حقيبة الذكريات (2)

بقلم: سالم بن محمد بن أحمد العبري
حين عزم الخطيبان على العودة إلى بيتيهما، ولم أحفل بما دونهما، مضيت بعدهما، وكأنني مُخبرٌ بوليسيّ يمشي خلفهما. وتوقفت أمام صحن جامع الزمالك، وساعتها تذكرت خُطبة الإمام في الجمعة التى سبقت وفاة الزعيم جمال عبد الناصر؛ حيث كان القتال محتدمًا بين الجيش الأردنيّ ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة والعدو الصهيوني من الجهة الأخرى في (معركة الكرامة 1968م)، وبعد انتصارهما معًا قوي نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، وبدأت تعمل كدولة داخل الدولة وخططت لاغتيال الملك حسين وإنهاء الملكيّة. و”في أوائل نوفمبر 1968، هاجم الجيش الأردني مجموعة فدائية فلسطينية تسمى (النصر) بعد أن هاجمت هذه المجموعة الشرطة الأردنية. وزاد عدد الاشتباكات “أكثر من 500 اشتباك عنيف وقع بين الفصائل الفلسطينية وقوات الأمن الأردنية ما بين منتصف عام 1968 ونهاية عام 1969” و”أصبحت أعمال العنف والقتل تتكرر بصورة مستمرة حتى باتت تعرف عَمَّان في وسائل الإعلام العربية بـ(هانوي العرب). في جامع الزمالك كان إمام المصلين يأتي قُبيل الأذان الأول فيتنفّل، ويصافح من هم بمحاذاة المِنبر الخشبي الأنيق ويجيب على بعض الاستفسارات الفقهية من المصلين الذين أتوا لصلاة الجمعة وفي خلدهم بعض الاستفتاءات في أمور دينهم وشؤون حياتهم، فإذا حان الأذان الثاني للجمعة صعد الخطيب من الصف الأول درج المنبر، وليس كما نعتاده هذه الأيام يخرج من (بويب خلف المنبر أو تحته) فإذا ما انتهى خرج منه الإمام مسرعًا إلى المنبر، وأقول إن هذا التوجّه المعماريّ مقبول به في الجوامع الكبيرة شاسعة المساحة التي يرتادها المئات والآلاف، ولا داعي لتعميم هذه الفكرة في مساجد الزوايا والحارات، وبين الجبال والسهول المتباعدة الأطراف لكونها إسراف وتبذير ومشجعة على التباهي والتفاخر.
وتذكرتُ هذه الأيام وتلك الخطبة التى ألقاها إمام وخطيب جامع الزمالك وبكائه الفكريّ على الدمار والقتل الذي لحق بالطرفين من الأردني والفلسطيني، وقال بالحرف الواحد: إذا كانت هذه الدماء التي تُراق عَبثا لا لتحرير الأقصى بل تسيل لحماية المصالح الشخصية والرئاسات والمناصب الدنيوية فلتسقط تلك (المناصب).
مضى العاشقان إلى أسرتيهما ومضيت إلى سريره الحديديّ الصغير الحديدي، وربما ينام الخطيبان نومة هانئة حيث يستعدان للتخطيط لأسرتهما الجديدة، و ومضيت أحمل هم طموح كل شاب سوي، فلا العمر قد تجاوز عمر المراهق أو هو في خضم تلك المرحلة والحياة التى عشتُ منها جزءا منها في بلدي، ولم يكن جلهم ملائكة بل كانت حياة بشرية بخطاياها وتقواها والمتقون قلة من الزاهدين الذين لم يُذكَر عنهم التصابي، والاشتغال بالثواني لكن الغالبية الأعم تعيش بشرياتها لها تطلعاتها و رغباتها, وكان العمل في الحقول المختلفة يضم النساء والرجال جنبًا إلى جنب، وكانت المجالس آنذاك يؤمها الظرفاء والعقلاء والأدباء والبسطاء من الناس وأحاديث الناس العامة قد تعطي إيحاءات تنبه وتفتح رغبات الصبية والشباب. فكيف إذا كنت حين الحصاد للقمح، والرجال والنساء يشتركون في معا في المزارع والبساتين بدءًا من الحصاد وقطع الذُّرة ثم الكيل وتوزيع المحاصيل إلى أقسام؛ قسمٌ يناله عمال الحصاد وقسمٌ للزكاة وقسم لسداد إيجار الأرض وقسم للمزارعين المشتغلين بالبذر والتسميد حيث يكون يكون لهم النصف، وأثناء جريان العمل تشاهد وتسمع أداء مسرحيّ يعبر عن روح الحياة، فهذه تلقي بحجر وهذا يتعمد دفع هذه.. وفي يوم كان السؤال لـ(خميس) ماذا فعلت بخلّوف.. إلخ ، وكان البعض يحلو لهم السهر إلى وقت متأخر من الليل فتسمعهم يقصون حكايات تظنها مقاطع من مجنون ليلى ومغامرات عنترة وعبلة، وابن قاسم التى تأتي له صديقة بصحفة من طعام البيت الذي أعدتها لأولادها وتتركه له في ركن قصيّ متفق عليه وتمضي لغسيل أواني اللبن والخبيز.
فإذا استيقظ من سباته على أنغام تدفق الفلج من أعلى إلى الأسفل حيث كانت السواقي الفرعية تضج بخرير المياه وتنثر الرذاذ الذي يطرد البعوض عن أجسام النائمين على حافة الفلج فيهنئون بالنوم الطويل. لكن الظرفاء من أتراب ابن قاسم فطنوا لما يحظى به هذا العاشق من عناية غذائية خاصة فترصدوا لحضور المحبوبة وما إن تضع الطعام لقاسم في الركن القصي المتفق عليه وتسرع إلى لفلج هبّوا وانتهبوا الطعام نَهْشًا بسرعة وهناء. فلمّا إن تكرر سطو الأتراب على طعامه تبرّم ابن قاسم وحسب أن المحبوبة قطعت وعدها، وودعت أيام الهناءة بينهما وتشاجرا في هاتيك الركن القصي المعهود للقاء بينهما؛ غير أنه بذكاء العاشق فطن لَمقالب الظرفاء من أترابه، فغيَّر خطته، وعُشَّه ليصل الإكرام مبتغاه.
مثل هذه الأقاصيص لا تترك الصغار يبعدون عن حياة وهموم وحكايات جيل الآباء والأخوة الكبار، بل توقظ في نفوسهم ما كان ثاويا وخبيئا، وكنا حين نرى ذلك الأسمر يتكيء على عصاه ويعبر الطريق والساقية ليسهر مع تلك الشمطاء ذات النظر الضعيف الذى كُنِّيت به، ويسمع الفتيان تعليقات الكبار عليهما تستيقظ النائمات من الرغبات.
وحين تمر علينا تلك المرأة الكاسية العرية بثوب من أقمشة لامعة جديدة لم نكن نعهدها وتتململ فتجسِّد وتحدد مواطن الجمال في فتبدو مفاتنها الصارخة كالبلسم الجذاب وتتنزل التعليقات والتنبيهات والمخ والمخيخ يسجلان، ويدفعان صاحبهما للسير والتفاعل، وتُثار الكوامن الشهوات، فإذا تطلّع الشاب وتعلّقت رغباتهم بها، ووقعوا في شباك تلك الغانية المغوية التى كانت حديث الشباب والكهول وتمكنت من الاستحواذ على حيز كبير من وقت الجلسات ومجالس السهر الخاصة التي لا ينقصها سوى ما ترتديه الراقصات في الملاهي الليلية التى تريك مفاتن الساق والصدر وخصلات الشعر التى تتمايل مع انحناءات الجسد تبعا لمهارات الموسيقى وتصفيق الجمهور المتفاعل مع الأداء المُتقن. لم تكن هذه الحياة قطعة من جبل القنة أو ذرات من جبل حوراء، بل هي جزءٌ من هذا السياق البشري الإنساني، وإن هذا المثال المنعوت سابقا ليس بقائم صباحا ومساء، بل هو نتاج كثير من الأسفار والتنقلات.
فإذا وافت المنية والدة الكاتب صغيرًا بعد أن اختارها الله إلى جواره فصار الفتى لايرغب في المبيت بسطح المنزل ولايرى فراش أمه أعلاه ويومها كان فِراشه يتوسط بين أبويه شرقًا وجَدِّه غربا إلا أنّ أباه أتى بزوجته الثانية بعد وفاة أمه، فآثر النوم على حافة الفلج بالسحمة في بلدة الحمراء وكان يبسط فِراشه فوق رمال الحبل التى لا يكون مستويًا جدا، حيث كانت تأتي الأجيال السابقة لتتسلي بحكايات المراهقة والصبا وربما الكهولة والمغامرات والفتوات، والملاح يسمع و يسجل وتفتح التطلعات وينتبه الغافل والنائم، وتلقاه الفاضلة الصاعدة الهابطة، ويدور بينهما حديث الكبار فهي قد بلغت تلك المرحلة سِنًّا وممارسة وخبرة الاصطياد بشباك مختلفة النوع والحجم، وهل من واق وقد سمع من حكايات الرجال مع النساء في البر والجبل والبحر، قالت له: مستعدة ولكن ثمنه كذا وكذا و الثمن لايعطيه لوكان محصنا فالأولى به القريبة وغيرها من المستحقين، لكن أقاصايص الليل والنهار والكهولة والشباب والقريب والبعيد بشرًا أومكانا قد هيئت القبول و الرضوخ واستسلمت على أن تعطي في حظيرة المنحوس صاحبة الأسمر العجوز، وتزلف زليخة وتدخل إلى مكان مغلق (لقد همَّت به وهمَّ بها)، ويتذكر الفتى برهان ربِّ يوسف وتتنزل عليه الرحمة و كأنه سيدً على زليخة ويفرّ هو وتهزأ هي، وقد نزهه الله من تلوين عرضه بعرض من بلده ، وكسبت هي الثمن غير ذي بخس، و تمضي القصة دون رجوع إلا بالعبرة والمرور.


