التكوين الشعري, وتقنية المونتاج في قصيدة (شط العرب) للشاعر منذر عبد الحر

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

أخذت القصيدة العربية المعاصرة تستعير من الفنون الأخرى بعض الأساليب الفنية التي تساند عملية البناء الشعري,وتدفع بها إلى حالات تشكل شعري جديد تضمن لها حضورها,وديمومتها,مثل استعارة أسلوب الحوار من المسرحية,وتوظيف المعطيات السردية,وتيار الوعي من الرواية الحديثة,وكذلك استعارة الأنماط الفنية في فن الحكاية وتوظيفها,وأخيرا تعاملت القصيدة العربية مع الفن السابع(السينما), واستعارت منه أسلوب المونتاج,أن كلمة مونتاج الفرنسية الأصل تعني قطع اللقطات السينمائية ولصقها,أما في اللغة الانجليزية فتسمى مرحلة قطع اللقطات السينمائية,ولكن عملية وصل اللقطات بطريقة خلاقة أو الحصول على تأثير خاص-وهو ما توصل إليه السينمائيون الروس الأوائل- فتسمى مونتاج أيضا,وقد ترجمت في بعض الكتب العربية إلى (التوليف,والتقطيع)وأبقيت على تسميتها(مونتاج) في أكثر هذه الكتب,إذ  إن هذه التسمية تلم بكل مراحل تقنية المونتاج,لأنها الأصل في التسمية,وتذهب أبعد من مجرد الإشارة إلى آلية القطع واللصق[1],إن هذه الدراسة تعمل على كشف مدى إمكانية أن تكون القصيدة العربية المعاصرة قد أفادت من هذا الأسلوب الأخير المونتاج ,وتقنياته التي تعد بؤرة العمل السينمائي,متخذة من قصيدة  (شط العرب) للشاعر (منذر عبد الحر) أنموذجا لها[2] ,فلو أخذنا المرحلة المنتبهة التي تتجاوز المرحلة المباشرة إلى أساليب مونتاجية تدل على انتباه هذه المرحلة في استعمال هذه التقنية(المونتاج),أي المتجاوزة لمفهوم المونتاج فيزيائيا هو ربط لقطة واحدة بأخرى[3],إلى مرحلة تحاول الإحاطة بعموم المشهد,وخير مثال على هذه المرحلة قصيدة : (شط العرب) للشاعر منذر عبد الحر, إذ افتتح المشهد بقوله :-

-1-

رميت شبكة الصيد

على ذكريات علقت

في كومة قش في الماء

حصيلتي:

أسئلة وأصدقاء

وجوه.. وضحايا

قرابين … وأغنيات

انتظار انكسارات [4]

   إن الدلالات تنمو طويلا,ربما داخل الأمواج السائبة للحوادث اليومية المشروطة بـ(البداهة التافهة), و(السيلان القدري) الذي يجري بمعزل عن الإرادة البشرية, أو المشيئة الإنسانية التي لا وزن لها سواء في للصمت يأتي الشعري غفلا عن التوقيع,يتحرك كما لو أنه طيف ليكسر قارورة اليومي, ويجعل رائحة الخوف,والدهشة تنساب بلا تكلف يذكر داخل يوميات قصائد منذر عبد الحر,وهو يحاول  الحديث عن ذكريات قديمة عاشها الشاعر في مدينته البصرة التي عشقها, وجروحه النازفة في مجموعته الشعرية عموما, وفي قصيدته الآتية خصوصا[5] وقد أجاد الشاعر في استخدام الرموز المعبرة عن الواقع المرير الذي عاشه الشاعر ,فنراه يقول:

-2 –

بدا الكورنيش صحراء

حين استبدل عشاقه الحالمين

بقطط ضالة

وكلاب سائبة

وجمع من المشردين

وتمثال شاعر

هجمت عليه الشظايا

فثقبت قلبه .. وجيبه

وأبيات قصيدته

   شجرة البمبر..

جسدها جريح[6]

  يتشكل المشهد الشعري في القصيدة كلها من لقطتين,لقطة صغيرة جدا تستغرق(4) اسطر شعرية,ولقطة كبيرة تستغرق (6) أسطر شعرية, وحركة المشهد تخرج من قوة الصدمة بين هاتين اللقطتين,ففي اللقطة الأولى كانت الحركة واضحة, وهادئة ,وفي وضع معلوم, ولاسيما بعد إعادة أول حركة في هذه اللقطة ,وهي (شط العرب) إذ أعيدت هذه الحركة في منتصف اللقطة لتمثل على سهولتها استعمالا سهلا لأسلوب الاسترجاع[7], وذلك ليعزز حضور اللقطة ككل بأجوائها, ودلالاتها, وفي هذه اللقطة تبدو الحكاية الشعرية مباشرة من حيث,تواصل الصور وبناؤها,  لان الشاعر منذر عبد الحر  منتبه في الإفادة من تقنية المونتاج, وذلك من خلال القصدية التي جاءت بها اللقطة الثانية, وهي تحمل دلالات تملأ القصيدة بالحركة إذ إن حركة هذه اللقطة مجهولة,ومرتبكة[8], وقد تجسدت في المقطع الآتي من القصيدة فنراه يقول:

-3-

في طفولتنا..

نجتمع عند ضفاف الظهيرة

نسترق السمع لنداء باخرة قادمة

وحين يمزق زعيقها سور الصمت

نتسابق لبلوغ المرسى

جاء البحارة من البلدان البعيدة

يحملون بضائع الدهشة

وهم فرحون

يهزجون [9]

  ومع هذا الغنى في تنوع البنية, جاءت  قصيدة (شط العرب) بموضوعات مستمدة من روح الواقع العراقي في الزمن الماضي, إذ  كان الجوع, والألم والفرح, والطفولة, جديرين بإثارة القلق الوجودي في نفس الشاعر, واستنهاض كلمته المناوئة للواقع, والنافذة له, لتبوح القصائد بمواجع الذات, والآخر, وترسم خطا بيانيا للازمة التي تعصف بحاضر الإنسان, ومستقبله[10], فنراه يقول:

-4-

جسدها جريح

مازال دم الفجيعة يسيل منها

الأمواج هاربة نحو الجنوب

وهي تحمل شهقات أغنية :

على شط العرب تحله

أغانينا وعلى البصرة

كمر ونجوم يا محله

ليالينا وعلى السهرة [11]

     لم نلمح في تفاصيل هذه القصيدة  بارقة لروح تزدهي بالأمل, أو الحب انكسارات, حروب, حزن, فوضى, قلق, وهذا هو تعبير مشروع عن ذات محملة بالأسى لا لنقص فيها,وإنما بدافع الضغوطات الخارجية التي أجبرت الكل على الانصياع لإرادة قاهرة عندما تختار البقاء في فضاءات العنف المتوالية, وإما عندما تختار الهروب إلى منافي بعيدة سيكون فيها الألم أشد مرارة,وضراوة,بسبب الغربة ,والاغتراب [12],فنراه يقول:

-5-

وأنت ترى الحقول المذبوحة

على ضفتيك

من شنق رفيف النخل

وقطع هديلها

من سجن خيوط الشمس

في قفص النسيان

من خرب المدينة

وجمع دمع بكائه عليها

في قدح قهوة[13]

   إن الشاعر منذر عبد الحر  في هذه الأبيات لم يكتب شعرا عابرا,وإنما استرجع ذاته المتبقية في الذات العراقية المسلوبة الإرادة في قوانين الحرب, وقوانين الموت, وقوانين التعسف التي مازالت باقية, وما زلنا نطبقها في هذا الزمن الجاري, لكل شيء بقية من الألم, والحزن, ولكن أليس للفرح في أعمارنا بقية؟ سؤال أزلي نطرقه ونحن نجوب في خارطة الحزن التي رسمها لنا الشاعر.

   وهنا نرى الانتباه في استعمال تقنية المونتاج شيئا واضحا لدى الشاعر,وذلك في البناء ألمشهدي, مثل رسم المشهد الشعري بلقطة عامة أولا, والاستخدام البسيط لأسلوب الاسترجاع ثانيا, فضلا عن احتفال القصيدة المنظم بتوزيع الوحدات الديكورية[14], وقد أشار عز الدين إسماعيل إلى براعة الشاعر ونضجه في البناء المشهدي في شعره, وذلك بصور كلية تأتلف في القصيدة[15], هذا هو الظهير البانورامي لعموم العمل التصويري في القصيدة, إذ إن كل ماسيرد في مشهد القصيدة يعود في عمله إلى الأخذ من هذه المقدمة الشعرية التي هي موجز عام لموضوع القصيدة الذي هو تصوير مشهد, ثمة فضاءات شاسعة من وظيفة محتملات العلاقات التمثيلية في النص, تصل أحيانا إلى درجة تفعيل المتمثل الضمائري, على وفق حدود بنيات, وتراسلات التناقد, والتشابك داخل حلقات هوية المحاكاة,والانعكاس الواقعي للملفوظ الخطابي, وبدلا من قراءة القارئ لعوالم القصيدة بمشاعر تهتم بتحديد درجات الشعرية, والتأويل, وسوف نهم بدلا من هذا بتناول قصيدة (شط العرب) على أساس وجود اضمارات كشوفية بهوية المتحرر من طابعية الشعري,وما هو غير شعري,أي بمعنى أننا سوف نتعامل مع القصيدة على أساس ما يترشح منها من أوجه صورية يومية لقطية, وإمكانيات نسقية في تعليل صنع دلائلية الخطاب الصوري في القصيدة,ثم نتناول اثر هذه العلاقات النصية داخل حدود مجريات انجذاب القراءة,بموجب قابليات الدلالة التي هي حركية الطبيعة داخل تنويعات العلاقة النصية العامة (لقصيدة شط العرب )[16], وهذا الظهير يتكون من أربع لقطات موجهة, وأربعة أفعال شعرية,بعدها يأتي التعليق على ذلك في الأسطر الثلاثة الأخيرة:

  الفعل  فيض  …….  الزمن ,,,,,,,, الفعل يتوكأ

ثم يبدأ التعليق:  …….. يا لفيض الدموع

وحرقة المعنى

وصهيل الزمن

وهو يتوكأ على عكاز

ثم تقترب الكاميرا أكثر بحركة داخل المشهد:

والأحلام

للأمهات اللائي ينتظرن الغروب

كي يتسلل أبناؤهن المفقودون

من رئات الماء

للزيد وهو يحمل رسائل المنسيين

بعد ذلك تتحرك الكاميرا إلى الأعلى حركة راسية لتصوير الجنود ليبدأ المشهد الحزين الذي يستمر إلى نهاية القصيدة:

والجنود الهاربين من النار

إلى النار

وأقراص التعريف المتروكة في الطين

والمدن المخدوشة

كأنها أوان زجاجية

هشمها المنفيون

وقد لفظتهم القطارات

وهنا نلاحظ مونتاج المفارقة كما يسميه(بود فكين)[17],بصياغة مؤثرة إذ إن اللقاءين تمّا في المكان نفسه,وهما لقاء(الشاعر) ولقاؤه بـ(الجنود) والمكان هو العراق بدلالتيه المكانيتين الأفقية,والعمودية ,ففي اللقاء الأول كان المكان أفقيا يتجسد في (شط العرب), وأما اللقاء الثاني فالدلالة عمودية,وذلك بدلالة (الانهيار) والمفارقة تحدث من خلال هذين اللقاءين لتخرج صورة المشهد المكونة بين هذين اللقاءين,بعد ذلك تأتي اللقطة الأخيرة ليتم بها الغرض من اللقطة السابقة, استطاع الشاعر المبدع منذر عبد الحر من تقسيم قصيدة (شط العرب) إلى عدة مشاهد, ولقطات سينمائية ,وفنية ,إذ طبق تقنية المونتاج الشعري بشكل متميز من خلال حركة الكاميرا من المشهد الأول (انكسارات), والمشهد الثاني (الجسد الجريح), والمشهد الثالث (الطفولة الحالمة) والمشهد الرابع (الدموية القاتلة), والمشهد الخامس (خراب المدينة) بحركة الكاميرا عموديا.

وبحركة الكاميرا أفقيا  تكونت من المشهد الأول (دموع), والمشهد الثاني (أحلام), والمشهد الثالث (هروب), وعند جمع المشاهد السينمائية يتكون المونتاج الشعري لقصيدة (شط العرب).

المراجع: 

[1] المونتاج الشعري في القصيدة العربية المعاصرة:د0 حمد محمود الدوخي:7 0

[2] ينظر المصدر نفسه:7 0

[3] فهم السينما:لوي دي جانيتي,:185 0

[4] ديوان شط العرب : منذر عبد الحر : 64 0

[5] مقال للأستاذ خضير ميري نشر في جريدة الصباح:11 0

[6] ديوان شط العرب : 65 0

[7] ينظر المونتاج الشعري:34 0

[8] المصدر نفسه:35 0

[9] ديوان شط العرب :67 0

[10]  مقال للأستاذ حسين الابهر نشر في جريدة الزمان:11 0

[11] ديوان شط العرب : 65 0

[12] جريدة الاتحاد:12 0

[13] ديوان شط العرب : 70 0

[14] ينظر المونتاج الشعري:35 0

[15] ينظر التفسير النفسي للأدب:عز الدين إسماعيل:113 0

[16] مقال للأستاذ حيدر عبد الرضا نشر في جريدة الصباح:11 0

[17] ينظر اللغة السينمائية:152 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى