عبد الناصر في أدبنا الفلسطيني.. منطقة 48
بقلم: زياد شليوط
مدخل:
أحدثت وفاة الرئيس والزعيم العربي جمال عبد الناصر يوم 28 أيلول 1970، عن عمر لم يتجاوز 52 عاما، مفاجأة وصدمة لا مثيل لهما بين أبناء الأمة العربية قاطبة، كما شكلت صدمة لجمهرة الشعراء الذين رثوا عبد الناصر بقصائد بعد وفاته مباشرة، عكست مدى الصدمة التي ألمت بهم، وبكوا فيها الزعيم الذي علقت عليه الآمال وكان بمثابة “الأب” بالنسبة لهم، وما زالت قصائد الشاعر نزار قباني راسخة في الذاكرة.
وعلى الصعيد الفلسطيني يمكن أن نقول أن الصدمة وشعور الخسارة كان مضاعفا، حيث ربطت عبد الناصر بفلسطين علاقة خاصة ومميزة، كيف لا وقد كانت نكبة فلسطين أحد الأسباب الرئيسة لتخطيط وتنفيذ ثورة 23 يوليو 1952، كما ذكر في كتابه “فلسفة الثورة”، وطوال سنوات حكمه كانت قضية فلسطين في مركز اهتمامه وأعماله، ووقف دون تردد بل دعم المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها في مطلع عام 1965، وأكثر ما أثر في الفلسطينيين أن عبد الناصر توفي بعدم أنجز حقن الدماء في الأردن على اثر الصدام الذي وقع بين الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني، وبعدما بذل جهودا كبيرة في إيقاف المجازر التي طالت الفلسطينيين في أيلول الأسود، الذي اكتمل سواده وأظلم نهائيا في الثامن والعشرين منه. وقد انعكس ذلك في قصائد الرثاء التي نظمها الشعراء الفلسطينيون آنذاك وفي مقدمتهم محمود درويش، سميح القاسم، فدوى طوقان، محود دسوقي وآخرون.
من الملفت للنظر أن تأثير جمال عبد الناصر كقائد قومي حمل هم القضية الفلسطينية، امتد لسنوات طويلة بعد رحيله وما زال حتى يومنا على الشعب الفلسطيني الذي أحبه بكل جوارحه. وانعكس ذلك في النتاجات الأدبية التي صدرت على مدار الأعوام سواء في الشعر أو الرواية والقصة أو السيرة الذاتية وغيرها.
وبودي التنويه في مطلع هذه الدراسة المتواضعة إلى أنها تقتصر على الأدب الفلسطيني في مناطق الـ48، حيث يصعب متابعة كل ما أنتجه الأدباء الفلسطينيون في مختلف مواقعهم الجغرافية، والأمر الثاني أن ما ذكرته في الدراسة هو مما تسنى لي الاطلاع عليه بجهد ذاتي ومن خلال قراءاتي وما أمكنني الاطلاع عليه ومتابعته، فالأدب الفلسطيني في هذه المنطقة شهد طفرة كمية في انتاج خلال السنوات الأخيرة مما جعل مهمة رصد كل النتاج الأدبي أمرا صعبا، لذا بودي الاعتذار أمام أي كاتب أو شاعر غفلت عن نتاجه دون قصد، وأتمنى أن يوافيني أي منهم بنتاجه الذي ذكر فيه عبد الناصر، لأضمه الى الدراسة لنشرها موسعة ومدققة مستقبلا.
سأتناول في هذه الدراسة وجود عبد الناصر في النصوص الشعرية والنثرية من رواية وسيرة ذاتية، لأدباء فلسطين في مناطق 48 كما ذكرت.
الشعر رثاء متواصل وشعور بالفقدان رغم مرور الزمان
صحيح أن عبد الناصر توفي عام 1970، لكن الحزن عليه والأسى على رحيله المبكر لم يتوقف يوما لدى أبناء الشعب الفلسطيني، وكلما مرت الأيام والأعوام ازداد حزن الفلسطينيين على الزعيم العربي، نتيجة ما رأوه من تراجع وتهاون وخيانة للقضية الفلسطينية من قبل حكام وأنظمة عربية،ووصل الحد في أيامنا الى التطبيع المعلن والمكشوف مع اسرائيل، وهذا ما كان ليحدث لو أن عبد الناصر موجود، الأمر الذي انعكس في شعر شعرائنا الذين لم يكن عودهم قد نما يوم رحيل الزعيم، ولهذا رثوه في وقت متأخر، مستذكرين مآثره وموجهين له النداء بالعودة لتصحيح الاعوجاج العربي الحاصل.
الشاعر الناصري المرحوم محمود دسوقي ينشر قصيدة بمناسبة مرور عشرين عاما على رحيل الزعيم، في مطلعها يستنكر خبر وفاته رغم مرور عقدين من الزمن:
يا مصر هل صدق النّعاة؟ ألا اخبري
هل مات؟ لا ما مات عبدُ الناصرِ
فيها يمر على إنجازات عبد الناصر العديدة وأمجاده القومية، ويقتنع في النهاية بأن عبد الناصر رحل جسدا لكنه بقي بمبادئه:
من كان يعبد ناصرًا فلقد مضى
أمّا مبادئُهُ تظلّ بخاطري
هذي مبادئهُ وهذا دربهُ
نمشي عليهِ على امتدادِ الأعصرِ(1)
نشر الشاعر جمال غنطوس ابن مدينة سخنين، من البلدات التي صنعت “يوم الأرض”الخالد”، قصيدة عام 2004 يرثي فيها قائد العروبة بعنوان “دمعة على ضريح الزعيم الخالد جمال عبد الناصر”، جاء فيها:
كنت الزعيم ولا زعيم سواك
يا قائدي سبحان من سوّاك
صحتِ العروبةُ من عميق سباتها
فكفاك ايقاظ الشعوب كفاك
هُزم الظلام وقوّضت أركانه
لما بدا في الأفق نور سناك
دُكّت عروش الظلم وانبلج الضحى
وانداح الاستعمار عن دنياك
الشاعر وليد أيوب، في قصيدة باللهجة العامية يتوجه الى الزعيم جمال عبد الناصر عنوانها ” بعدك شبّ”، بمناسبة مرور 30 عاما على رحيله، نشرت في صحيفة “فصل المقال” يوم 29/9/2000، يقول فيها:
بكير كان عليك يا ريّس
وكنا بعد زغار
ما ظلّ في ليلاتنا ضحكات
ولا في حدا يهيّص
ولا ظلّ في سمّار
تِعبت عتاب الدّار
وطلّ شي صعلوك
بلوك بسم الله
والأرملة تصرخ بأعلى صوت
جاي يا غلمان
ما في حدا بفوت ع داري
ما بكشف أسراري
وما بفتحا داري
إلا لراعي البيت يرجع لي
حامل بإيدو راية التحرير
والخارطة والقدس زهرتها
الشاعر شكيب جهشان في ديوانه “نمر الياسين السّاعدي يحكي لكم”(2)، يروي لنا شعرا ويختزل قصة النكبة الفلسطينية من خلال رواية نمر الياسين أحد الأبطال الفلسطينيين الذي قاوم الاحتلال عام 1948 ومن خلال هذه الشخصية يروي لنا ما مر على الشعب الفلسطيني في الداخل حتى يوم الأرض الخالد. وخلال تلك السنوات لا بد وأن يعرج على المرحلة القومية التي تأثر بها أبناء شعبنا وبقائدها المميز الزعيم جمال عبد الناصر، وكشاعر فلسطيني ومثل أبناء شعبه أحب هذا الزعيم المتفرد على لسان بطل قصيدته:
“وسعيد يرفضُ أن يصبحَ جنديّاً
ويقولُ كلاماً مشبوهاً
يروي عن عرق العمّال
ويحبّ الرّوسَ الحمرَ
ويسمعُ في قلب الميناء
خطاب جمال” ص 91
ويحزن أبناء الشعب الفلسطيني على رحيل عبد الناصر غير المتوقع
“ولّى أيلولُ وفات
دقّت عرباتُ العسكرِ
آلاف الأعناقِ
على
باب الوحدات
ولّى أيلولُ
وفات
وعبد النّاصرِ
مات” ص 107
وبعد حرب أكتوبر وبدل أن يستثمرها السادات (خليفة عبد الناصر)، تخلّى عن كل مكتسباتها واتجه الى درب الخيانة، مما استدعى الشاعر لأن يناجي عبد الناصر لينهض من الموت ويتصدى لمؤامرة “نائبه” كما ينعته الشاعر:
“يا عبدَ النّاصرِ قُمْ
هذا نائبُكَ الأوّل
يعرضُ مصرَ
وعزّةَ مصرَ
وعفّةَ مصرَ على
تجّارِ الرّجس” (ص 132)
زيارة ضريح الزعيم تحيي شعور الفقدان الصادم: شكلت زيارة ضريح الزعيم عبد الناصر هدفا أولا للفلسطينيين من الداخل، الذين أتيحت لهم زيارة مصر في أعقاب اتفاق الصلح بين مصر وإسرائيل، وكم كانوا يتشوقون لرؤية عبد الناصر عن قرب، لكن لم يكن أمامهم سوى الاكتفاء بزيارة ضريحه والترحم عليه. وأثارت تلك الزيارة مشاعر أي انسان قام بها، فكم بالحري الشعراء الذين ترجموا مشاعرهم شعرا في قصائدهم، ولدينا عدة أمثلة نذكر منها.
الشاعر منيب مخول مثل زملائه الذين أتيح لهم زيارة مصر، فكان أول ما فعلوه زيارة ضريح زعيم العروبة جمال عبد الناصر، وهناك لا بد أن تفيض المشاعر وتنسكب حبرا على ورق الشعراء، ويصف ذلك المناضل المرحوم منصور كردوش في مقدمة الديوان على النحو التالي: ” شددنا الرحال. وفد ضمّني والشاعر منيب مخول في ربيع عام 1990 الى القاهرة بعد أسابيع من وفاة أم خالد -–زوجة البطل المرحوم جمال عبد الناصر- لنعزي عائلته ورفاقه بفقدانها ولنضع باقة من الزهور على ضريحهما.. وليقول الشاعر يومها في قصيدته “نفتش فيكم عن جمال” يقولها لأغلى روح في رحاب أعز موقع، مؤكدا عمق الثورة المصرية المجيدة في نفوس أبناء الأمة العربية بالرغم من نكوصها ظاهريا:
“وجئنا نعزّي اليومَ في “أمّ خالدٍ”
نفتّشُ فيكم من “جمالٍ” على أثرِ
وكم قد حلمنا رغبةً في التقائهِ
وكلّ الذي نلنا وقوفٌ على القبرِ
وقفنا وقد خلنا العصورَ تكثّفت
على باب قبرٍ يجمعُ الكلَّ في عصرِ
وخلنا كأنّ “النيلَ” يحضرُ قائلاً أنا
سيّدُ الأرضِ الخبيرُ الذي يدري”
ويتابع الشاعر عدة أبيات على لسان النيل الى أن ينتهي
“قرأنا.. إذا الأحقابُ تترى رتيبةً مبايعةً هذا الزعيمَ على الدّهرِ”.(3)
كذلك الشاعر النصراوي عطالله جبر، كأحد أبناء الشعب الفلسطيني يحمل المحبة والاعجاب للزعيم جمال عبد الناصر، وأسوة بزملائه ما أن حطت قدماه أرض القاهرة حتى قام بزيارة ضريح الزعيم، ونظم فيه قصيدة مطولة، بعنوان “أغنية حب لمصر عبد الناصر”، جاء فيها:
وحين تطاول في الأرض كفرٌ
ليضربَ مهدَ المسيحِ وأقصى الرسولِ
عشقتك أكثر
عشقتُ بأزهرك المتشامخ صرخة عاشقك المستهام
جمال
لترسمَ معلمَ درب الفعالِ
وتزرعَ في الروحِ روحَ النّضالِ
فيبزغَ فجرك أحلى
ونيلك أروع
وضفّته ساهرة
وضفّته ثائرة
وصوتٌ يظلّ يدوي: “هنا القاهرة”
كأن يتداول سمع الدّنى أنمُل دائرة
بعد زيارة لمصر:
“ولما وضعت رحالي
على ارضك الطاهرة
صرخت: هنا الناصرة
هنا القاهرة”(4)
الشاعر والكاتب عاطف خالدي، في قصيدة “القاهرة”(5)والتينظمهافي أعقاب زيارة له للعاصمة المصرية، يبدأ بمخاطبة المدينة قائلا “أتيناك يا قاهرة”،بعدها يوضح أنه آت من فلسطين بعدما كان يحلم باللقاء الذي تحقق أخيرًا، لكن بعد فوات الوقت الذي لم يكن بالحسبان:
” هل التقينا كما نشاء
سيدتي
كنت أبحث
عن ابتسامة شامية عن غمازة مصرية
عن بلادي العربية
أبحث عن جمال”
وفي قصيدة “مصر”(6) يواصل التغني بمصر التي افتخر بها وعشقها قبل أن يراها. وبما أن النيل هو مجرى الحياة لمصر يميل الشاعر ليخاطبه بحب معبرا عن فرحته بلقائه، لكن أهم أمنية عنده تبقى:
“يا نيلُ يا حقل الرجال
فرحتُ لما التقينا
بكيتُ لما التقينا
فدعني أقبّلُ ذاك الثرى
أرضاً لامسَت
نعالَ جمال”
ليس سرا أن الشاعر أسيد عيساوي ناصري حتى النخاع، فهو يحب الرئيس والقائد العربي جمال عبد الناصر حبّا لا يوصف، الى حد أنه يحرص سنويا على أن يزور ضريح القائد في القاهرة إما في ذكرى رحيله أو في يوم ميلاده، وهو من مؤسسي وناشطي “لجنة إحياء مئوية الزعيم العربي في فلسطين”، لهذا لم يكن غريبا أن يكتب قصيدة في حبّ عبد الناصر بعنوان “على الضريح” نشرها في ديوانه الأول “سيزيف وبحار”(7)، وفيها يخاطب الزعيم عندما يقف حزينا ومتألما عند ضريحه مناشدا إياه بالعودة كما فعل شعراء آخرون:
” عُد إلينا، عُد إلينا يا جمال
عُد إلينا نحن أحوج منهم إليك
قل لهم اننا دونك عدم
دونك نحن صنم
دونك صرنا مضحكة الأمم
صرنا جميعا تحت القدم”
ويستذكر الشاعر أقوال ومواقف عبد الناصر القومية والوطنية مثل اعلان تأميم قناة السويس والإصلاح الزراعي ورفض الهزيمة العسكرية، ثم ينتقد استلام السادات من بعده الحكم في مصر والذي فرط بالمكاسب والإنجازات الناصرية. ويعود ليخاطب الزعيم مصرحا بحبه وأنه جاء من بلد أحب عبد الناصر:
” على باب بيتك وقفت
ناديتك: أبا خالد يا قائد
قلتها وأنا على بابك
أنا من أتاك من أرضٍ عطشى
ارتوت من دمك الطاهر
قادم أنا من بلد عشقك
وحلم بأن يراك ناصر”
ناصر يمثل القيم الإنسانية والقومية الكبيرة: رأى شعراؤنا كما رأى شعبنا في الزعيم جمال عبد الناصر القائد الفعلي لنصر أكتوبر، والذي تم بعد ثلاث سنوات على رحيله، وليس السادات الذي نسب النصر لنفسه لأنه تم في عهده. فعبد الناصر هو الذي أعاد بناء القوات المسلحة المصرية وأعدها لخوض حرب التحرير، وقد سبقت وخاضت تلك القوات بقيادة عبد الناصر “حرب الاستنزاف” التي مهدت للعبور ونصر أكتوبر.
ليس غريبا أن ينطق الشاعر سميح صباغ(8)، بألسنة الملايين مخاطبا السادات مباشرة:
” خسئتَ فلم تنتصر، لا
ولا أنت من عبرَ الماءَ ماء القنال
ولم تقتحم خط بارليف أنت
صدور الشباب هنالك كانت دروعَ القتال
شبابك يا مصر،
مصر العروبة، مصر الكرامة، مصر جمال” (ص 175)
ويعود في ختام القصيدة ليؤكد على ذلك ثانية، فهو لا يرى إلا مصر عبد الناصر كما يراها الفلسطينيون:
” وتبقى لنا مصر أمّاً مصون
شبابك أنت الألى
أطلعوا قبل دهر جمال
أرى بينهم – وفؤادي دليلي
أرى بينهم ألف ألف جمال” (ص 176)
الشاعر الفلسطيني سامي مهنا، من الشعراء الشباب الذين نشأوا على الروح القومية العروبية وعشقوا عبد الناصر وأحبوه لما يجسده من مبادئ تقدمية راسخة، وفي قصيدته “صفحة المجد”(9)يروي لنا سامي قصة العروبة بكثافة وما آلت إليه من تراجع، وما تعرضت له من مؤامرات خاصة ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين في استغلال رخيص، وخاصة ما رأيناه في التآمر على سوريا العروبة، إلى أن يصل ثانية إلى عبد الناصر الرمز والطريق والنهج، مؤكدا ان روح عبد الناصر ما زالت في نفوسنا نستلهم منها العزيمة والإصرار على مواصلة المشوار، فيقول في ختام قصيدته:
النّيلُ يحملُ في أغمارهِ قدرٌ
وصوتُ ناصرَ في الأرواحِ يلتئمُ
يا ناصرًا في رؤاكَ الوعدُ منتصرٌ
وأمّةٌ وصلها كالبحرِ ملتحمُ
ووحدةٌ لا يزالُ اليومَ ينطقها
بعد التشهّدِ قلبٌ صادقٌ وفَمُ
إنَّ العروبةَ نبضٌ في جوانحنا
فانفخْ بسدِّكَ كي تُستنهضَ ال
ما زالَ فينا الجمالُ الناصرُ الهرَمُ
وشارك كاتب هذه السطور بمقطوعة شعرية – نثرية، بمناسبة الذكرى السنوية الـ35 لرحيل القائد عبد الناصر، بعنوان “نعاهدك” نشرها في صحيفة “فصل المقال” المحتجبة (أيلول 2005)، وفيها مقطع يصور علاقة الفلسطينيين بالزعيم العربي:
“نعاهدك
نلمحُ طيفَكَ يتجوّلُ بين هضاب الجليل
فنسيرُ ونسير
وعند البحر تأتينا صورتك تضيءُ الساحل
والكرملُ يتلألأُ بنور جبينك
ويمتدُّ المثلثُ معانقاً
فيرتدّ النقبُ بعدما ضمّ المستحيل
ويطولُ الطريقُ
ونحلمُ أنّا معك
فليلنا لمّا ينتهِ
وننتظرُ أن يشرقَ فجرنا
ليعودَ طيفك من ليلهِ الطّويل
ويعودُ صوتك يهتفُ معنّفا”
الرواية والقصة القصيرة قصرتا بحق عبد الناصر وهمّشتا دوره في حياتنا السياسية
الكاتبة نوال حلاوة في روايتها”الست زبيدة”(10)تتحدث عن نكبة فلسطين ومأساتها بتفاصيلها وأبعادها المختلفة،تعرج الراوية على السد العالي أهم إنجازات الرئيس جمال عبد الناصر، حيث تزور وزوجها المهندس الموقع خاصة انه درس الهندسة في مصر وله زملاء هناك، فتقول:
“كانت زيارة السد العالي حدثا مهما بالنسبة لزوجي، وبالنسبة لي رأيت بعيني عظمة ما حققه جمال عبد الناصر، خاصة بعد أن تخلى البنك الدولي عن تمويله بايعاز من الأمريكيين الذين لم تعجبهم مواقفه وطموحاته ببناء بنية قوية لوطنه ودفاعه عن أمته العربية. لم يكن يرضخ لتهديداتهم فعاقبوه برفض التمويل من البنك الدولي الذي يسر بإمرتهم، اتجّه عبد الناصر الى الروس الذين لم يخيّبوا أمله، أبدعوا في تنفيذ السد العالي الذي أشرف عليه المقاول المصري المعروف عثمان أحمد عثمان، وعمالة مصرية ذات كفاءة عالية.”(ص 298).
كذلك تحكي الكاتبة بإيجاز شديد وبعبارات قصيرة ومكثفة كيفية بناء السد العالي، بعدما سد الغرب الأبواب في وجه عبد الناصر اتجه للروس الذين وقفوا الى جانبه ودعموه.ونعتت فترة الستينات بعد عرض صور رحلتهما بأن مصر كانت في “عزّ جمالها وبهجتها أواسط الستينات” (ص 300).
الكاتب حنا إبراهيم في روايته “موسى الفلسطيني”(11) يعرج على ذكر عبد الناصر، في معرض تعرضه لقيام منظمة التحرير، وبداية النضال الفلسطيني المسلح، ويضمّن ذلك رأيين حول فترة القومية الناصرية، رأي يرى فيها أنها لا تتجاوز الشعارات ورأي يرى أن الخلاص لن يكون إلا على يدي عبد الناصر. فهذا موسى ونتيجة ما تعرض له وما مرّ به من أحداث وبعد تجربة طويلة في الحياة فقد الأمل في كثير من الأمور ومن بينها المناسبات الوطنية “حتى أن فرحته بتأميم قناة السويس لن تتم ولم تكن هناك مناسبات قومية تستحق أن يحتفل بها..” (ص187). “وصار يستمع إلى الخطابات الثورية دون أن تمس به وترا حساسا. وترعرع نجله البكر عوض فاذا به غلام متحمس يحب عبد الناصر حتى العبادة ويرى أن الحلّ سيكون على يديه”. (ص 188).
ونرى عوض يشعر بالفرح بعد هزيمة حزيران ويرى فيها إيجابا، بينما يحزنبعد حرب أكتوبر لنتائجها، ويرى الشرور القادمة والتي ستلحق بالشعب الفلسطيني، وبين المناسبتين يحزنه ما يحصل للمقاومة الفلسطينية من انقسامات خطيرة وخلافات داخلية “وحتى الفلسطينيون تفرقوا شيعا وأحزابا ينتهج كلّ النهج الذي يعجبه، لدرجة ان سار بعضهم في مظاهرات صاخبة في عمان منددين بعبد الناصر لأنه رأى في مشروع وزير الخارجية الأمريكية روجرز أساسا للحل، بعدما كانوا يقدسون الرجل ويعتبرونه مخلص الأمة العربية.” (ص 189). لكن كاتبنا يغفل خبر وفاة عبد الناصر وتأثيره الكبير على الشعب الفلسطيني وخاصة على الذين انتقدوه وهاجموه وتظاهروا ضده، فخرجوا في شوارع المدن والمخيمات يبكونه ويودعونه في جنازات رمزية بحرقة ولوعة وقد شعروا أن راعيهم قد ذهب وتركهم هذه المرة لوحدهم يواجهون مصيرهم.
أما الكاتب الروائي مصطفى عبد الفتاح في روايته “جدار في بيت القاطرات”(12)، فيجعل الراوي يحمل اسم ناصر، وأسوة بأبناء جيله الذين ولدوا في عصر قيادة الرئيس والزعيم جمال عبد الناصر للعالم العربي، ويقول “..وهو يعرف في قرارة نفسه أن والده لا يقصد ما يقول، فكم مرة حدثه عن نضالاته ومقاومته ضد الاستعمار، وكم مرة، في لحظة شرود لا إرادية. حدثه عن “جمال عبد الناصر”، وعروبته وصموده وبطولته في مقاومة الاستعمار، وانتصاره على أكبر امبراطوريات العصر، وتحرير مصر وقناة السويس منهم، حتى أنه أطلق عليه اسم “ناصر” تيمنا باسم “جمال عبد الناصر”، وحبّا له”. (ص 9-10).
ويتابع بعدها واصفا تأثير عبد الناصر وشخصيته على الأهالي الذين استمدوا القوة والشجاعة منه في مقارعة السلطة “المرة الوحيدة التي تجرأ فيها “أبو ناصر” على الحكم العسكري، وعلى الظلم والخوف، كان ذلك في فترة “عبد الناصر” حين ملأ قلوب الناس عزة، وكرامة، وعنفوانا وأملا بمستقبل يتحررون فيه من الظلم، لكن سرعان ما خاب أملهم بسبب نكسة حزيران..” (ص 10-11).
ونرى الشاعر حسين مهنا في روايته الوحيدة “دبيب نملة”(13)، لا يأتي على ذكر عبد الناصر إلا مرة واحدة، خلال نقاش يدور في محددة “السباعي”بطل الرواية، وقد تناول حال العرب والهزائم التي تلحق بهم، حيث يقول أحد المتحاورين:
- بل كأنّا ولدنا لنطرد علماءنا من بيننا، أو نقتلهم قهرا ألم نقتل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر!!”
أما في القصة القصيرة فتعرج الكاتبة شوقية عروق – منصور في مجوعتها القصصية “مأذون من الليكود”(14)في القصة الأخيرة من المجموعة بعنوان “رائحة الحقيبة النائمة”، على ذكر الزعيم عبد الناصر في نهاية القصة التي تتحدث عن فتاة صغيرة السن تسكن في مدينة الناصرة قبل عشرات السنين، حين سادت المدينة حياة التآلف والتعاضد، هذه الفتاة تتلقى يوما هدية ثمينة من جدتها بعد عدوان حزيران، حيث زارت جدتها مدينة جنين وأحضرت لحفيدتها قلم حبر وتخبرنا الفتاة- الراوية “أذكر أنه في رأس القلم كان هناك زئبق، يميل كلّما مال القلم، كأنّه ماء، وفي داخله صورة لجمال عبد الناصر” لكن الفتاة الصغيرة لم تكن تعرف عبد الناصر، ومع مرور السنوات ضاعت تلك الهدية مع أغراض أخرى “لكن ما زالت صورة جمال عبد الناصر، وهي تتحرك أمامي حتّى الآن”.وهذه الصورة التي رسخت في ذهن الفتاة النصراوية، تعكس حال أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل، الذين أحبوا عبد الناصر بكل جوارحهم واحتفظوا بصوره في بيوتهم ومكاتبهم وقلوبهم.
السيرة الذاتية: ثلاثي الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا وذكريات عن محبة الناس المطلقة لعبد الناصر
الأديب حنا أبو حنا، غني عن التعريف فهو شاعر ومرب ومدير الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا ومحاضر جامعي، سجله حافل بالعطاء والنضال والإنتاج الفكري والأدبي، بدأ حياته شيوعيا وعاصر ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، وكان من أوائل الناصريين الفلسطينيين، الذين نشأوا على فكر وسياسة عبد الناصر وعاشوا الأمل الذي زرعه ناصر بالقومية والوحدة العربية، وكتب القصائد في تأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي ومن بعدها بناء السد العالي، ويعترف في أحد كتب سيرته الذاتية “خميرة الرماد”(15) بحب عبد الناصر: “وكان يرى في جمال عبد الناصر الأمل الوطني، ولا يقبل أن يسمع أي مطعن فيه أو انتقاد لأي سلوك”. (ص108)
يصف لنا حنا أبو حنا حال مدينة الناصرة في العام 1956 التي كانت على موعد مع خطاب عبد الناصر الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس:
” لم يكن يُسمع في تلك الأمسية غير صوته.
كان ذلك الصوت قويا يملأ الساحات والشوارع والأزقة والسطوح والقلوب.
توقّفت الحركة في الشوارع وفي البيوت، في المدن والقرى.
منذ زمن تعوّد النّاسُ على صوته يدخل إلى بيوتهم، ينعش القلوبَ الذّابلةَ الظّامئة.
كان جمال عبد الناصر ظاهرة متميّزة في الأفق السياسي العربي. أيقظ في القلوب مشاعر القومية العربية ونفخ في حركة التحرر روحاً قوية.
وأخيراً ينفجر الجو وإذا الهتاف في المقهى يصب في هتاف الجماهير في القاهرة. عبد الناصر يعلن تأميم قناة السويس. إنه يفتح القمقم، يطلق العملاق يتحداه ويحاربه. هذه القناة مجبولة بعرق الكادحين المصريين الذين قصمت السخرة ظهورهم وقصفت أعمارهم. هذا الممر البحري الرئيس يعود إلى أهله. ” (ص 25-26)
أما الكاتب فيذكر أنه ” أحسّ أنه يستنشق مساحات واسعة من الهواء. الرئتان منفوختان. الصدر مندفع مرتفع، الرأس يخترق الغيم. هكذا تتجسّد إرادة تؤمن بذاتها وبالحق – حقّها في استرداد ما سُلب”.
المربي مارون قعبور، نائب مدير الكلية الأرثوذكسية الوطنية، في كتابه “التطويبة المفقودة”(16)، يتعرض لوقع خبر وفاة عبد الناصر على الطلاب والمعلمين في الكلية، والأجواء التي سادت فيها في ذلك اليوم، حيث كان يتحدث عن حزن من نوع آخر “لكن هذا الحزن تقزّم أمام سحابة الحزن الأسود الخانق التي هبطت بكامل جبروتها على الانسان العربي قبيل نهاية الشهر التعليمي الأول، وبالتحديد يوم الثامن والعشرين منه، يوم وفاة الزعيم جمال عبد الناصر. (وا ناصراه!! فيا أيها الحزن مهلاً، واهبط رويداً رويداً واصبر على العين صبراً جميلاً). ما حدث في ساحة المدرسة في ذلك اليوم كان مشهدا لم يكن بمقدور أي عقل بشري في حينه أن يفسّره.” (ص 88).
ويصور لنا المربي قعبور انعكاس الحزن الشديد على الطلاب وسلوكهم في الساحة، كما انعكس على المعلمين الذين لم يتمكنوا من إخفاء دموعهم، ولما صعد الطلاب والمعلمون الى الصفوف لم يتمكنوا من المكوث هناك وعادوا ثانية إلى الساحة في مراسيم حزن مشتركة وجماعية على “هذا الرجل الذي تربّع في أعماق النفس مرحبّاً به من كل الحواس الخمس، وربما من حواس أخرى سادسة وسابعة وثامنة، ملك الفؤاد ولم يعد مجرّد رجل أحبته الجماهير العربية، بل أصبح هو الحب نفسه وهو الوفاء وهو الضمير وهو الأمل المنشود ومنية الأبصار والأسماع. لهذا كله، كان لوفاة صاحب الوجه النبيل، في تلك اللحظات بالذات، معنى واحد في النفوس، هو انهيار الأحلام وفقدان الأمل وبوصلته، وهذه هي الكارثة بعينها.” (ص 88-89).
مرب آخر عمل في الكلية الأرثوذكسية العربية، الأستاذ والكاتب فتحي فوراني، أحد كتابنا الذين حملوا لواء القومية والعروبة، وأحب الزعيم عبد الناصر وأعجب بسياسته ونهجه، وفي كتابه ” جداريات نصراوية”(17)يستعيد أيام القومية المجيدة تحت راية القائد عبد الناصر، يوم كانت جماهيرنا الفلسطينية تنتظر خطاب الزعيم وتلتف حول أجهزة الراديو لسماعه، وذلك في مقطوعة بعنوان “النسر الأخضر.. في سماء الناصرة”.
ويروي فوراني أن الناس كانت تلجأ الى تعبئة بطاريات الراديو، على عبد الناصر لأنه سيلقي خطابا الليلة، ويأتي استعداد الناس لـ”أنهم على موعد مع الرجل الأخضر.. جمال عبد الناصر!”ويصف تجمع الناس في مقاهي المدينة والتفافهم حول أجهزة الراديو “وتمتلىء المقاهي والمطاعم بالعباد الذين يقتلهم الشوق لسماع عبد الناصر!”
بينما عميل المخابرات يندس لينقل المعلومات لأسياده. أما أهم العبارات التي تترك صدى في نفوس السامعين ” ينتهي الخطاب السياسي الذي تتغلغل كلماته عميقًا في الوجدان لتصل إلى شغاف القلب.. وتشقّ طريقها الميمون إلى الأعماق.. فيشحن الوجدان العربي بمشاعر العزّة والكرامة والكبرياء!وتصدح الأغاني الوطنية عاليًا عاليًا”.
وينهي بمقاطع من الأغاني الوطنية التي انتشرت في تلك الحقبة والتي أدى أهمها وأغلبها المطرب عبد الحليم حافظ ومنها ” يا حبيب الملايين”، “السد العالي”.
أما بعد:
هي محاولة لرصد وجود الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في أدبنا الفلسطيني في منطقة 48، آمل أن أكون قد قدمت صورة متواضعة في هذا الجانب، أما ما مدى حضور عبد الناصر في أدبنا، وهل يتلاءم مع مدى المحبة والتأييد له في الأوساط الشعبية، وهل نجح أدبنا في عكس تأثير هذه الشخصية المميزة جماهيريا، فهي أسئلة تحتاج إلى معالجة أخرى.
إشارات:
- محمود مصطفى الدّسوقي – الأعمال الشعرية الكاملة، مجمع القاسمي للغة العربية وآدابها، الطيبة، 2017، ص 491
- شكيب جهشان – نمر الياسين السّاعدي يحكي لكم- منشورات مواقف، الناصرة، 1996
- منيب مخّول – نافرون –اصدار خاص، ترشيحا، آذار 1998، ص 28-34
- عطالله جبر- قمر الولادة، رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينيين، الناصرة 1990، ص 81
- عاطف خالدي – حصاد الرذيلة – مطبعة بسمة، كابول، ،1995 ص94-97
- ن. م، ص 98-100
- أسيد عيساوي- سيزيف وبحار، دار الوسط، رام الله، 2019، (ص 85-89)
- سميح صباغ- الأعمال الشعرية الكاملة- حيفا، 1993، ص
- التي ألقاها في احتفال لجنة مئوية القائد عبد الناصر، بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو، الذي أقيم في شفاعمرو فيتموز 2018
- نوال حلاوة- السّت زبيدة- مداد للنشر والتوزيع، دبي، ط.ث 2018
- حنا إبراهيم- موسى الفلسطيني- دار المشرق، شفاعمرو، 1998
- مصطفى عبد الفتاح -جدار في بيت القاطرات، مؤسسة الأفق، حيفا، 2017
- حسين مهنا – دبيب نملة، منشورات دار الهدى، 2018، ص 57
- شوقية عروق – منصور- مأذون من الليكود، دار الوسط وشوقيات، رام الله – الطيرة، 2019، ص 89- 93
- حنا أبو حنا- خميرة الرماد، مكتبة كل شيء- حيفا، 2004
- مارون قعبور- التطويبة المفقودة، دار المشرق- شفاعمرو، 2009
- فتحي فوراني – جداريات نصراوية، مكتبة كل شيء، حيفا، 2016