داخلُ الغُرَفِ المُغلَقَةِ

الكاتبة رحاب يوسف

 يقولُ الفيلسوف فيودور دوستويفسكي: “إنَّ القيامَ بخُطوَةٍ جديدةٍ، أو التَّلَفُّظَ بكَلِمَةٍ جديدةٍ أكثرُ ما يخشاهُ الناسَ”

    واللهِ إنَّ أحَبَّ الساعات إلى قلبي تلكَ الساعةُ التي أقبِضُ فيها على مَقبَضِ بابي؛ لأختليَ مع اللهِ، وأمي، وقَلَمٍ يَنسِجُ كَلِماتي بكُلِّ يُسرٍ وسُهولَةٍ، دون تَعقيدٍ أو تَكَلُّفٍ، مُبتَعِدَةً عن وَحشيِّ الكلامِ وغريبِه، حتى لأشعُرَ بأنَّها تَتَعلَّقُ بأعناقِ بَعضها البعض تآلُفاً وانسجاماً، فما إن آخُذَ قَلَمي بين يَدَيَّ حتى يَشرَعَ بمُداعَبَةِ حُروفي المُتَدَفِّقَةِ، يُصيغُها لَبِنَةً لَبِنَةً، بتَسَلسُلٍ أدبيٍّ بديعٍ، وإحساسٍ مُرهَفٍ، وقلبٍ مُتَّقِدٍ، وفِكرٍ حاضِرٍ، ينبِضُ صدقاً، أُسافِرُ معه إلى كل قارّات العالم، دون أن أُغادِرَ مكاني قيدَ أُنمُلَةٍ.      

    أحيانا أكتبُ بتلقائيةٍ، وأحياناً بمَنطِقٍ وعلمٍ، نَصّاً إبداعيّاً كاملاً مُتَكامِلاً، أستدعي فيه كلَّ قُدُراتي وطاقاتي، من خلال عُصارَةِ التجارِب الشخصيّةِ والغيريَّة، نَصّاً يُخاطِبُ قلبَ القارئ وعقلَهُ، يُحدِثُ في نفسه إرباكاً وارتباكاً، يعيشُ تفاصيلَهُ، ينتَقِلُ مَعَهُ من حالٍ إلى حالٍ، انتقالاً نفسيّاً، وذهنيّاً، ووجدانيّاً، وفكريّا، إثرَ كُلِّ كَلِمَةٍ يقرَؤها، فيُعيدُ ترتيب أوراقِه.. وأحلامِه، وأهدافِه، يفتَحُ نوافذَ نَفسِهِ وأبوابها على العالم؛ ليكونَ أكثرَ حُريَّةً، أكثرَ عطاءً، أكثرَ قُدرَةً وتحمُّلاً، نَصّاً يُمسِكُ بيَدِ القارئ، ويأخُذُه من دربٍ ضبابيٍّ إلى درب اليقين والوضوح، إلى رِحاب الله؛ ليَميزَ الحَقَّ من الباطل، الفضيلةَ من الرذيلة، العدلَ من الظلم، الصواب من الخطأ، فيطرَحَ عن نفسِه كُلَّ ما يُثقِلُها ويؤذيها وراءَ ظَهرِه، من وساوسٍ، ومخاوفٍ، وضعف، وأحزانٍ.

     فلتغَفرْ لي أيّها القارئُ زَلّاتي – إن كان هنالك زلّاتٌ – فأنا في سِباقٍ مع الزمن، ألا تسمعُ صوتَ ضَرَباتِ قلبي، ولُهاثي بين السطور؟ أجري بأقصى سُرعتي إلى أعماق نفسِكَ؛ لأضيءَ ما انطفأ، أُرَمِّمُ ما اهترأ، بكلماتٍ، ومُفرَداتٍ تُلامِسُ داخلَكَ، تكونُ مُؤَشِّرَكَ، وبوصَلَتَكَ في ظلمات أحداث الحياةِ، تنهضُ بمَعنَويّاتِكَ، وتَنتَشِلُها، وتصعَدُ بها إلى الأعالي والمعالي؛ لتُصبِحَ هامةً، وقامَةً، مُتَحَصِّنَةً نفسيّاً، وأخلاقيّاً، ودينيّاً، لا يُحَطِّمُها الوهمُ والوَهَنُ.

      عرفت أنَّ كَلِمَةَ الحَقِّ تُزعجُ بعض النفوسِ المُقَنَّعَةِ بقِناع الزيف، والجهلِ، والنفاق، والتعالي، لكنّني علمتُ أيضاً أنه لا يستطيعُ أحَدٌ اغتيالَها، أو إيقافَ جَرَيان مِدادِها؛ لأنني أحملُ بين جَنبَيَّ رسالَةً مُتَشَبِّثَةً بها، وقضيةً أدافعُ عنها، كلمةَ الحقِّ أقولُ، وأمشي وإن كان المَشيُ على حَدِّ الشفار؛ فالمُفرَدَةُ التي فيها كلُّ المَوعِظَةِ، وكُلُّ التربيةِ، وكلُّ الكلام، غاليةٌ كالحُرِّيَّةِ، تَستَحِقُّ أن أدفَعَ نفسي ثَمَناً لها.

       لا يَهُمُّني إن طَوَيتُ الأرضَ شَرقاً وغَرباً وحدي، بعيدةً كليّاً عن الزِّحام، فأنا اخترتُ الانحيازَ للضعفاءِ، للفقراء، للمظلومينَ ضِدَّ أبالِسَةِ الإنسِ والجِنِّ، ففي جميع الأحوال قولُ الحقيقةِ كالسباحَةِ وسطَ الأمواج المُتَلاطِمَةِ، لا شيءَ معي في لُجَجِها سوى نورِ الله، وكَلِمَةٌ أُرَبِّتُ بها على كَتِفِ امرئٍ قلبُه طَيّبٌ، شَكَّكوهُ بأنَّ صِفَة الطّيبةِ صِفَةُ الدراويش، وكأنّهم يُعاقِبونه؛ لأنَّه يَعيشُ في عالمٍ عُلويٍّ مُختَلِفٍ عن عالِمِهم السُفليِّ، ولأن وَهَجَ نورِ وَجهِهِ يَعمي عُيونَهم، يُفزِعونَهُ بما يراهُ على صَفَحاتِ وجوهِهِم الراكِدَةِ من صَفَعاتٍ تَلطُمُه، يَقرأُ في نظراتِ عُيونِهم رسالةَ الكُرهِ والعداءِ ثمنَ صفاءِ رُوحه البلوريَّةِ.

     هذا الدرويشُ الذي في نَظَرِهم أبلهُ، هو الوحيدُ الذي يَنسَجِمُ داخِلُه مع الطبيعة، تتناغَمُ روحُه مع جَمالِها، يعيشُ بين نُكرانٍ واعتراف المُجتَمَع، اختاروه ليَسخَروا منهُ؛ لإسعادِ أنفُسِهِم، يحتَقِرونَهُ بكلِّ جَبَروتٍ وقَسوَةٍ، يُقامِرون بمَشاعِرِه، ويلعَبون بها، وهو لا يُحَرِّكُ ساكناً؛ لأنه مُقَيَّدٌ بطيبَتِه، ولا يستطيعُ التَّمَرُّدَ عليهم.

     أعلم أنَّ مُهِمَّتي ليست سهلةً؛ لذا وضعتُ نُصبَ عَينيَّ أنَّ الدربَ طويلٌ وشاقٌّ، مَحفوفٌ بالأشواكِ، والكلاليبِ، والأوغادِ، وفي مُنعَطَفاتِه سيُصيبُني الوَهَنُ والضعفُ، وسيتعثر مسيري، لكنني أحاول المُضِيَّ بحِكمَةٍ وهدوءٍ، أحمِلُ على عاتقي أفكاري، أتَقَدَّمُ بخُطُواتٍ واثِقَةٍ، وإن كانت بطيئةً، على يقينٍ أنني سأصِلُ، غارِزَةً غَصَّةً في حَلقِ كُلِّ مَن يُحاوِلُ إفسادَ طُهرِ النَّفس، ولا يكتَرِثُ بما يصنَعُ بكسيري النفوسِ، الذين هُم كالنوارِسِ على شواطئ المنافي، غُرَباءُ هَجَروا المواسِمَ والفصولَ، إلا مَوسِمُ اللا شيءَ، يُسامِرونَ فضائِلَهُم في ليلٍ طَويلٍ، مُتَدَثِّرين بحُبّ الله، لا يَضُرُّهم مَن يُخالِفُهم.

    التعبُ الذي أنتَ فيه الآن ما هو إلا طريقٌ لراحَتِكَ، وكلُّ الأماكِن التي خرجتَ منها مُنكَسِراً، ستعودُ إليها مُنتَصِراً، ولنا في قِصَّةِ سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – عِبرَةٌ، بعد أنْ هاجَرَ من مَكَّةَ عاد إليها فاتحاً، لكن عليكَ أن تكونَ مُؤمِناً، ثابتاً، مُطمَئِنّاً، مُتَيَقِّناً أنّكَ مُنتَصِرٌ لا محالةَ، وإن كانت كلُّ المُعطَيات تقولُ لك إنّكَ هالكٌ، اقفل بالأقفال كُلّ الغُرَف التي تألَّمتَ فيها، وغادِرْها مُنطَلِقاً تحتَ أيِّ ظرفٍ، دون أن تُعاقِبَ نفسَكَ، وتُحَمِّلها ذنبَ التَّعَلُّقِ الزائفِ القائمِ على الخِداع، في طريقِكَ نحو السعادةِ، انسَ مَن امتَدَّتْ أظافِرُهُ الحراريّةُ إلى أعماقكَ؛ لتقتَلِعَ أمَلَكَ، طُموحَكَ، فرحَتَكَ، إنجازَكَ، لا شيءَ يستَحِقُّ أن يستَنزِفَ تفكيرَكَ، فلا تُهدِرْ طاقَتَكَ على عَتَبات الذكريات، سِرْ وَحدَكَ، فمَن تَرَكَكَ في البردِ تحتَ المَطَر، دون أن يُظِلَّكَ بأجنِحَتِهِ، لا يستَحِقُّ أن يَنعَمَ بدفءِ رَبيعِكَ.

     يُلهِمُني اللهُ – سبحانه وتعالى – إلى توثيقِ الانتهاكاتِ المِهَنيّةِ والأخلاقيّةِ داخلَ الغُرَفِ المُغلَقَة، ليس لمُجَرَّدِ التوثيق، إنما للتغيّر نحو الأفضل، ومِن أجل ذلك المُختَبِئ في إحدى الزوايا المَنسِيَّةِ، وقد نَسَجَ عليه العنكبوتُ خُيوطَهُ؛ هرَباً من العُنصُريَّةِ، والفَوقيَّةِ، والإقصاء.

     نشأتُ في بيئةٍ مُتَشَبِّعَةٍ بالإنسانيّةِ، والأخلاق العالية، والقِيَمِ الرفيعةِ،  بيئَةٌ نَشِطَةٌ بالعمَلِ والمسؤوليّة، يُديرُها أبٌ ليسَ ديكتاتوريّاً ولا ديمقراطيّاً، هو بين هذا وذاك، يُعطي كُلَّ فَردٍ سُلطَتُهُ في التصَرُّفِ في القرارات والاختياراتِ مَعَ تَحَمُّلِ النتائج، إلا تَخَصُّصاتُنا الجامعيّةُ، فقد اختارَها لنا، وفَرَضَها علينا – أنا وإخوتي – فرداً فرداً.

     كان والدي شُجاعاً، شَهماً، كَريماً، مُتَمَرِّداً على الظُلمِ، كنتُ أتَعَلَّمُ منه بصَمتٍ – رحِمَهُ الله – فلسَفَتَهُ، وطريقَتَهُ في التفكير والحياة، كان يُحِبُّ الشِّعرَ والزَّجَلَ، لا زلتُ أتَذَكَّرُ المُناظَراتِ الشِّعريَّة التي كان يُجريها مع مَن هُم أهلٌ لها، لهذا أجبَرَني على دراسةِ أدب اللغَةِ العربية، مع أنني أجَّلتُ أكثر من فَصلٍ لعلّه ينسى، وعندما عُدتُ قال لي: ادرسي أدبَ اللغة العربية، ذهبتُ دون عِلمِه إلى كليّة الفنون على أمَلِ أن أتَخَصَّصَ التربية الفنيّة، فقد كنتُ أحِبُّ الرسمَ، وكان من بين أحلامي تَخَصُّصِ الصحافةِ والإعلام، لكنّني عُدتُ أدراجي سريعاً إلى كليّة الآداب، وعينايَ مُحدِّقتان بمسجد الكليّة، دخلتُهُ فشَعَرتُ بالأمان، والسكينة، فأغلبُ وقتي كنتُ أقضيه فيه، كان فصلُ الشتاءِ وأوراقُ الشجَر ترتَعِشُ، وأسناني تصطَكُّ، لا أعرِفُ أهُوَ من شدّةِ البَرد؟ أم من لوثَةِ التفكير التي اعتَرَتني؟ كانت أفكاراً مُختَلِطَةً مُتَداخِلَةً؛ لعدَم مَقدِرَتي على اتّخاذ القرار، كنتُ إذا شَعَرتُ بالمَلَل أذهبُ إلى كليّةِ أختي، أو تأتي هِيَ إليَّ.

     جاملتُ صديقتي التي كنتُ معها على مقاعد الدراسة طيلة سنوات دراستي، وبعد الثانويّة العامّةِ ذهبتُ معها، وقدَّمنا طلبَ الالتحاق بكليّة التمريض، أنا لا أحلُمُ بهذا التخصص، لكن أحببتُ ألاّ ابتَعِدَ عنها، وعندما عدتُ إلى البيت مَزَّقَ أبي الطلبَ!

      ما أراه داخِلَ الأروِقَةِ وغُرَفِها المُغلَقَةِ فَجَّرَ يَنبوعَ قَلَمي، تجاهلتُ كُلَّ المَواقِف السلبيّة إلى أن تُتاحَ لِيَ الفُرصَةُ التي أستطيعُ من خلالِها الردَّ برسائلَ وجُمَلٍ ناقِدَةٍ نَقداً هادِفاً يُفهَمُ فَهماً سليماً بحُسنِ نِيَّةٍ.

     أخبروني هاتفيّاً أنه تَمَّ تعييني في مديريّة التربِيَةِ والتعليم في رام الله، كنتُ أرنو بخُطُواتٍ مُسرِعَةٍ نحو المجهول، مُتَلَهِّفَةٍ في يوميَ الأوَّل من تعييني، أوصلَتني أمّي إلى مَفرَق القَرية، جاءت السيّارةُ، فودَّعَتني أمّي وأوصتني: “ديري بالك على حالك يمّا” لأنّ هذا السفرُ الأوّل لي إلى مُحافَظَةٍ بعيدةٍ، ولأنّني لا أفهم الناسَ، وما بين سُطورِهِم، فانا بيتَيَّةٌ بامتيازٍ، لم أختَلِط بالناس حتى أتَعَرَّفَ على دهاليزِهم، وكَهَنِهم، ومكرهم.

     وصلتُ المدرسةَ التي تَعَيَّنتُ فيها، كانت تعتريني مَعالِمُ استحياءٍ، ورِقّةٍ، ونُعومَةٍ لم تَتَغَيَّر إلى هذا اليوم، كُنتُ أسيرُ في الطريق الصحيح، لكنّني في المنطِقَةِ الخطأ – أعني في التدريس – يبدو أنَّ أناقَتي الزائدة كانت في غير مَحَلِّها، أناقَتي كان فيها رزانةٌ، واتِّزانٌ، ورُقِيٌّ، لكنها ثَمينَةٌ، هذا الأمر جَعَلَ فجوةً بيني وبين الزميلات، أَظهَرُ لهُنَّ بكامل أناقتي، كلُّ النَّظَرات تتَّجِهُ نحوي بدَهشَةٍ، وكأنّي آخِرُ ما تَبَقَّى من نساء العالم، كما أخبَرَني أحدُهُم قبلَ عشرينَ عاماً عندما قال: “انقرَضَت النساءُ، وبَقيتِ آخِرَهُنَّ”، رُبَّما لأنّهُ لا يراني مُستَرجِلَةً، عندما يكون الأبُ رَجُلاً يُعادِلُ أمّةً بشَجاعَتِه، وعزيمَتِه، فابنَتُه لا تحتاجُ إلى أن تكون مسترجلة.

      أؤمِنُ بأنَّ هنالكَ تَنافُرٌ بين مُحَيَّايَ ومُحَيّا الكثيرين، وما يُؤَكِّدُ ذلك إطالَتُهُم النظَرَ في تأمُّلِ وَجهي وتَمَعُّنِه، ليسَ لجَمالي وحُسني، فأنا أرى نفسي “عاديّةً”، لكنّهم يبحثون عن وجهٍ يُشِعُّ بالنور والطِيبة المُنعَكِسَةِ عن نَقاء القلبِ، وصفائِه، ويَقَظَةِ الضمير، كما أخبرتني إحدى الزميلاتُ عندما كنتُ في دورةٍ للُّغَةِ العربية، ولاشكَّ أنَّ هناكَ نظراتٍ تَنفُثُ سُمّاً، وحِقدا، وغيرَةً، وحَسَداً، تَخرُجُ من حَدَقاتٍ بارِزَةٍ إلى الخارج، عكس عَينيَّ الذابلتين، الناعستين، الغائرتين للداخل، وهذا الأمرُ لم يَكُن إلا مَصدَرَ تَباعُدٍ بيني وبين الذين يملِكونَ قَسَماتٍ مُضطَرِبَةً، مُتَداخِلَةً، عنيفة، خَشِنَةً، لم تَتَغَيَّر ملامِحُ وجهي رَغم ما مَرَرتُ به من فَقدٍ للأحِبَّةِ، بقيتُ أحافِظُ على طفولَةِ وجهي وبراءَتِه، ألتقي بالكثيرين، لم أَعُدْ أعرِفُهم، تَغَيَّرَتْ وجوهُهُم إلى الحَدِّ المُرعب، يُنادونَني بالاسم، ويقولون بالحرف: ” يا الله! لم تَتَغيّري، بقيتِ كما عرفناكِ”، أرعَبَني ما قالته إحدى الطالبات لي يوماً دون أيَّة مُناسَبَةٍ: “مُعَلّمتي، أنت شفّافةٌ جداً، داخِلُكِ مُشاهَدٌ لنا، ألهذه الدرَجَة يقرأنني طالباتي؟

     كانت وفاةُ أبي بمثابة سُقوطي تحت سابِعِ أرضٍ، أُغلِقَت الأبوابُ في وجهي، بدأت أشعُرُ بانكسارٍ في داخلي، عادةً ما أخافُ الذهابَ إلى البَرِّ وحدي، لكن بعد وفاةِ والدي – رَحِمَهُ اللهُ – خرجتُ من البيت إلى أقرَبِ أرضٍ، واتَّكأتُ على جِذعِ شَجَرَةِ زيتونٍ، لم أَعُدْ أخاف منذُ تلك اللحظة، كنتُ مُتَعَلِّقَةً بأبي، وأمي، ببيتنا، حارتنا، حجارتها، شوارِعِها، أزِقَّتِها، أتَسَلَّلُ بعد العِشاء إلى الأعلى، وأقِفُ في العَتمَةِ، وأفتَحُ النافذَةَ، أتأمَّلُ البيوتَ والشوارع، مُحَدِّثَةً نفسي: “أمّي مشت في هذا الشارع وهي صغيرةٌ، وأبي كذلك”، فبيتُ أهل أمّي يُلاصِقُ بيتَ أهلِ أبي، وهُما من نفس العائلة، أتأمَّلُ الحَجَرَ الذي كان يجلِسُ عليه أخي عصرَ يوم رَحيلِهِ، قلتُ له حينها: “الشمسُ حارقةٌ، ابتعدْ من تحتها” لا أنسى هذا اليوم، كُنّا كُلّنا في حالة اختناقٍ وضيقٍ، لا نعرِفُ السبب، لا أحَدَ يُكَلِّمُ الآخر – على غير عادتنا – بكيتُ بكاءً دون سَبَبٍ، لم أبْكِهِ في حياتي!

     الهدوءُ يُخَيِّمُ على الحارة، جاء العِشاءُ، فخَلَدتُ إلى النوم مُبَكِّراً، استيقظتُ الساعةَ الثانية عشرة على صوتِ أمّي: “رامي.. رامي.. رامي!”، أخي يدورُ في كلّ البيت، واضعاً يَدَهُ على قلبِه، رفعتُ رأسي فرأيتُ وجهَ أخي يَتَصَبَّبُ عَرَقاً، صَرَختُ، خَرَجتُ من البيت أصرُخُ ليلاً، وأنا التي كنتُ إذا أردتُ أن أنتَقِلَ من غُرفَةٍ إلى غُرفَةٍ في الليل أنادي:”يابا”، يجيبُني: “يابا رِحاب، ما تخافيش أنا صاحي”، كان بيتُنا القديمُ واسِعاً، ولِكَثرَةِ الغُرَفِ والأشجارِ أخافُ التَّحَرُّكَ فيه ليلاً، فانتقلنا إلى بيتِ أخي في نفس الحارة؛ ليعتني بنا، لقد أفرَدَ لنا شُقَّةً، وتَحَمَّلَ مسؤوليتَنا، وكأنَّهُ الأخُ الأكبرُ، فهو الأقرَبُ إلينا، الأخوةُ والأخواتُ يختلفون كالنباتات، تُغَذِّيها نفسُ الشمسِ، نفسُ الهواءِ، نفسُ التُربَةِ، إلا أنّها تُخرِجُ ثِماراً من مُختَلَفِ الطعمِ، واللون، والشكل، خَرَجتُ ليلاً أصرُخُ دونَ وَعيٍ، أدُقُّ الأبوابَ، أريدُ مَن يُسعِفُ أخي، ذهبتُ وطَرَقتُ بيتَ مُحامٍ – ابنُ عمِّ والدي – بيديَّ، حتى سالت الدماءُ منها، وأصرُخُ بأعلى الصوت، خَرَجَ الناسُ كُلُّهُم، و في هذه الأثناء مَرَّ أخي عني في السيارة مُتَّجهاً إلى المُستشفى، وأنا أصيحُ بطريقَةٍ مُرعِبَةٍ، استدَرتُ، فوجدتُ كُلَّ سُكّان الحارة خارجَ بيوتهم، خَيَّمَ صمتٌ ثقيلٌ، مُخيفٌ، مَليءٌ بالضيق، لقد تُوفِّيَ أخي! أصبح الوقتُ يَمُرُّ بطيئاً، والساعةُ كأنّها ساعاتٍ، صرتُ أغوصُ في الغموض، والحُزن، والقَلَق، والبكاء.

     داومتُ في حالةٍ يُرثى لها، لم أُعفَ من التصحيح الوِزاريّ، ولا من المُراقبة، ولا من إعداد الشهادات المدرسية، قَسوَةُ الكُلّ بدأت تَظهَرُ! عندها شعرتُ بالأسى والحزن؛ لتَجَرُّد الناس من مَشاعر الإنسانية والرحمة، فجأةً! تذكرتُ أمّي وأبي، وكيف يَجِبُ عَليَّ أن أبقى صَلبَةً مُتَماسكةً لأجلهما، مع أنني فقدتُ شهيتي للحياة، للطعام، لكلِّ شَيءٍ يَبرُقُ ويلمَعُ، كُنتُ أصعَدُ إلى السماء وأتَعَلَّقُ بالدعاءِ، وأطرُقُ أبوابها بشِدَّةٍ، أدخُلُ غُرفَتي أبكي، وأبكي، ثم أخرُجُ من أجل أمي وأبي، على الرغم من الحُزن الذي اعتراني، فلو وُزِّعَ على العالم لغَطّاهُ، وَزَّعتُ كلّ العَباءات والملابس الثمينة التي فيها حياةٌ، وجمالٌ، وألوانٌ، والتي كنتُ أشتريها من جَدَّة، لا أعرف ما الذي ينتظرني؟ كُنتُ قد جَهَّزتُ أوراقي لإكمال الدراسات العليا، ألقيتُها بعيدا، كيف لي أن أدخُلَ حَرَمَ الجامعةِ الجديدة، والتي أنهى منها أخي رامي الدراسات العُليا في القانون، في كُلِّ لَيلَةٍ – قبل النوم – تَغرَورِقُ عينايَ، وتُبَلِّلُ الدموعُ مِخَدَّتي، ألجأُ إلى الله، وأدعوه أن يُعينَني، طلبتُ من أبي طَلَباً يُشبه الجنون: “يابا حبيبي، خلينا نترك القرية”، وإنَّ لأبي ما لَهُ من مصالحَ في القرية!

     أعودُ بكم إلى مقاعد الدراسة الإعدادية قليلاً، لا أدري لماذا لم يَكُن بعضُ مُعَلّميَّ ومعلماتي لا يؤمنون بي، ربّما هُدوئي هو ما أعطاهم هذا الانطباع، لا أنسى عندما كنتُ في الصف التاسع، عندما سَخِرَت مُعَلِّمَةُ اللغة العربية من موضوع التعبير الذي كَتَبتُه، كان فيه شيءٌ من السياسة، فأنا مُثَقَّفَةٌ سياسيّاً، ربّما عِشقُ أبي لمتابعة نَشَرات الأخبار أكسَبَتني هذه الثقافة، كنتُ أقولُ له – رَحِمَهُ اللهُ – “يابا أسمّعُ لك النشرة غيبا”؛ لكثرَةِ تكرارها، كان يَفرِضُها علينا حتى أدمَنتُ الأخبار، أصبحتْ موسيقى ما وراءَ الخَبَر في قناة الجزيرَة نَغَمتي المُفَضَّلة، وكأنَّها أُغنِيَةُ فيروز في الصباح، لقد أعطاني اللهُ – سبحانَهُ وتعالى – مَلَكَةَ الحِفظ السريع، لدرجَة أنني قرَّرتُ حِفظَ القرآن كاملاً، بدأتُ بسورَة البَقَرَة، وسُوَرٍ أخرى، وكانت أختي تُسَمِّع لي ما أحفظ، لكنَّني تَوَقَّفتُ عن الحفظ لانشغالي بالتدريس، ولا أنسى عندما انتقلتُ إلى مدرسةِ بنات عَنَبتا الثانويّة، قَفَزَ مُعَدَّلي في الموادّ الأدبيّة إلى 97% أو أكثر – لا أتذكر بالضبط – كنتُ أضَعُ كتابَ التاريخ على حافَّة “البلكونة “، وأُعيدُ ما حَفِظتُهُ غَيباً، وحرفيّاً دون النظر إليه.

     لا أنسى عندما طلبتْ إحدى مديراتي من زميلتي أن تَكتُبَ لها كلمةَ حَفل “اليوم المفتوح”، وزميلتي بدورها كَلَّفَتني بكتابة الكَلِمَة، ألقتها المديرةُ وهي لا تدري أنها من كتابتي، بل وكانت تَنظُرُ إليَّ بتَحَدٍّ، وكأنها تقول: “زميلَتُكِ بارعةٌ في الكتابة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى