عندما تبوح الذات ويحاصرها هذيانها..  قراءة في ديوان (تأطير الهذيان) لـ” مؤمن سمير “

مرفت محمد يس | كاتبة وناقدة من مصر

 

“اللغة نوع من الجنون العذب ، فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع  الأشياء.. “

                                                                                  نيتشة ( هكذا تكلم زرادشت )  

في محاولة للتحدث عن الهذيان الذي هو ضرب من الجنون الذي لا يحدث إلا في عالم من صراع الأفكار، نجد قصائد الديوان تدور حول هذه الفكرة، واعية بهذا الضرب الواعي ، بداية من العنوان ” تأطير الهذيان ” (1) فالذات الشاعرة هنا ذاتٌ واعية متخمة بالأفكار والمعاناة في صورة موجة من الدفعات الجياشة التي يهتز لها الكون بأسره حولها، ولا يستقر للنفس المبدعة فيها قرار إلا بعد وصولها إلى حالة من النشوة الغامرة ، الشحيحة الحدوث.

ولقد عرف الأدب القديم وخاصة اليوناني منه ضرباً من العلاقات اللاعقلانية التي تربط بين عمليتي الخلق الفني والإلهام ، ولم تبلغ هذه العلاقة عمقها المأساوي   إلا من خلال كتابات بعض الأدباء والمفكرين الغربيين الذين استطاعوا أن يرتفعوا بمعاناتهم عبر كتاباتهم إلي مستويات تعبيرية متقدمة وحولوها إلي طاقة إبداعية هائلة وإن كان ذلك على حساب حياتهم ونظير معاناة وآلام لا قبل لشخص عادي بها .

ولقد تم تناول هذه المعاناة بأشكال مختلفة في أعمال كثير من كبار الكتاب العالميين بدءاً من ” دون كيخوته ” لسير فانتس وأعمال فرانز كافكا وديستوفسكي وفلوبير حتي فرجينيا وولف وجيمس جويس وناتالى ساروت ومارسيل بروست .

وأول ما تقع عليه عين القارئ هو عنوان الديوان ” تأطير الهذيان ” والذي يحمل دلالات قد تتعدد أو تستغلق على الفهم، وذلك باعتباره العتبة الرئيسية التي يدلف المتلقي منها إلى العمل حيث يقوم بدور المحفز للقارئ كي يبحث عن المعني المستتر وراء  تلك اللافتة التي قصد بها ” حصار الهذيان “، هذيان الذات المثقفة الواعية ، هذا الهذيان الذي يعاني منه الكثير من الشعراء ممن يزرحون تحت وطأة الأزمات النفسية نظراً لحساسيتهم المفرطة وعدم الاندماج مع الواقع   المعيش : مما يولد الشعور الدائم بالاغتراب و رفض ذلك الواقع والدعوة إلى العودة للطبيعة الغفل كما نجد في ديوان ” عواء ” ( لآلن جينسبرج) مثلاً ، ذلك الديوان الذي كان علامة فارقة في مسيرة الشعر الأمريكي المعاصر وبعدها صار إنجيلاً للشباب المتمرد والغاضب بقصائده الهذيانية وتعامل مبدعه مع المخدرات لفتح أفق الخيال إلى ما لا نهاية ….

هذا الهذيان الموجه ضد الآلية تنعته الذات الشاعرة هنا ” بالهراء الطيب ” وهو أيضاً المطلق الحقيقي الذي يستحيل وجوده إلا من خلال الهذيان وهو ضرب من الجنون الذي هو نقطة الوصل بين الحلم  oneiric والخطأ erroneous فهو يعكس في تنوعاته السطح الذين يتقابلان فيه والسطح الذي يربطهما ويفصلهما بالخطأ (2) .

ومن الحلم يستعير الجنون تدفق الخيالات والوجود الحسي للهذيان .

ويصل الهذيان لمقصوداته عبر أربع ثيمات ، يلعب معها، وبها:

 

أولاً : ثيمة الزمن

يدور النص من خلال ثنائية ميقاتية تتحدد خلال النهار والمساء بذكر مفردتي “نهاراً” و”المساء” كعناوين يندرج تحتها الهذيان بتراكم الخيالات والصور، رابطاً أشكال المساء مع قوى النهار ، وأشكال التخيل بالأنشطة التي تتم في العقل اليقظ ، موصلاً المحتوي المظلم بأشكال النور المختلفة..

هذا النشاط الذي تشرك فيه الذات آخرين ، في أحداثه . بداية من الميلاد .. ووصولاً للموت .

ففي النهار الأول تخاطب الذات الماضي متمثلاً في دال التاريخ، هذا الماضي الذي يكبل عنق الذات وهو مصدر اختناقها.

كما في القول :

أيها التاريخي

أترك حنجرتي لأصرخ أو حتى أتنفس              صـ 7

فالذات ليست وليدة لحظة بعينها إنما لحظات متباينة ومتعاقبة بداية من الميلاد الماضي ، إن وهم الذات واغترابها ليس منبعه الواقع المتمثل في الحاضر بل هو الواقع المتمثل في الماضي والتاريخ مروراً بالحاضر وبنظرة تشاؤمية وصولاً للمستقبل لأن الذات تستشرق المستقبل الذي لا يختلف ولن يختلف كثيراً عن قسوة الماضي والحاضر فهو امتداداً لهما .

وفي النهار الثاني تتحسس الذات اقتراب الموت، تلك النهاية المفجعة والأشد قسوة عندما تتوقعها وتتشمم رائحة الفناء مستغيثة كما في القول :

 

إنه يقترب

أعلم رائحته السميكة

…. يقترب

فأغيثوني ……..                            صــ  29

وعندما تعلن الذات بتقديرية عجيبة انسلاخ الآخرين الذين يمثلون انعكاسات لصورة الذات الشاعرة لا يتبق غير أن تستغيث مسترحمة … لكن لا مفر :

لكني …. لكني

أموت ……

فارحم يا أخي ……                صــ 46

وعلى العكس من هذا نجد في مفردة ” المساء ” هذا التخصيص الذي خصت به الذات نفسها فنجد أن مساحة البوح زادت ومساحة الهذيان الليلي اتسعت مع      ما يستحضر في الذاكرة من علاقة الشعراء بالمساء والهموم والآلام التي تتدفق في ظلام الليل ، وتنبثق من الوحدة والعزلة .

تستحضر الذات شخصيات كثيرة تستأنس بها وتقتلها في الآن ذاته، فتستحضر الذات مثلاً شخصية سلفادور دالي ثم الغزالي ، ميديا وأنتيجون ، شكسبير وهاملت وجي دي موباسان وكذلك شارل مارتل ….. الخ .

واستخدمت الذات الشاعرة أفعالاً في الماضي أيضاً مثل :

كنت …. كان …… ربطت – نزل .  ضاعف – اختنقت …. الخ

متحدثة عن بداية نمو الذات في الماضي بما يلائم تلك المرحلة من مفردات الحكي ” القص” .

كما في القول :

كنت حبة واحدة

وكان الحجر صغيراً

لا يصل إلي الكتف                 صــ 8

تتحدث الذات الشاعرة عن بداية نمو الذات وهي صغيرة “كان الحجر صغيراً “بما يومئ ويشير للثقل والاختناق الحالي ، وكأن الهموم والأعباء كانت قليلة في الماضي وكلما نمت الذات أُثقل كاهلها وزادت همومها والآمها وصولاً إلى الاختناق وعدم القدرة على التنفس:

الحجر وكان قد قارب النضوج

أخذ يوسع لنفسه

قليللاً …. قليلاً .

برأسه المدببة

بدأ

ثم الحافة اليمني

بعدها أعمى العرق عيناه

فدخل بقدميه الطويلتين

واختنقت أنا                                   صــ 9

هذا الاختناق الذي وصلت إليه الذات الشاعرة نابع من الغربة الشديدة التي تعاني منها الذات وتحاصرها وتجاهد للخلاص منها إلى أن تسيطر عليها تلك المعاناة وذلك القهر تماماً.

هذا الاختناق من ذلك الواقع المتوحش الذي يصل في النهاية بالذات إلى التقطع والتمزق الميتافيزيقي، ثم تكاد تموت فيزيقياً :

رأسي .

رأسي تتآكل .

رأسي وقعت هنا …

 ثقيلة على يدي وساقي .

أنا .. أموت … أخيراً …

أموت …..                                             صــ 58

إلى أن تفيق الذات مؤقتاً في زمن آخر، ضمني ، يتولد بإزاء الميقاتي السابق “نهاراً – المساء” ، زمن لا تتحدد نهايته أو بدايته فهو زمن يرتبط بالوعي، يبدأ معه وينتهي بانتهائه تعلن فيه الذات أنها لم تمت ومازالت حية .. إنبعاثة جديدة  بعد الموت الأكبر الذي رصدته الذات في رحلتها بين النهار والمساء : الميلاد وصولاً للنهاية: الموت، وبعد الموت يأتي بعث جديد وميلاد جديد للذات التي تحلم أن يكون هذا الميلاد إنبعاثة جديدة بعيدة عن الواقع المرير الذي عايشته بالآمه وقسوته وتتغلب على الإحساس بالاغتراب الذي لاحقها منذ ميلادها.. لكن المفارقة الكبرى أن هذه الإنبعاثة الجديدة لا تختلف كثيراً ، فالذات تجد نفسها خائفة   ووحيدة : كما في القول :

لم أمت

لكني خائف

خائف وبردان                                صــ 61

 

الثيمة التانية: القرين

الثيمة الثانية التي تطالعنا هي ثيمة الآخر: القرين، ولا بد من الإشارة إلى        أن الشرط الذي لا بد منه لكي يوجد آخر حتى ولو لم يكن الشرط الوحيد هو وجود أنا (3) بالأساس ..

فالوعي بالذات يقتضي الوعي بالآخر الذي هو شرط لوجود هذه الذات .

وقد ميز الفلاسفة وعلماء النفس في دراستهم للشخصية بين الأنا والذات، وترك كل منهم بصمته الخاصة وتعريفة الخاص لهذين المفهومين ، فالبعض أشار إلى  أنا ثانية متغيرة أو متحولة قابلة للتشكل في ضوء الخبرات الحياتية والمراحل العمرية والظروف المحيطة بالفرد . (4)

فالأنا يمكن أن تكون مُعادِلة تامة للذات ويشار إلى هذا عادة “بإنشطار الذات”   إلى أنا متعدد ومختلف في سياقات متعددة ومختلفة .

كذلك فإن الوعي بالذات قد لا يكون إلا من خلال وسيط وهو الآخر .. والآخر هنا هو “كمال” ، الآخر الصغير بمفهوم ” لاكان ” ، الآخر الذي لا يصدق عليه بالمرة أنه آخر ، ذلك أنه قسيم الأنا وقرينة بصورة جوهرية ويتشابك معه في علاقة هي دائماً علاقة مرآوية يمكن فيها أن يحل أحدهما محل الأخر .

فهي علاقة تبادلية دائماً ، وهي كذلك المرحلة التي تصبح فيها الذات قادرة للمرة الأولي على الشعور بالتعاطف مع آخر. فتبكي لبكائه وتصرخ لصراخه ، وتكون إياه حين يصاب ذلك الآخر بأذى :

أنا

هنا

يا ” كمال ” …..

قميصي ضيق لأنه ملوث بالظل

بقعة الدم في عيني ….. وفي أذني

أبعدهم يا ” كمال ” …. صدقوني ….

يا نذل .

يا أنا …..                                                       صــ  7

الآخر هنا هو قرين الذات ، هو انعكاس لصورته التامة في المرآة ، تلك المرآة التي تصور الطبيعة الصراعية التي تقوم عليها العلاقة الثنائية بين الأنا والآخر  فهي المرحلة التي تتكون فيها الآنا عن طريق عملية “التوحد “، توحد المرء بصورته في المرآة وهذا التوحد ينشأ عنه الـ “Ego ”  أي توحد الذات التام بصورتها، ” الآنا ” بالآخر”، ويتكون هذا الـ” Ego ” عند “لاكان” بالتوحد مع النظير المقابل وهذا ما أعلنته الذات بتقريرية مفترضة مثلما هي مُشعّرة …

كما في القول:

الجارة

بذكائها الفطري

ربطت بيننا سريعاً                           صـ 8

 

فمرحلة المرآة هنا تبين أن الذات Ego تتمخض من سوء الفهم والالتباس ، فالذات ليست فقط تلك الصورة التي في المرآة وإنما هي لحظات متعاقبة أو في حقيقة الأمر “ذوات متغيرة” أي أن الذات تتقمص شخصيات كثيرة كما يتقمص الممثل شخصياته فهو كما تقول” إلمان” Ellmann Moud إن الخيالي أو التخيلي أو المتخيل مسرح تتقمص فيه الذات على نحو دائم أو تتوحد بأشخاص جدد جهاداً منها في سبيل التغلب على الانقسام والانعزال والاختلاف والموت.

وهنا نجد أن الآخر الصغير ” كمال ” تحول إلى آخر كبير بتعبير ” لاكان ” أيضاً والذي يتكون من القانون والمجتمع والآخرين .

هذا الآخر الكبير موقعه “في اللغة” لأنها الأساس المشترك الذي يمكن به أن تكون لنا صلة بهؤلاء … أقصد القانون والمجتمع والآخرين .

فمن النظام الرمزي أو اللغة يستعير المرء هويتة أو بعبارة أخري تتسرب فيه هذه الهوية أو يتشربها من النظام الرمزي . وهي ليست في الحقيقة هويته وهذا قول “رامبو” : أنا آخر I is another  وهذا ما تعلنه الذات الشاعرة بأن الآخر كمال … هو آخرين في الحقيقة: هو الطفل ” كمال ” صديق الطفل ” مؤمن “

هو الأستاذ ” كمال ” مدرس اللغة العربية

هو الحاج ” كمال أبو يونس الضرير

والسيد ” كمال ” والد الأستاذ ..

هو الآنسة ” كمال ” حبيبة …….

وهذا النظام التخيلي Imaginary  كما يقول” باوي” Malcolm Bowie  هو المشهد الذي ينطوي على محاولة المرء محاولة مضللة ويائسة أن يكون– وأن يظل – ما هو إياه ، بأن يضم إلي نفسه علي نحو دائم مزيداً من أمثلة التماثل مع نفسه ….

إنه محل ميلاد الذات المثالية Ideal ego النرجسية إن الأنا يقاوم بهذا التوحد غربة الشيء الذي يتوحد به فيجعلة قريناً أو شريكاً فهو لا يريد أن يكون وحده بل أن يكون معه آخرون والحصيلة كما تقول إلمان ، غابة من المرايا كل منها يلقي بظله على الآخر (5).

وتتعدد صور الآخر في الديوان فالجارة هي آخر رمزي – الولد الصغير –    فتى الأرجوحة فنحن بإزاء ذاتاً منقسمة Diviedd self ، فالكتابة الشعرية هنا لغم، بمعنى أنها زلزلة لكل مستقر وخلق لامكانيات جديدة في رؤية الأشياء وفي إقامة علاقات مختلفة بينها وبين الكلمات . إن الذات هنا واعية خبيثة ماكرة، كحال    كل الذوات غير العادية، تصرح بأنها تهذي “هذيان المثقفين” و تصرح بأن الآخر كمال هو آخرين … ثم إمعاناً في الزلزلة والمرواغة تعود مصرحة بأنه ليس آخرَ ولا واحداً من هؤلاء الآخرين !!

“…. لست أخي ، ولا صديقي ولا أبي ولا أنا” .

 

الثيمة الثالثة: لا مركزية الجسد

إن هذه الكتابة وجدانية أيضاً بمعنى من المعاني، تحتل فيها الذات الشاعرة المأزومة إلى حد التفجر كل المساحة النصية … إنها ذات، في سياق حركي،  تعبر عنها بدقة ، فكرة الجسد الممزق التي ترتبط أيضاً بمرحلة المرآة، حينما تشعر الذات بالتهديد تنتج عبرها ذكرى الشعور بالتقطيع والتفرق والتمزق، هذه الفكرة التي ترتبط بخيال الـ أنا حيث ذلك الجسد الذي لا يساوق بعضه بعضاً، وتصدق هذه الفكرة، لا على الصورة الحسية للجسد فحسب ولكن على كل شئ يشير إلى التفتت والتمزق :

أحدد أبعاد الجثة ..

الطول والعرض والأقدار

جثة ” كمال ”

ثم أنظر هنا وهناك

الوضع أمان وهدوء

لحم الكتف

غالباً ” مشفى ” من الدهون ”

أقضم

وأغمض عيني

وأبكي .

لحم الفخذ …..

أنهش

وأبكي

وأزدرد الساق

والضلوع …..            صـ 15 , 14

هنا استعرضت الذات صورة جسدها الممزق محددة أبعاده وأجزاءه وهذه الصورة الرمزية تجسيد لما تمر به الذات الشاعرة من تشتت وتبعثر وفقد للهوية ، وفقد الهوية هنا أوهام وخيالات وضلالات تقوم على إساءة فهم الذات لنفسها مما يحث الذات على البكاء ، الذي هو شعور حزين بالحنين حينما يعيد إلى الحياة صورة النفس الأولى، فهذا البكاء تعبير عن عدم وصول الذات إلى مرحلة السواء النفسي إذ أن الوصول له أمر مستحيل تحقيقه وبالتالي فلن تتوحد صورة الذات بصورتها المرآوية الممزقة إلى الأبد :  

في النهاية ، أصبح شكلي مزرياً

الدماء متناثرة على وجهي ،

والأحلام عالقة بأقدامي ،

حتي الشبع لم يعد متألقاً

أنا فاقد لأنتصاراتي ….

لكن مهما جري لن أخيط الجثة ، فتعود للقفز

والثرثرة …..                                                   صــ 17

شكل آخر من أشكال التمزق والتساقط وهو صوت الحطام وما يتبعه من انهيار للبناء …. أيْ بناء الذات المكتمله التي تتحطم وتسقط نتيجة ذلك الخواء الداخلي الذي يهدد استمراريتها في الحفاظ على هذا الشكل . يقول النص:

صوت الحطام

سيزعج عشاق

الدور الأخير ….                             صــ 34

 

الثيمة الرابعة : مفهوم الإغتراب

مصطلح الاغتراب alienation يستعمله “لاكان” بدلالاته في الطب النفسي والدراسات الفلسفية كذلك، حيث أنه ليس من بين المصطلحات التي استعملها “فرويد” في نظريته، إنما كانت الكلمة تستعمل في الطب النفسي الفرنسي في القرن التاسع عشر فالمرض العقلي يوصف بأنه اغتراب عقلي وكانت كلمة اغتراب alieine من الكلمات العامة التي تستعمل في الفرنسية للدلالة على الجنون، وقد ظهر المصطلح في التفكير الفلسفي عند كل من “هيجل” و”ماركس ” غير أن مفهوم “لاكان” يختلف عنهما إلي حد بعيد  فالاغتراب عنده ليس حادثة تعرض للذات أو تطرأ عليها ثم يمكن تجاوزها بل هي ملمح أساسي في تركيبة الذات بصفة أساسية منشق عنها ومغترب عنها ولا مهرب له من هذا الانقسام ولا معدى له عنه. ولا سبيل أمامه إلى الكلية أو التضام . فالذهان نفسه صورة من صور الاغتراب أشد حدة وتطرفاً (6).

إن الأنا هي دائماً آخر لأنها مؤسسة على ذلك التوحد بصورة بصرية واضحة حيث هي هي وليست إياها في الوقت نفسه .. قد تكون إنعكاساً في مرآة وقد تكون صورة دون كيشوتية (نسبة إلي دون كيشوت) والأمران سيان .. وتتمثل حالة الاغتراب هنا في ذلك الضيق والاختناق الذي يكبل الذات الشاعرة كما في القول :

الصندوق ضيق علي يا كمال ….

لذلك أدوس على الإطار

بريشتي …..                       صــ 34

فهذا العالم رغم اتساعه، تشعر الذات هنا بأنه ضيق لا يسعها لأنها تفتقد فيه هويتها وتشعر بعدم الانتماء والاغتراب وهذا المعني تؤكده الذات أيضاً في القول :

إنما إطار الصورة كبير عليك ؟

تعوم فيه

كأنك بندول

وعكازك خارج الإطار ..

بلهفة المحابيس

تنظر له

فيقفز جذلاناً

ويحمل عن ظلالك حقائب الهدايا …                صـــ 12

فإطار الصورة الكبير رمز الواقع الذي لا مكان للذات فيه .  

إن القصائد تميل لأن تكون تمثيلاً لذات مقهورة ومغتربة تشعر بالفقد سواء فقد الحب أو فقد الصداقة أو فقد الإنتماء ومن ثم تسعى الذات لمجاوزة هذه المعاناة فتجنح للخيال من خلال صنع عوالم بديلة متخيلة تساعدها في تخطي هذه الآلام التي يفرضها الواقع بصفة عامة :

هكذا أصير قطة سوداء

يبرق صوتها وعينها

خشنة ………….

تنط على الخيال

وتسب النوافذ

ولا تسيب ظلاً …..

واحداً لكم ..                        صــ 36

إن رؤية الذات المغتربة هنا للعالم رؤية إنهيار لليقين ليحل محله الضياع والشك، يقول النص :

لن تقرأ جريد اليوم

لأنك أعمى .

ثم تغني وأكياس العيون جوارك ..                 صــ 47

هذا الضياع والشك يؤدي بالذات إلى عدم التأقلم والإحساس بالخديعة والهزيمة التي هي النهاية المفجعة التي تصل إليها الذات هنا نتيجة لاغترابها :

الجريدة توقع الحبر علي الخيبة .

خيباتي سمينه .

يا ولد يا ” كمال ”

وعقدي لست كفيلاً بهم لأنك ورقٌ ، هش ..                صـــ53  

فالذات هنا رغم توحدها بالآخر ” كمال ” أعلنت اغترابها عنه فهو مجرد وهم متخيل أساسه الخداع وسوء الفهم وهذا التصور المغلوط للواقع هو مجرد ورق، هش اخترعته الذات لتعبر عن هذيانها واغترابها في الوقت نفسه، هذا الاغتراب الذي يؤدي بها في النهاية إلى الاصابة بالشلل، فتستغيث ..

انقذوني … أصبت بالشلل …..            صــ 56

ومن صور الإغتراب داخل الديوان إستعارة الذات لشخصية هاملت الشكسبيرية وقضية الهوية التي عبر عنها “شكسبير” على لسان “هاملت” ” أكون أو لا أكون”  وهذه الفكرة هي الفكرة الرئيسية التي دارت حولها صورة الاغتراب داخل الديوان فالذات كانت في رحلة بحث عن هويتها محاولة الإندماج مع الواقع ثم انتهت بالتخاذل والرغبة في الموت أو أمنية الموت ” السانتوس ” بتعبير “فرويد” التي توصلت إليها الذات في النهاية بعد سلسلة من الصراع انتهت بالهزيمة كما عبر الشاعر عن ذلك في قول النص  ..

أنا فاقد لانتصاراتي …            صــ 17

بقي أن أشير إلى أن حالة الهذيان التي قصدتها الذات الشاعرة هنا ورصدتها من خلال محاولة تأطيرها ليست مجرد مرض أو حالة من الجنون واتضح هذا من خلال قولها، مخاطبة الشخصية ” كمال “، التي اخترعتها الذات في إطار مجازي ” لأنك ورق هش ” أي أنه مجرد باعث لإثارة الهذيان .

ويشبه هذا شخصية ” مالن جينيه ” الشيطان المخادع ، تلك الشخصية التي اخترعها “ديكارت” وأصبحت هي الوسيلة التي من خلالها تتحامل الذات الشاعرة على الجنون والهذيان بالضبط كما تتحصن ضده .

وفي موضع آخر، سبق ذكره، نفت الذات كون هذه الشخصية الأخروية ذات الشاعر ولا صديقه …. ولا أخوه ولا أياً من هؤلاء، هي فقط رمز وتكأة .

وظهر نوع عنيف من الاغتراب عندما استغاثت الذات هنا بالآخر الذي اخترعته هي ، قائلة:

اقفز هناك فيَّ

المهم خلصني منه

الآن …. الآن …… أرجوك ……..                 صــ 29

فالاغتراب لم يقتصر على كونه اغتراب عن واقع أو شعور بعدم الإنتماء والفقد بل تحول إلى اغتراب الذات عن نفسها وعن مثيلاتها المخترعة .. وهذا هو أشد أنواع الاغتراب حدة وقسوة .. كما عبرت الذات أيضاً عن الألم الممزوج بالهذيان والتهكم الجارح والكشف بل والفضح أكثر من مرة ، سواء بذاتها أو بالإحالة إلى اللون الأحمر في شكله الجارح ” الدم “، حيث عبرت الذات الشاعرة عن هذا الحال باستخدام هذا الدال:

بقعة الدم الكبيرة .. ارحمني      ..                           صــ 46

          كي لا تتسرب الحقة المنقوشة بالدم ……         صــ 47

الدماء متناثرة علي وجهي …                       صــ 17

بقعة الدم في عيني …                                صــ 7

الدم بقعتان ….                                       صــ 29

ثم عبرت بالمرادفة ” حمراء ” :

أحمر شفاهك …. نقط حمراء ….                                      صــ 40

كما تتكرر لفظة الهواء أيضاً تكراراً يعبر عن حالة الاختناق الذي تعايشه الذات ورغبتها الدائمة في الخلاص :

الهواء ساكن صــ 14

الهواء يشيلنا  صــ 18

الهواء حبيبنا صــ 20

هواء يا ناس صـــ 58

ويتكرر دال الموت والقتل إلى أن تنتهي الذات الشاعرة في صراعها مع الواقع ومع ذاتها بالاختناق ثم الموت .

كنهاية طبيعية لإيقاف هذا الصراع … أو لاتخاذه شكلاً متجدداً …..

                                                                            

الهوامش

1-

تأطير الهذيان، كتاب شعري ، مؤمن سمير، دار التلاقي للكتاب 2009.

2-

ميشيل فوكو : الجنون والحضارة : تاريخ في عصر العقل 1997صـ 165.

3-

جان فاروٌ : الآخر بما هو اختراع تاريخي : الطاهر لبيب (محرر) الآخر العربي ناظراً ومنظوراً إليه: مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1999 صـ45.

4-

بول ريكور ، الذات عينها كآخر ، ترجمة جورج زيتاني ، المنظمة العربية للترجمة : بيروت 2005 صـ49.

5-

المتخيل الثقافي : السيد إبراهيم: مركز الحضارة العربية
صـ57.

6-

المرجع السابق صـ  36.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى