خضر عدنان من الحياة الى الحياة
المحامي جواد بولس | فلسطين
لم أهيّء نفسي لأكتب عن خضر عدنان بلغة الماضي، ولا أن أستحضر تفاصيل من لقاءاتي الكثيرة معه، كي ارسم معالم شخصيته الفريدة في لحظة غيابه التراجيدي؛ فبالرغم من وصوله الى حالة صحية محرجة آمن هو، وتمنيت أنا، مثل كثيرين ممن كانوا على مقربة من تداعيات حالته الصحية وتطورات قضيته في المحكمة، بأنه، هو ونحن، سوف نجد المخرج الآمن والحل الذي سوف ينقذه من النهاية المأساوية.
كان خضر يعرف أنه يخوض معركته الحالية في معطيات وأجواء فلسطينية وعامة مغايرة عن تلك التي كانت قائمة في جميع مواجهاته السابقة؛ وعلى الرغم من استيعابه لوجود الفوارق، أصر أن يمضي في طريقه مؤمنًا بنصره؛ فهو، هكذا أفهمني في زيارتي له في اليوم الأربعين لإضرابه، لم يتغيّر وبقي هو العنصر المركزي في معادلة الصدام الجاري. فخضر الذي رفض المذلة والضيم، وواجه السجان/ الاحتلال من اجل أن يعيش بحرية وبكرامة، لم يزل هو ذلك الخضر الذي يؤمن بضرورة الاشتباك مع الاحتلال حتى في احرج مفارق الحياة وأخطرها.
لقد اتصلت عائلته معي عساني استطيع أن أساعد، الى جانب المحامي الذي كان موكلا عنه، في فكفكة تعقيدات قضيته الجارية في المحكمة العسكرية في “سالم” الواقعة بالقرب من مدينة جنين في شمال الضفة الغربية المحتلة. طلبت مني العائلة أن أزوره في عيادة سجن الرملة، وأحاول التفاهم معه حول مصير الملف واحتمالات إنهائه مع نيابة الاحتلال العسكرية.
وافقت وقمت بتحديد موعد للزيارة وذهبت اليها بمشاعر مضطربة؛ فأنا أعرف خضرًا جيّدًا وسوف يكون صعبًا عليّ اقناعه بأن يتنازل عن موقفه بسبب اختلاف الظروف وملابسات قضيته.
كنت جالسًا خلف الزجاج في غرفة زيارة المحامين حين أدخلوه من الجهة الثانية، على كرسيه. رآني فتبسم من بعيد، كما في كل مرة، بابتسامة هادئة يخجل منها الفل، وفوقها كان جبينه يفيض حنينًا أسمر، وفي وسطه ضوء خافت حزين وقلق.
كان محتجزًا في غرفة لوحده، يقومون بتفتيشها حتى في ساعات الليل بهدف التشويش عليه وقلقلة راحته. كان يشرب الماء فقط ويرفض اجراء أية فحوصات طبية. كانت تبدو عليه علامات الضعف وكلامه كان بالكاد مسموعًا ويخرج من فيه ببطء واضح.
بدأت حديثي معه حول صعوبة الظروف العامة لانتقل بعدها للحديث في الخاص وعن مواد لائحة الاتهام الموجهة ضده. أوقفني وطلب، بأدب مطبوع فيه، أن يقول لي جملتين. أخذ نفسًا عميقًا وقال بحزم : “مطلبي هو الحرية ولا شيء دونها، أفهِمهم أنني لن أرضى بأقل منها، فأنا معتقل سياسي ومكاني بين أهلي وبين شعبي”. ثم أضاف بعض الكلمات عن الشهادة وعن استعداده لنيلها وأكّد على حبه للحياة واشتياقه لعائلته وللبلد. في لحظة ما أوقفته وطلبت أن يسمعني.
ذكّرته ببدايات معرفتنا في العام 2012 عندما كان معتقلًا اداريا ويخوض اضرابه الشهير عن الطعام. وقتها، في لقائي الأول معه، تفاهمنا واتفقنا على المباديء والشروط التي يجب أن تتوفر كي ينجح الإضراب وكي أنجح في تحقيق ما يطلبه وهو نيل حريّته. كان أول تلك الشروط قناعة المضرب بحقه وبقدرته على الصمود حتى لو وقف على حافة الدنيا؛ والشرط الثاني هو نجاحه باقناع الغريم الاسرائيلي بأنه، كأسير مضرب لا يناور، بل هو مؤمن بخطوته ومستعد لأن يدفع حياته مقابلها. واتفقنا أيضًا أنّ المطلب الذي من أجله يعلن الإضراب يجب أن يكون قابلًا للتنفيذ وليس مطلبًا تعجيزيًا. والأهم من جميع ذلك اتفقنا على أن تكون رسالة المضرب موجهة لكل شرائح الشعب الفلسطيني ولأحرار العالم وغير محصورة لصالح الفصيل أو التنظيم الذي ينتمي اليه الأسير، وأن يتصرف المضرب موجهًا رصيد نضاله وريع نصره عندما يتحقق، في حساب النضال الفلسطينين العام ضد الاحتلال وليس في “خزينة” أي فصيل أو تنظيم أو حزب معين.
ناقشت معه، على مدار أكثر من ساعتين، هذه القضايا، وراجعت معه ما أسميته في حينه “فرضية العمل الأساسية” والتي بمقتضاها افترضت أن خضراً أو أي أسير مضرب عن الطعام، يدخل اضرابه لأنه يريد أن يعيش ولأنه يحب الحياة؛ بيد أنه ، في نفس الوقت، يأخذ في حسبانه امكانية استشهاده؛ ومن الجهة الأخرى، كانت فرضيتي تعتمد على أن الجانب الاسرائيلي لا يريد بدوره أن يموت المضرب عن الطعام، ولكن اذا حصل هذا الامر في النهاية فسوف يكونون مستعدين لمواجهة الحدث بسيناريو معدّ من قبل، وكي نضمن ألا يحدث هذا علينا أن نجد المعادلة الصحيحة والدقيقة لتحقيق النصر الذي تستطيع عنجهية الاحتلال هضمه أو ترغَم على هضمه. تساءلنا فيما اذا حدث خلل على هذه المعادلة في شقها الاسرائيلي.
لم يكن صعبًا علينا أن نستعيد جميع تلك التفاصيل ونتذكر مضامينها، فهي كانت أسسًا رافقت تجارب خضر في جميع اضراباته السابقة عن الطعام، وهي التي ضمنت انتصاره ونيله حريته بكرامة وبعزة في جميعها، خاصة في اضرابه الكبير في العام 2012، الذي اضطرت فيه اسرائيل الى الموافقه على الافراج عنه في اليوم السابع والستين عندما كان على وشك أن يفقد وعيه ويدخل في غيبوبة الرحيل وهو على السرير في مستشفى صفد.
لم تكن المشكلة، كما برزت في الزيارة، في اقتناع خضر بضرورة تحقق هذه المباديء وتوفرها في اضرابه الحالي، بل كانت في فهمه لمعنى النضال ضد الاحتلال وقناعته الصارمة بواجب المواطن الفلسطيني رفض الذل والمهانة. فهو يرى أن الفلسطيني الذي لا يقتنع بذلك لن يكون له مبرر انساني للاستمرار في ممارسة حياته بخنوع روتيني كالعبد، وهو فاقد لحريته الطبيعية ومسلوب الكرامة ذليل. وبلغة أخرى، كما قالها هو: “أريد أن أعيش طبعًا فأنا أحب الحياة وأحب عائلتي، لكنني مستعد أن أموت حرًا كي أنال تلك الحياة الحرّة وينال شعبي حياته الحرة الكريمة؛ فإما الحرية وإما الحرية “. انه باختصار الاستعداد للتضحية بالجسد ليذهب حامله محتضنًا حريته وكرامته المطلقتين.
لقد آمن خضر أنه يقوم بالفعل الصحيح والضروري ضد اعتقاله هذه المرة أيضا؛ فتوجيه لائحة اتهام له لا يغير قناعته، لأنها لائحة سياسية تستهدف إبعاده عن مجتمعه وتحييد دوره السياسي الذي بات يزعجهم. لقد رفض التعاطي مع المحكمة كأنها منصة شرعية ولأنها غير قادرة أن تكفل له حق الدفاع النزيه والموضوعي، لا سيما وأنه متهم بالتحريض ضد الاحتلال وبكونه عضوًا في الجهاد الاسلامي، وهي اتهامات سياسية وممجوجة، ليس لانه لم يعترف بها أصلًا أثناء التحقيق معه، بل لانه اعتقل في الماضي على أساس انه ناشط في تنظيم الجهاد الإسلامي ويحرّض باسمه ضد الاحتلال وضد المحتلين. فهو ،كما قال، كان قد دفع ثمن هذه الاتهامات قرابة الثمانية أعوام من عمره قضى معظمها في الاعتقال الاداري مواجها شبهة كونه ناشطًا كبيرًا في حركة الجهاد الاسلامي؛ فلهذا السبب يصرّ هذه المرة أيضا على كونه صاحب حق وقضية، ويعلن أنه سيستمر في اضرابه حتى يضمن حقه في محاكمة عادلة ونزيهة -والمحكمة العسكرية لا تضمن له ذلك- أو حتى ينال حريته.
قد تكون لغة خضر حيال مفهومَي الحرية والكرامة من جهة والتضحية والشهادة من الجهة الاخرى مستفزة لكثيرين، أو عصية على فهم أكثرية الناس الطبيعيين غير القادرين على تذويتها وتحويلها من ممارسة فكرية وعقلية الى حالة فعل تقضي بضرورة مقاومة الاحتلال بجوعك، حتى يصبح الجسد هو الأداة الوحيدة في المعركة والقادرة على تحقيق نصرك في الحالتين، والكفيلة بتأمين حريتك في الحالتين أيضا. انها لغة قد تخيف البعض، وقد تكون غريبة عن قاموس الكفاح الفلسطيني الحديث الذي خضع عند معظم الفصائل والحركات والأحزاب الفلسطينية في السنوات الأخيرة إلى عمليات تعقيم واستئصال عدة مفاهيم نضالية.
غادرته واعدًا اياه أن أطرق باب النيابة العسكرية العامة لأنقل لهم رسالته والتأكيد على أنه يطلب الافراج عنه ولا يريد أن يموت ، لكنه مستعد أن يمضي نحو ذاك البعيد المطلق اذا لم يترك له الا هذا الخيار. كان في قلبي وجع، فمعركته/معركتنا هذا المرة مختلفة من الوريد الى الوريد.
لم تبدأ رحلة خضر نحو ذلك البعيد مع أسره هذه المرة؛ فمن يتابع مسيرته في العقد الاخير لن يجد صعوبة في تشخيص العوامل التي ساعدت على محاصرة تجربته النضالية، خارج السجن وداخله، ومساءلة نهج الاضراب عن الطعام، وزجّه في خانة ملتبسة. ولن يكون الوقوف على الظروف التي أدّت الى تقويض احتمالات ترسيخها كنهج نضالي من شأنه أن يحرج الاحتلال، صعبًا. فهذه مسألة بحاجة الى مراجعة وتحقيق وتقييم والكتابة عنها وفيها، والى ان يتم ذلك أخشى أن مع رحيل خضر عدنان المأساوي والسرعة الغريبة التي “هضمته” فيها فلسطين، على جميع أطيافها السياسية وحركتها الأسيرة، سينتهي فصل آخر من فصول نضالات الحركة الأسيرة الفلسطينية، وهو نضال المِعَد الخاوية.
كان يوم الثلاثاء الفائت قاسيًا، ورغم الحسرة لن أقول خسارة على رحيل مناضل مختلف وخلافي بالنسبة للبعض؛ ورجل بادلني الحب بالحب والاحترام بالاحترام، صديق حذرته في الماضي ألا يقبل أن يصير أسطورة أو بطلًا في احداها “فلطالما بقيت كعاب الأبطال عارية وعرضة لاصابة سهام الحقد المسمومة ” وتمنيت عليه أن يبقى “نقيًا كالنبع ، عاديًا كالنار، حرا كالريح، وضعيفًا كالندى.. وإن يبقى انسانا لا أقل ولا أكثر” . هكذا تمنيت عليه بعد انهاء اضرابه في العام 2015 ، ولكن كان للنبع حنينه وطباعه، وللنار ذراها وللريح خيالها، وأما الندى فهو كانفاس الطبيعة باق على خواصر الشرفات واهداب الفجر ليس في عرابة جنين وحسب انما في كل أرض طيبة. فسلام عليك صديقًا وانسانا مميزًا ستدوم ذكراه لدي وستبقى، وفي الأساطير، ربما.