجة هذه الحسناء، تسير برشاقة محببة، بكلمات مدادها بلسم من شهد التوت الأبيض النقي، وعيون ترسم بابتسامتها فرحة أمواج نهر النيل وشوق اللقاء المنتظر للعاشقين، أخبرتني بسر التوت الكامن خلف مذاق حلاوة التعبيرات الجميلة وبلاغتها المصرية الراقية: من النيل ارتويت، وسمرتي الخفيفة من لفحات شمس قريتنا الثرية بالحب، بيتنا قابع على أطراف مزرعتنا التي تمتد لعشرين فداناً، بيتنا هو بيت العائلة، كبير، واسع، ممتد على نصف فدان، فيه جدي وجدتي وأبي وأمي وأشقائي وشقيقاتي، وجميلة ذكرياتي مع جدي الذي اختصني بحكاياته الرائقة تحت شجرة التوت.
أنا آخر العنقود كما يقولون، أصغر البنات، وجميلة كقطعة من أمي التي بذل أبي في سبيل الزواج منها الكثير من الحب والمال.
بعد العصر، كان جدي يصطحبني لأطراف المزرعة تحت شجرة التوت، يروي لي حكايات رائقة ممتعة، عن العلاقات الدافئة بين أهل القرية الهادئة القابعة على ضفاف وأحضان النيل، الحياة الهانئة، سخية وثرية الملامح، طوفان الحب يغمر الجميع، يحكي لي عن الفلاحين في أرضه، ومدى ارتباطهم بالأرض وتفانيهم في خدمتها، من حرث ونشر البذور وري، وتعدها الدائم بالرعاية كأنها قطعة منهم أو كأنهم قطعة منها.
تحت الشجرة الكبيرة كثيفة الأغصان والأوراق، تعلمت من جدي الحكمة من حكاياته، وكيفية معالجة الأمور بروية بعيداً عن الانفعال.
كانت ثمار التوت تتساقط علينا أثناء حكاياته، أجمعها في طبق، ويصر جدي على أن يطعمها لي بيده، واحدة واحدة، لأتذوق حلاوتها وأرشف من ابتسامات جدي وهو يطعمني الثمار الطرية الطازجة، حلوة الطعم، وبين أزهارها وأوراقها يانعة الخضرة.
علمني جدي ثقافة الجمال، ومصدر ينابيع الحب، وفن التعامل مع الفلاحين في الأرض، كإبنتهم ولست ابنة مالك الأرض، وأشارك بناتهم الصغار، من هم في مثل عمري، آنذاك، لهوهم ومزاحهم ولعبهم الجميل البريء، وكنا نتبادل الهدايا البسيطة في الأعياد والمناسبات.
حتى بعد أن التحقت بالجامعة، وسكني بالمدينة الجامعية، كنت أسافر لأقضي مع أهلي يومي الخميس والجمعة، وأصر أن أصطحب جدي، إلى شجرة التوت، أحكي له عن أجواء القاهرة، والجامعة، وزميلاتي، فكان يسر إلى أمي بتجهيز كل ما يلزمهن من خيرات الريف، الفطير المشلتت وعلب السمن والزبد والبط والحمام وعلب الحلوي.
فور عودتي للمدينة الجامعية أطرق أبواب زميلاتي، جميعهن، الفقيرات وميسورات الحال، لأعطيهن كل ما حملت معي من قريتي من خيرات الله، وأرى فرحتهن الغامرة تتقافز من قلوبهن فتزداد فرحتي.
جدي كان يصر على أن أدعوهن لقضاء أسبوع في بيتنا العامر في أثناء الإجازة الصيفية، نقضي معا أجمل الأيام، ويصطحبنا جدي لشجرة التوت، نتحلق حوله وهو يروي لنا من ينابيع حكمته وحكاياته الرائقة.
أحببنه، كلهن ينادينه جدي، وتأتي لنا جدتي وأمي لنتناول جميعا الغداء تحت شجرة التوت، في أجواء المرح والحب، ولايزال جدي يصر على إطعامنا من شجرة التوت، يبدأ بجدتي، حبيبته، ثم أمي بكريته، فصديقاتي وأنا.
توا، عدت من قريتي، وهاهي السيارة محملة بخيرات الله، وكما ترى فزميلاتي يلوحن لي أن أقبلي لنسمع منك حكايات جدي.