ريم الخش.. تهز نخلة الشعر العراقي

ناصر أبو عون


امرأة من نار ونور؛ تستوقد جحيم الشعر من حطب اللغة، وتصلي دركات القصيدة بحجارة من سجّيل الشعراء رافعة راية الرفض والتمرّد خلف امرؤ القيس، والغلمان المتحلقين بأبي نؤاس؛ فلمّا ابيضّت وتشظّى ضؤوها، سارت خلف حادي قافلة اللايقين، تهشُّ على النجوم الشاردة في سماء تضجّ بالموسيقى، وضيّعت مريديها- مع سبق الإصرار والترصد – هائمين على وجوههم في طرقات الخليل الفراهيديّ، لا يبصرون كُنْه الأفكار، وفي غيابة المعاني يترددون، وفي حضرة جنيّات الشعر يعمهون عن رؤية القوافي المدججة بالحنين.
تلك “الريم الدمشقية” الطوَّافة حول كعبة الشعر خمسة وخمسين شوطا من الرقص المزرقش بالعلل والزحَّافات، وحروف الرَّوي العطشى إلى الكمال من صحن المسجد الأمويّ إلى حدائق بابل المعلقة لتحطّ رحال “جَمَلِها العربيّ” الذي “اسْتَنْوَقَ” ذات كبوة أبديّةعلى عتبات الشانزليزيه ثائرة على ملك أضاعه اللئام.
ريم سليمان الخش يمامة فرّت من وداعة الحياة، وأرجوحة المهد الموسرة، وكُرسي أستاذة “الاقتصاد والرياضيات العشوائية” بجامعة دمشق،وألقت بنفسها في لجّة من صقيع تصارع أمواج الشقاء، وتتنقل يوميا ما بين الغربة والاغتراب على دراجة هوائية في طرقات بلا قلب تتلوى كثعابين بين مزارع الريف الفرنسيّ، وتدخن قلقها في قصائد معبئة بالبارود؛ شاعرة عابرة للغات والأجناس الأدبية، تكتب مواجدها بالفرنسية والعربية في نسق بلاغيمتجدد؛ فحيثما يكون الشعر تتساقط الجدران، وتنمحي الحواجز اللغوية المصطنعة؛ غير أنها تتعلّق بأستار القصيدة العموديّة، وتعصردموع المعاني العربيّة المشحونة بالانزياحات والمحمولة على أسطح المُزن العابرة في سماء عراق”سخي كأرواح الحقول فلم يزر/رحابك ملتاع وإلا له البر”، إلى نواكشوط ومصر وبلاد الشام والحجاز؛ تحمل عروبتها في قصائد بِكرخمرا تُعتِّقها في قِنان مصنوعة من تُفّاحة غوايتها، ثم تصبّها في دِنان الهائمين في وادي عبقر يطاردون القصائد، يشدون سهام الشعر على أوتار أقواس الموسيقى، يقنصون غزالات القوافي، وهديل الوُرْق النائحات في أعشاش الموسيقى، وتتصدّق بالثمالة من سكْرِتْها؛ توزّعها علىأقداح الفقراء الغاوين في حانات شارع المتنبي.
وعندما تهزُّ ريم الخش نخلة الشعر على شواطيء دجلة، وحقول الفرات يرفُّ”أديم إذا هزّ النجوم تساقطت/ فنونا وأشعارا يغنيبها الدهر” تسَّاقط صورا؛ تنزُّ شهدا، في زمن الخيبات الذي تطرح أشجاره الحنظل على نواصي العروبة التي أكل اللصوص كبرياءها ذات إغفاءة أندلسيّة، وقصم الغزاة ظهرها في سريرها الحجازيّ المعربش بلبلابة النفط التي تبرعمت في مدن الملح انكسارات، فخمشت الثعالب لحم حيائها على طاولة التطبيع والسلام المزركش بالوعود الكاذبة.
ورغم المحن التي تتكسر فيها سهام المؤامرة على سهام الخيانة، في الجسد العربيّ المدمّى، وربقة القيد التي يُحكمون تسييجها حول الأسد العراقيّ الهصور لاستنزاف ثرواته، وتفريغه من محتواه الحضاريّ، وكسر إرادته، مايزال العراق عصيا على الانكسار والاضمحلال الثقافيّ، فـ”إذا أرعدت فيه الغيوم تبرعمت/ حدائقه فنا وشعرا له عطر”، ومازالت أرض الرافدين خصبة تنبت القصائد، وتضوع رائحة الشعر في أعطافها، وترتعش الريح في أوراق صفصافها، ويحبو الشعراء على أعتاب أبياتها، ويصعدون إلى سدرة الكلام المبجّل في حضرتها “لقد غاب عن ذهن المنايا اتقادكم/ بومض خرافي يُقال له الشعر“،“فأنتم قصيد الحب أنتم عموده/وأنتم لنا روح الأصالة والتبر”.
في قصيدة “العراق” للشاعرة السورية د. ريم الخش جوع إلى زمن الانتصارات، وصور البهاء العباسيّ، ووقوف على أطلال مجد طوته يد الخيانة، ونخوة عروبة مازال العراق يحتفظ بألقها في جُبّة حلاجِه، ويروي حدائقها شعراء يتناسلون في ظهر العراق من مطلع الشوق إلى غسق القيامة.ريم الخش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى