من نافذة المستشفى
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
النافذة من تلك الغرفة في مستشفى الشفاء تطل على مدرسة الكرمل الثانوية للبنين في غزة …
كم هي مربكة ومباغتة هذه المصادفة حين تضعك بين ذاكرة سنوات بعيدة وجسد يصارع تداعيات فيروس كورونا بأنين متقطع وصمت …
الزمن حالة رمزية وقد لا تكون سوى وقت مهدور بين مدن لم تعد تكترث كثيراً بتحولات الوقت …
أما الوقت فهو كثافة اللحظة حين تمنح الذاكرة كل الصور اللازمة لاستعادة زمن مفقود …
من هنا، في قسم القدس بمستشفى الشفاء في غزة …
يبدو المكان مشرعاً على حكايات عدة ووجوه وأمنيات ملحة بالخروج من مأزق اللحظة المرتبكة بين الأزمنة …
على بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً يرى فتى يحاول الإفلات من طوق جنود الاحتلال في ذلك الطريق الترابي المؤدي للمدرسة قبالة المستشفى …
سيدات في الطريق يهتفن في مرور صباحي بالجوار: الجيش على راس الشارع يمة، انتبهوا …
حاول الفتى الإفلات من المصيدة لكن الجنود كانوا قد أحاطوه بقبضاتهم وبنادقهم الآلية وفيما كانوا يدفعونه نحو عربة عسكرية قريبة وقبل أن يقيدوا يديه تبدل المشهد فجأة حين ظهرت من اللا مكان الضبابي في تلك اللحظة سيدة عابرة تصرخ في وجه الجنود: هذا ابني، اتركوه …
سمع الصوت قبل يراها بلباس أسود وشال أبيض يلف رأسها المندفعة مع جسدها كرمح نحو الجنود محاولةً انتزاع الفتى من بين أيديهم المتحولة إلى قبضات من فولاذ …
ثم ظهر عدد من المدرسين خرجوا تباعاً من بوابة المدرسة القريبة ليشكلوا حلقة حول حلقة الجنود الضيقة، وفيما المشهد بين وشد وجذب انهارت حلقة الجنود أمام حلقة السيدة والمدرسين لينطلق مترنحاً بعيداً عن ضجيج معدني وصخب …
كأنه سمع صوتها عبر الهواء يدفعه نحو النجاة: طِير يمَّا …
يَذكر أنه ركض بصعوبة في اتجاه المدرسة، فُتحت البوابة – كأن وراء البوابة أمان خفي ونجاة أكيدة – ثم أُغلِقَت البوابة بسرعة بعد أن دلف بخطوات معدودة إلى الساحة، ثم هوى بكل ما جسده من ألم وصراخ مكبوت …
انتشله بعض المدرسين مرة أخرى، غيَّروا له كنزته الصوفية التي كانت قد تمزقت، ألبسه أحد الأساتذة كنزته الصوفية (رمادية اللون) ثم وضعوه في سيارة الأستاذ حيث أقلَّه بسرعة نحو البيت خشية أن يقتحم الجنود المدرسة بحثاً عن فتى كان قبل قليل هدفاً ملائماً للجنود في صباح تشريني من صباحات الانتفاضة الشعبية.
في البيت أطلَّت الوالدة بعد عودة مبكرة طارئة من حيث تعمل كمعلمة للرياضيات في مدرسة غزة الابتدائية المشتركة، كان ثمة من أخبرها عن تلك المواجهات قرب مستشفى الشفاء وبأن ابنها الوحيد قد “نجا” برضوض عدة وكدمات …
جلَسَتْ قرب السرير حيث الجسد الممدد وسط خارطة من ضمادات طبية، تتابع دقات الوقت بكل دفء وحنان وثبات حاولت أن تجعل منه رسالة ودرساً للفتى النائم حين يفتح عينيه …
وحين فتح عينيه كان أول ما رأي تلك الابتسامة الدافئة قبل أن يرى أي شيء ويسمع أي كلمة …
كان قد نجا …
من نافذة في مستشفى الشفاء مطلةٍ على الشارع الترابي المؤدي إلى مدرسة الكرمل الثانوية للبنين في غزة، يرى المشهد طازجاً كأنه الأمس …
السيدة – العابرة المستقرة بكل امتنان في الذاكرة المعلمون الذين انتشلوه من وقت كاد أن يتحول إلى قبر أو زنزانة …
اليوم يجلس إلى جانب سرير طِبي قرب تلك النافذة في المستشفى مشبعاً بابتسامة داخلية يريدها مطمئنة دافئة كثبات كان قد تعلمه قبل ثلاثين عاماً من والدته السيدة النائمة اليوم بين تداعيات وجع فيروس كورونا المخيف وأنين يصاحب ضيق التنفس …
لترى حين تفيق – ورغم الكمامة الطبية الزرقاء – ابتسامة شبيهة بتلك الابتسامة البعيدة كي يقول نجت …
كما كان قد نجا …