وجع

عزيز قويدر/ تونس

لا تدري كيف شقَّتْ طريقَها إلى المقبرةِ .. لم تنتبه إلى شيءٍ ولم ترَ أحدًا من الزّائرين على كثرتهم .. تتلبسّها حالةٌ من الذّهولِ منذ شروقِ شمسِ يوم الزّيارةِ .. تفقِدُ حواسُّها كلَّ وظائفِها وتستوي عندها كل الاتجاهات اتجاها واحدا : قبرُ ولدِها ..
استقبلت القبلة و جلست في صمت ، آلمها وخز أشواك جمّعها الرّيح إلى الحجر الذي تعوّدت أن تجلس عليه ، أزاحتها والتقطت عودا وراحت تنبش التراب في حركة آلية رتيبة . لا جديد ترويه ولا قديم يستحق الذّكر ، انطفأت لهفتها وجفّت دموعها وألفت وجعها وتعوّدت دفنَ آلامها في عمقِ أعماقِ روحِها . سئمت ترديدَ فصولِ معاناتها وأصبح صدى صوتها يخيفها ويؤلمها ، كانت تستعذبه فتمدُّ صوتا تخنقه العبرات يعلو وينخفض بتسارع نفسها منغّما وفق مقاطع نواحها ، ولا ينقطع إلا إذا أتت على كلِّ الحكاية واستوفت الوصف لفقيدها ..
لا تنسى حادثةً ولو كانت قصيرة ، المهمُّ أن يطول حديثها إليه ، فتذكر تعبها وحزنها وتفاصيل حياة جيرانها السارّ منها والمحزن ، بل حتى المواشي والأرض والريح لها نصيب من الحكاية , كانت تصرّ أن يعلم كل شيء ، أن تذكّره بصبرها وآلامها وطول انتظارها حتى استوى رجلا .يحلو لها أن تعيد تفاصيل أحلامها الموؤودة ، ويؤلمها أن تخبره بعجزها عن مواصلة المشوار ، كانت قادرة على تحقيق حلمها : تضمن حياة كريمة لوحيدها يطعم ويلبس ويدرس ويكبر دون أن يعرف للحرمان معنى ، لكنها لم تكن قادرة على تحقيق حلمه هو : بعد نجاحه ، يعمل ويعمل ليضمن العيش الكريم لأمه و يعوّضها الحرمان والوجع ـ ظل عالة عليها وقد جفّ عودها ، وآلمه العجز وسكنه القهر حتى أفناه ، عاش حالما ومات يائسا .اليوم لا تقوى على البوح ، تراه عبثا ، اكتفت بتلمّس النّصب ومرّرت كفّها على قبره وغمغمت” رحمك الله لستَ الموؤودَ الوحيد كما ظننتَ ، كثيرون كثيرون ، ولدوا ليتجرّعوا المرارة ثم ماتوا ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى