قراءة نقدية في “نص القصيدة “للشاعر يعقوب أحمد يعقوب
فاطمة سعدالله | شاعرة وناقدة من تونس
1- القسم النظري
شهد الشعر العربي تحوّلات مختلفة وطفرات متعددة سنكتفي بالإشارة الى ثورة شعر التفعيلة/الحر على القصيدة العمودية ثم تلتها ثورة قصيدة النثر على كل ماسبقها وشكّلت هذه الأخيرة نسيجا متماسكا بين الشعر والسرد فكوّنا وحدة عضويّة متكاملة بين جسد نثْري وروح شعريّة شفّافة وأسال التحامهما أقلام النقّاد والباحثين وحرّك شهيّة محبّي التحرّروالتّجديد من المبدعين.
ولكن سنّة الحياة تقتضي الحركة والنّمو فلم يتوقف العمل الإبداعي ولا البحث عن السعْي الى التغيير والتحديث وهكذا لمع نجمٌ جديد ٌفي سماء الشعر الغربي أولا ثم سرعان ماصار بدرا في سماء أدبنا العربي ..”إنه النص المفتوح” ولعل نص “القصيدة” للشاعر والرسام المتمكّن يعقوب أحمد يعقوب من أحسن النماذج الممثلة لهذا الجنس الأدبي الحداثي .ولكن قبل أن أجوب بين أروقة القصيدة لأتلمّس معكم جوانب الإمتاع والإبداع فيها حريّ بي أن أعرّج في وقفة قصيرة على نشأة النص المفتوح في الأدب الغربي وكيفية التعامل معه عربيا.
لقد ظهر الحديث عن النص المفتوح لأول مرة منذ ستينات القرن الماضي على يد جوليا كريستينا عندما تناولت مفهوم النص المغلق في إطار التّناصّ وهذا مما جعل النص المفتوح في ثنائية مع النص المغلق وقد يكونان متقابليْن أساسا. إنّّ التوصيف البدائي للنص المغلق جاء من الانطلاق من بعض الرموز السّيميائيّة لاسيما تلك التي تكون في بدايته حرفا –هذا بالنسبة للغات الأجنبية- الحرف الكبير/الحرف الصغير أو مفردة أو فكرة غير أن النص المفتوح في الأدب العربي يختلف تماما عن ذلك اذلايعتمد على حجم الحرف وانما على البداية التي تتفق مع النهاية خصوصا مع امكانية توفّر خصائص أخرى كالنص العابر للأجناس أو الذي لا يعطي نتيجة أوحقيقة نهائية وواضحة بل يترك للمتلقي المجال للتأويل والتوالد والمتابعة مابعد القراءة .
ثم وسّع أمبيرتو إيكو ورولان بارت وغيرهما من أدباء مابعد الحداثة ك- جاك دريدا وميشال فوكو دائرة البحث وترسّخت هويّة هذا النص أكثر مع إيكو الذي أشاع هذا المصطلح سنة 1958 حين أصدر كتابه “الأثر المفتوح” باللغة الايطالية متخذا مؤلفات الروائي الإيرلندي جيمس جويس أنموذجا للبحث واعتبر تلك النصوص عالما يمكن أن يراه القارىء من زوايا مختلفة إذ يمكن أن تبدأ القراءة من حيث شئت.
والمتقصّي في أصول الأدب العالمي سيجد أن جذور النص المفتوح ممتدّة إلى الملاحم والأساطير الغربية القديمة ولم يجد حاضنته الحقيقيّة الا مع الشاعر الفرنسي “سان جون بيرس” ذاك الذي جعل من رائعتيْه” أناياز”و”ضيّقة هذه المراكب “نموذجيْن مهمّيْن للنص المفتوح .هكذا إذًايمكن لنا القول أن النص المفتوح ظاهرة أدبية حداثية ذات صلة بالتراث الانساني وكان وجودها في تاريخ الشعر على شكل شذْرات وأهم خصائص هذا النص الأسلوبية كما حددها الدكتور محمد عناني في كتابه “المصطلحات الحديثة” تتمثل في كونه “نصا ينفتح على كل الاحتمالات” كما يؤكد رولان بارت أن “متعة القارىء للنص المنغلق تنتهي عند نشوة التلقي والاستقبال بينما تتجاوز ذلك في النص المفتوح إلى متعة التصيّّب والتوالد”.
أما بالنسبة للأدب العربي فقد اتضحت معالم هذا التمشّي في السبعينات مع الشاعر فاضل العزاوي وهو المعروف أكثر من غيره بهوس التجريب فمارس شتى أشكال الهدم والبناء . وأفضى به الأمر إلى صور شعرية غير مألوفة تتطلّب من القارىء الكثير من الكدّ الذّهني لاستجلاء إيحاءاتها.
ثم ضاقت بالشعراء العراقيين خصوصا فضاءات قصيدة النثر بعد حرب الكويت كما أكدت ذلك “الدكتورة رباب هاشم حسين” فالتجأوا إلى النص المفتوح على أنه جامع لخصائص أجناس أدبية مختلفة كما أنه منفتح على الانسان وقضاياه الوجودية والاجتماعية برؤية منسجمة مع العصر الحديث ومعطياته الحداثية والانفتاح عليها .
وبانتقال هذا المصطلح من حاضنته الغربيّة إلى النقد العربي اتضحت بعض معالمه فكان في نظر بعض النقاد “النص الذي يوحي أكثر مما يصرّح ويصدم أكثر مما يوافق ..هو الابن الشرعي لقصيدة النثر تغذى منها ولكنه تجاوزها”
يبقى النص المفتوح في آخر هذه المقاربة التعريفية جنسا غير محدود قفز على جميع الأجناس الشعرية فزحزح الرتابة التي هيمنت عليها لهذا رآه اغلب النقاد مقبلا ليكسر هذه الرتابة فيكون الوجه الآخر للنص المغلق الذي يأتي وفق شروط القصّ مغلقا على معنى واحد أو أكثرفي حين أنّ النص المفتوح يبدأ بداية النص المغلق ويجاريه في تنامي مراحله المختلفة لكنه ينفرد بنهايته التي تعود إلى بدايته ولا تقدّم معنى نهائيا ومحددا بل تفتح مجال الاحتمالات والتأويل وتحفّز المتلقّي على المشاركة في الإنتاج .
2 – القسم التطبيقي
في المرحلة الثانية من هذا البحث أنتقل إلى دراسة “القصيدة” وتتبع ما طبق عليها من خصائص النص المفتوح لعلنا نجني الإمتاع بجمالية هذا النص وإبداعه والإفادة مما سبق من خلال المقاربات التعبيرية المميزة لهذا النص والمعطيات الفنية ورؤاه التقنية بكونها منظومة شعرية متمرّدة على الموجود متحلية بسمات التفرد ومتوثبة نحو الآتي
النص: القصيدة بقلم الشاعر يعقوب أحمد يعقوب.
بعْدكَ ليْس قبْلكَ
تبْدأُ القصيدةُ
منْ نبضك الشهيِّ والقبضةُ العتيدة
التي مازالتْ
تدقُّ الجدران ..جدران الخزّانِ
والصخر والصوّان
بآخر الأحزان والعَتَمة البعيدة
وتسْكب الألوان زهرا على الأغصان
وتعزف الألحان للفجر نشيدا
وترسم الحياة ..عرقا على الجباه
وتقولُ للطغاه
بكلّ ما معناه
بعدكَ ليْسَ قبلكَ
تبدأُ القصيدة / يعقوب أحمد يعقوب
أ ــ العنوان
“القصيدة” في الظاهر تبدو عبارة مألوفة كما لوكانت مجرد إحالة على المفهوم الذي اتفق عليه العرب بأن النص الشعري الذي يتألف من سبع أبيات فما فوق هو قصيد/ قصيدة وما دون ذلك هو قطعة شعرية …اما إذا تجاوزناهذا التعريف التقليدي وتوغلنا في عمق نص الشاعر يعقوب احمد يعقوب هل سنلمس تجاوزا للمعنى الضيق المتعارف عليه للعبارة وكسرا للمألوف ؟وهل يمكن للــ”قصيدة” أن تتحوّل إلى فضاء أوسع مؤثث بصور مشحونة بالايحاءات وقابلة للتأويل؟ ولِمَ لا ينفتح هذا القصيد ليتحوّل إلى”حركة تنبض بالحياة في شموليّتها وتنوّعها.
ب ـ نقطة الانطلاق
“بعْدك ليْس قبلك”ضربة البداية ..محفوفة بالغموض والتشويق ..بناء تقابلي ..ومخاطب لم يصرّح الشاعر بأي علامة تحيل على تقييده بحدود ما ..تبدأ لعبة الظهور والتخفّي منذ الانطلاق ..هناك إشارة الى مقولة الجنس مطلقة فهو مذكر “بعدكَ” .. لكن من هو؟ إشارة ذكيّة ولمّاحة”من الشاعر..إذ وضع الفتحة على حرف الكاف فقال انه مذكر وكفى ولكن هل هذا سينتشلنا من المتاهة ؟ لقد وضعنا الشاعر على أول درجة من سلم الارتقاء نحو الوضوح لكن “من؟” لقد أزاح الستارة قليلا ثم ترك لنا حرّيّة تلمّس الطريق /البحث ..
بعدك/قبلك مقابلة مستفزة للفكر مشوقة للوجدان ومحيّرة للعقل..أهو توظيف في المكان أم الزمان أم في المنزلة؟ إن هذه الظرفية مفتوحة على كل الاحتمالات .
ويأتي مباشرة بعد ذلك الحدث المرتقب الذي ينبجس معه بعض الانفراج ..”الحدث المبهر” ــ “تبدأ القصيدة” بين السطور اعتراف بل قناعة بأن القصيد عمل إبداعي و بالتالي هو عملية ولادة بكل ماتحمله هذه العبارة من أفعال وحالات ..وجع المخاض / فرحة الحياة ..الألم كمنطلق والفرح كنتيجة ومنتهى ..مقابلة مزدوجة يعبر عنها أرقى فعل إنساني ..دلالات ورسائل مشفرة شحنت بها هذه البداية ونقاط استفهام حرّكتها لتسدّ على المتلقّي كل منافذ السهو.. أو الارتخاء والانعتاق من النص فالقارئ أمام الغموض الجميل المثمر ..عشق الانجذاب والقيْد اللذيْن صدماه منذ البداية كــفعل استفزازي يشحذ همته ويدفعه إلى البحث والاستنارة.
ولكن لقائل أن يقول متى سيسقط الشاعر اللثام عن هذا البطل المتخفّي؟ من هذا الذي يلعب دور أبي الفتح الاسكندري فيزرع فينا الإدهاش والفضول؟من؟ من؟
نبضه شهيّ ومثير..وقبضته ديدنها العناد والتحدّي ..يعتنق استمراريّة “الدق على الجدران” الفعل المنشود الذي لم يحدث في الواقع…الطرق على الجدران ومواصلة الإلحاح على تحقيق الحلم ..حتى يلين الصخرويقدح “الصوّان” نورا لانارا ..فتضاء جنبات الحشا وتندحر الأحزان وتتلاشى العتمة التي تسكن أطراف المدينة وتغشى أعماق العمق ..هذا المخاطب الغارق في الخفاء يجمع بين القوّة والصلابة /القبضة وبين الإصرار والعناد والحياة النابضة كبرياء ورغبة في “الفعْل” الذي سيحرر الأرواح قبل الأجساد…ويغيّر الواقع المرفوض.
هل يمكن أن يكون هذا المخاطب هو”المناضل النموذج” الذي رغم شحنة “الأحزان” المخزّنة في الوجدان الذاتي والجماعي لم يتوقف عن “دق الجدران” كل الجدران تلك التي تعزله عن المقاومة وتقف بينه وبين الفعل الإيجابي ..التحرر والانعتاق؟
وهل تقدر” قبضته العنيدة” على دكّ تلك المعوّقات التي تحاول أن تحجب عنه الضياء أو تحول بينه وبين تغيير الواقع من الجمود والسلبية إلى الفعل الإيجابي، من الاحتياج إلى سد الحاجة ؟
وقد يكون هذا الخطاب موجّها الى “العامل المثالي ” فلاحا كان أو معلما أو مقاتلا أو فنانا مبدعا إلى كل بانٍ لركن منيع من أركان الوطن وكل مساهم في تشييد صرح الحياة والحضارة ؟
ألا يكون لوحة زاهية الألوان ..فسيفساء حب وجمال وتجدد..أشجار تتباهى أغصانها المثمرة خيرا وعطاء ؟ ألا يمكن أن يكون “عرقا” يتصبّب عطرا على الجباه ويسقيها كبرياء وشموخا ..ينسكب ألحانا راقية في أوركسترا الوجود تهدي ألحانها العذبة معزوفة “للفجر” وأي فجر؟..إنه فجر البداية ..نور الانطلاق وإشراقة الخطوة الأولى الثابتة على سلم البقاء..كأني بهذا المخاطب نبض يترقرق في كل شيء ..يضوع من كل نبتة ويرتسم ابتسامة على كل الشفاه ..إنه “الشخصية الرمز” رمز الفعل والتغيير والبقاء ..رمز النضال والعمل والنصر على العجز على الظلم على “الطغاة” بكل فصائلهم “هو” هنا ليقاومهم ..ليتصدى إلى جبروتهم فيحول العتمة نورا والصمت موسيقى ..ليقول لكل الطغاة نحن هنا باقون ..نحن المقاومون ..نحن الفاعلون زارعون لشجرة الحرية ساقون جذور الأمل القاطفون حتما لثمرتها..رغم الحصار والدمار ..رغم المعاناة والطغاة ..وسنظل نهرا للحياة ..الحياة الهادرة بالحلم والحب والجمال ..فأنت أيها الوطن “بعدك وليس قبلك
تبدأ القصيدة وأنتَ أيها المستقبلُ الكريمُ لك تكتبُ القصائد.
ولكن بعد هذه التساؤلات والاحتمالات هناك عباراتٌ مفاتيح أبت إلا أن ترفع المشاعل لتضيء هذه المتاهة .إنها “الخزانُ” و “جدران الخزان “ والفعل “تدقّ” هذه العبارات ترفع اللثام عن الغموض المقصود والإيحاء الذي اختزل مأساة كاملة أراد الشاعر أن يذكرنا بها .مأساة جمعت بين الحقيقة والفنّ ..إنها قصة “ رجالٌ في الشمس “ لغسان كنفاني التي صدرت سنة 1963 ..وظفها الشاعر يعقوب أحمد يعقوب لأنها مازالت جرحا نازفا في الوجدان الفلسطيني ، بل كأني بالشاعر يعقوب أحمد يعقوب يطرح السؤالَ الحاضر تاريخيّا حول الفعل الالغائبفي زمن الأحداث: “ لماذا لمتدقوا جدران الخزان؟”أهو الذهولُ أم الخوف من الانكشاف؟ هي قصة أبطال رواية لكنها تحكي واقعا مريرا ليس بعيدا عن الحقيقة.وهي تعتبر من أولى الروايات الفلسطينية التي عالجت قضية التشرد والموت والحيرة وفيها يرسم غسان كنفاني رحلة ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة تجمع بينهم ضرورة إيجاد حلّ لمشكلة الإنسان الفلسطيني المعيشية وذلك عبر الهجرة إلى الكويت “هروبا” ..يجمع بين الثلاثة العوز والحلم ..يحلمون بالعيش الكريم عن طريق العمل في بلاد النفط والثروة..فالهدف إذا واحد وهو “الوصول” إلى الكويت .قرر ثلاثتهم الهرب داخل” خزّان” شاحنة يقودها سائق مستهتر إذ يتوقف في نقطة الحدود ويتأخر عنهم وكانوا بين سندان الصراخ و”دق جدران الخزان” والوقوع بين أيدي السلطاتأو الصمت لعلهم يمرون بسلام.. ،فضلوا الصمت والانتظار ف”ماتوا” داخل الخزان ولم يطرقوا الجدران.ماتوا فمات الحلم معهم وماتت الصرخة الشرعية من أجل الحياة الكريمة.ولعلّ الشاعر يعقوب أحمد يعقوب يتوجه بالخطاب إلى الموتى الثلاثة “يحرضهم” / يلومهم ..لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟لماذا لم تصرخوا ليصل الصوت الفلسطيني إلى الحياة ،ويتحقق الحلم في العيش الكريم والتحرر من الصمت؟.كأني بالشاعر يحدث نفسه أو يتوجه إلى الضمير الإنساني محاسبا : لماذا لم يكن للفلسطيني الحق في الصراخ وإيصال صوته؟ لماذا لم ترج قبضته العتيدة الجدران ليفتك حقه في الحياة؟…ثلاثة أجيال ..كهل يطمع في بناء بيت وشاب يتوق إلى الاستقرار وطفل فر من الظلم والإهمال كان يحلم باللحاق بأخيه..ثلاثة أحلام وئدت داخل خزان وتحت لهيب الشمس.
ورغم بشاعة الحدث الذى استرجعه الشاعر ووظفه بكل اقتدار لم ينغلق القصيد بظلمة القبر ولم تكن النهاية مرة بل الشاعر يؤمن بال”فجر “ القادم وبصوت جهوري سيقول للطغاة أن أيامهم معدودة وأن النصر آتٍ لا محالة فبعدكَ أيها الشهيد ..شهيد الحرية والكرامة تصدح الحناجر / قصائد سعيدة وتدبك الأقدام في الحقول تجمع الحصيدة ويعزف لحن الفجر المشرق رغم العتمة والأحزان ..ورغم ضحايا الخزان.
ج ـــ البناء
الملاحظ والجلي للعيان أن النص انتهى بما ابتدأ به وهو التعريف الرياضي/العلمي للدائرة اذًا هذا النص دائريّ الشكل وبالتالي هو مفتوح ..ولعلّ نهايته قيلت منذ البداية وما بقي للقارئ في طيات النص الا التفاصيل التي يتتبعها في غضونه والمفاجآت التي تباغته عبر المساحة النصيّة للقصيد تلك المساحة التي وزع عليها النص بشكل مميز يبدو لولبيا ويتدرّج في شكل عنقودي كأنه ورقة عنب أو شجرة زيتون محملة الأغصان ..
كانت الدائرية مختصة بالتعامل مع النص السردي لكن يمكن اعتبار النص الشعري حاضنة جديدة لها اذ هو قابل الابتداء بمثل ما يقع الانتهاء به فيكون دائريا/ مفتوحا وهي العلامة المميزة للنص المفتوح ولأنه كذلك استطاع الشاعر يعقوب أحمد يعقوب أن يجعله متجاوزا للجنس الأدبي الواحد فهو غير مقيّد ..هو قصيدة ترتدي ثوب السرد ..ففيها خصائص النص السرد من نقطة ابتداء إلى خط وصول ومن موضوع الى شخصية أما الإطار المكاني فهو يبدأ محدّدا ضيّقا “ الخزان” ومغلقا لكنه يتحول “كونيا” أوسع من الحدود لأن الحدث الذي يتحرك داخله “قضية إنسانية ،كانت ومازالت وستبقى ببقاء الظلم والطغيان.. ..إنه كل مكان به “طغاة”وهو كل مكان ينتصر فيه النور على العتمة وهو كل مكان فيه الأغصان محمّلة بالخير والحب .كما أن الزمان “فجر” يتحدّى ظلمة الخزان و رمز يحيلنا على بداية مشرقة تبشّر بالأمل والميلاد الجديد .
ولعل التقابل الذي بُنِيَ عليه النص لايتوقف عند هذه الإشارات الأسلوبية انما هي واضحة منذ البداية “قبل/بعد” .”.العتمة/الفجر ..إنه نص مميز تعانقت فيه خصائص السرد بأسس الشعرية العميقة ..لقد حوى كل مقوّماتا الجمال والإبهار الشعريين من تشويق نسجه الشاعر خيْطا خيْطا من البداية حتى النهاية هالة شفافة حول “المخاطب” الذي جعل القناع يزيدنا ترغيبا واستفزازا لتفكيرنا لنتساءل ونتحيّر ثم نربط الخيوط الدالة لنكشف اللثام ونفك اللغزومن تكثيف وظفه بكل إتقان ..ضغط المعاني ببراعة فقال الكثير بكلام قليل واستعاض بالتلميح عن التصريح فجاء النص ومضة شعرية نابضة بالصور الشعرية التي تتشكل وتتلون بل تتعطر وتنطق ألحانا وموسيقى ليتسع نطاقها فتمتدّ أفقيا :قبل/بعد وعموديا تحت /فوق ــالجذور/أغصان/قمم وتركيبها بساطة وتعقيدا جاءت بعض الصور مفردة كالصخر والصوان في حين وردت أخرى مركبة وفي أغلبها نابضة بالحياة ..استعارة وتشخيصا فالنبضة شهية مثيرة كفاكهة طازجة او غادة أنيقة والقبضة عنيدة كأي فتى في أوج غليانه وثورته أما المشهد العام فورد على شكل سمفونية جمعت بين الإيقاع لحنا /نشيدا وبين اللون ــ تسكب الألوان /فجرا والحركة / الأغصان ونديّة مبللة بعرق الجباه إحالة على الكدّ والجهد البشري الذي يبذله العامل .. لا يفوتها أن نقف ند الإيقاع ..فشعرية هذا القصيد ووظيفتها التأثيرية التي تتأتى من اختيار موسيقى إيقاعية وزعها بين السطور وشحن بها المفردات منها ماهو فخم كالقبضة ومنها ماهو غنائي خفيف النبض الزهر فتنساب الموسيقى رقراقة كما أن قوة الأجراس وتواترها كان موظفا بحكمة وبعد نظر فالتماثل التركيبي والموسيقى التصويرية يتماشيان مع نفس التحدّي والتغني بالنصر الذي افتثده الشاعر في القصة الموظفة لكنه نسجه بخيط أمل قوية وإيمان في قدرة النضال على الاستمرار وتحقيق المبتغى والإشادة بالفعل الإيجابي /المقاومة والإصرار على البقاء رغم كيد الطغاة .
ولم يخلُ النص من المحسنات البديعية كالجناس غير التام في أحزان /خزان ..نبضة/قبضة مما يشيع في النص جرسا جميلا زادته القافية رونقا .كما أن الصور البلاغية المتنوعة كالتشخيص والتّخْييل والرمز والاستعارة والتلميح والإيماء إلى غير ذلك مما يكسب النص الطابع الحركي الجميل الذي يخرج أحيانا من إطار الكتابة بالحروف إلى الرسم بالألوان بل إلى العزف بنوتة متفردة على أوتار الحسّ المرهف والطموح المتوثب والتحدّي /الفاعل .
بعد هذه الجولة بين تخوم هذا النص المتميّز كلمة ولحنا نلمس أن رسالته لاتقف عند التبليغ بل تجاوزتها الى الإبهار والإدهاش ولقد نجح بدرجة عالية في الوصول الى قلب المتلقي ليس لأنه رافقنا في جولة قراءة تنتهي بمجرد الوصول إلى نهاية الحدث وانما قد احترم المتلقي ورفع مكانته من مجرد مستهلك إلى منتج يشارك في العملية الإبداعية لقد حرّك فينا الكثير من الأسئلة ولم يجب عنها عمْدا لأنه يستفز عقولنا ويحثها على اليقظة وينبهها إلى البحث والحركة والمتعة التي قد تبدأ بالانتهاء من القراءة فالنص المفتوح هو نص مشاكس لايتوقّف عن وخز التفكير كي يغوص أكثر ليفوز بالدرر المكنونة بين السطور.
قراءة ؤاقية جدا سلمت الأيادي