قراءة في كتاب (التَّبَايُنُ في الشعر النسوي العربي المعاصر) للناقد جعفر كمال
قراءة : أ. د. محمد عبد الرحمن يونس
– نائب رئيس جامعة ابن رشد للشؤون العلمية ـ التعليم عن بعد.
– مدير تحرير مجلة جامعة ابن رشد الأكاديمية المحكمة.
كتاب نقدي جديد للقاص والشاعر والناقد العراقي جعفر كمال، الذي أثرى الحركة النقدية العربية المعاصرة بمزيد من الأبحاث النقدية الجادة في القصة والرواية والشعر القديم والحديث، إضافة إلى إبداعه الشعري و القصصي.
لقد كانت الفرصة طيبة لأن أتعرف بهذا الأديب النشيط في التأليف والنشر، ولأن أشركه في المشاريع النقدية و البحثية التي أشرف عليها، فقد كان من بين كتّاب موسوعة الجنسانية العربية و الإسلامية قديما وحديثا، بجزئيها، الأول و الثاني، وقد صدرت هذه الموسوعة في طبعتها الأولى في لندن، وفي طبعتها الثانية في دار دجلة الأكاديمية في بغداد، قبل أسابيع قليلة.
إن من يقرأ كتاب الناقد جعفر كمال الموسوم بــ: (التَّبَايُنُ في الشعر النسوي العربي المعاصر) سيرى هذا الكم الغزير من المعرفة و المفاهيم و المصطلحات النقدية، و الإحالات إلى نظريات نقد الشعر المعاصرة المبثوثة في خطابه النقدي.
لقد أفاد جعفر كمال من خلفية معرفية موسوعية تنتمي إلى حقول الإبداع الفكري والإنساني المتعدد في مشاربه، فهذه الحقول تنهل من الأدب القديم و الحديث، ومن التراث و الفلسفة و التاريخ وعلم النفس وعلم الجمال. وقد أحال إلى نظريات الفلسفة اليونانية والإغريقية و المعاصرة، و أدخلها في فضاء النصوص الشعرية المعاصرة، وأخذ يحلل هذه النصوص تحليلا عميقا مستفيدا من كل ما قرأه في الكتب القديمة و الحديثة، سواء أكانت عربية أم مترجمة إلى اللغة العربية. و بصبر الباحث المتأني و الناقد الجاد و اسع الاطلاع استقى مفاهيمه النقدية من مصادر النقد القديمة التالية: الإحكام في أصول الأحكام لمؤلفه (أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631 هــ)، ـو كتاب العمدة في صناعة الشعر و نقده لمؤلفه أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني ( 390 ـــــ 456 هــــ / 1000 ـــــ 1064 م )، و كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـــ)، و كتاب بلاغات النساء لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر ( ابن طيفور. ت 280 هـــ ).
و لم ينس الإفادة من كتب أساتذة النقد المعاصرين الذين أثروا الحركة النقدية العربية المعاصرة بمزيد من الآراء و الاستنتاجات المهمة و الدراسات العميقة ، و من هؤلاء الأساتذة الذين أفاد منهم: جبرا إبراهيم جبرا، و يوسف سامي اليوسف، و عبد الإله الصائغ، و محمد غنيمي هلال و غيرهم. و قد شكلت الكتب الأجنبية المترجمة لأعلام النقد الأجنبي المعاصر خلفية معرفيّة أفادته كثيرا حين تحليله لنصوص الشاعرات اللواتي درس أشعارهن في الكتاب، ومن هؤلاء الأعلام: ديفيد هيوم، وجورج حبروفيتش، ونعوم تشومسكي،وميخائيل باختين، و رينيه ديكارت، وتيدول ريبو و غيرهم.
ولم يتقيّد جعفر كمال بمنهج نقدي محدد تناول من خلاله النصوص الشعرية، موضوع الدراسة، فهو يفيد في العديد من المناهج، تارة يأخذ من المنهج التاريخي، وأخرى من الوصفي، ومرة من الإيديولوجي، وأخرى من البنيوي التكويني، ثم يعود ليأخذ من معطيات المنهج الثقافي، و لا ينسى من أن يأخذ من بعض معطيات المنهج الاجتماعي، وكل هذه المناهج قابلة في دراسته لأن تأخذ من الفلسفة و علم النفس و علم الاجتماع، و بالتالي تأخذ من مفاهيمها و نظرياتها.
لقد قرأ النقد العربي القديم و الحديث، و النقد الأجنبي القديم و الحديث، وشكّل منها جميعها مفاهيمه النقديّة، ورؤيته التي حكم من خلالها على النصوص التي بين يديه، وحللها وبين فيها أهم معالم الجمال والإبداع الرؤيوي و الرمزي. و هو في كتابه اختار نصوصا بعينها، و رأى أنها الأبهى والأجمل و الأكثر عمقا فلسفيا ورمزيا و تاريخيا، و بالتالي أتى نقده متعاطفا مع هذه النصوص التي اختارها بعناية فائقة.
أمّا الشاعرات اللواتي اختارهن موضوعا للدراسة فهن: نازك الملائكة، و لميعة عباس عمارة، و بشرى البستاني، و ناهض ساتر، و فاطمة الفلاحي من العراق، و جمانة حداد من لبنان، و هيام قبلان من فلسطين، و روضة الحاج من السودان، ومالكة العاصمي من المغرب.
و إذا كان الكتاب ــــــ في شكله و ترتيبه و موضوعاته ــــ منجزا نقديا في خطاب المرأة الشعري، و أبعاد هذا الخطاب، و أهم الأبعاد الجمالية فيه، فإنّ الناقد جعفر كمال لم ينس أن يشير إشارات عديدة إلى شعراء الحداثة العربية المعاصرين، هؤلاء الشعراء الذين كان لهم سبق الريادة في الانتقال بالشعر العربي خطوات واسعة من مظاهر التقليد و النمط الكلاسيكي العروضي، المقيّد بالوزن و القافية و الصور النمطيّة إلى فضاءات أكثر رحابة في التشكيل اللغوي و الصورة الشعرية، و تكثيف الرمز و بعد إشاراته السيميائية و عمقها، ودلالاتها البعيدة في استخدام الرمز و الميثولوجيا، و التاريخ و الرؤية الحديثة الحرّة في انسيابها، والخارجة عن أطر القصيدة التقليدية، و المتجاوزة لها، و الرافضة لها أحيانا أخرى، من خلال استبدالها بشكل شاعري جديد لغة و موسيقا ، و مضمونا فكريا. و حداثة في الشكل. و من الشعراء المعاصرين الذين أشار لهم في كتابه النقدي :
بدر شاكر السيّاب، عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وصلاح عبد الصبور، وسعدييوسف، ومحمود داود البريكان، و أمل دنقل، ويوسف الخال، وشوقي أبي شقرة، و أدونيس، و عباس بيضون، و أحمد عبد الله، وسركون بولص، وصادق الصايغ، وعبد الرحمن الطهمازي، و مؤيد الرواي، و حلمي سالم، و أنور الغساني، و عبد الأمير الحصري، و حسين مردان، و جان دمو، و آدم حاتم، و عبد القادر الجنابي، و مظفر النواب، و محمود درويش، ومعين بسيسو، ونزار قباني، وأنسي الحاج، و أحمد مطر، وعبود عنيد هاشم، و مصطفى عبد الله، و أبو القاسم الشابي، وسميح القاسم، و قصي الشيخ عسكر، ونبيل ياسين، وعلي الأقزم، وغيرهم.
و من خلال استقصائه للنصوص الشعريّة النسائية أدرج الناقد صاحبات هذه النصوص ضمن فئتين: أطلق على إحداها ( الشاعرة الموهوبة)، و على الأخرى ( الشاعرة المقلِّدة أو المؤلِفة)، و رأى أن الشاعرات المؤلِّفات لا ينتمين إلى حركة الحداثة الشعرية النسوية الجمالية المعاصرة، بل هن لا يزلن يقبعن تحت غطاء التقليد، و الشعر غير الإبداعي، فما كان منه إلاّ و أن أهمل أشعارهن، و لم يولها أي اهتمام، و ركّز في انتقاء جميع النصوص المدروسة لمجموعة من الشاعرات، رأى أنهن ينتمين إلى ( الفئة الموهوبة)، أي تحديدا إلى الفئة المبدعة تشكيلا إبداعيا، و صورا حداثية غير نمطية، أهم خصائصها أنها إبداعية على مستوى استخدام تقنيات الرمز و الإفادة من حقول المعرفة الإنسانية، و حديثة على مستوى المفردة اللغوية، و طريقة بنائها الشعري في الجملة الشعرية، و على مستوى الهمّ الفردي و الجمعي الإنساني الذي يخيّم على الجماعات الإنسانية في حلمها وفرحها وعيشها، و أحزانها، وبالتالي على مستوى الفاجع العميق الذي يضرب جذوره في المجتمعات العربية المعاصرة، و يشلّها و يمنعها من أن تكون مجتمعات ناميّة و مزدهرة قادرة على تحقيق العيش الحرّ الكريم لأفراده و مواطنيها.
و في أسلوبه النقدي الذي طبقه على النصوص الشعرية أبدى تعاطفه الشديد مع هذه النصوص، و نظر إليها بمنظور جمالي، و بعين راضية فيها كثير من الإعجاب، و قد ساعدته هذه النظرة لأن يستفيض في دراسة هذه النصوص على مستوى اللغة الشعرية، و تشكيل هذه اللغة، و على مستوى الصورة الشعرية، و بعد هذه الصورة، و أهم الحقول المعرفية التي أسهمت في تشكيل هذه الصورة,
و قد استعان في فهم هذه الأبعاد و تقديمها إلى القارئ في قالبها النقدي من خلال الرجوع إلى الكثير من المصادر و المراجع العربية و الأجنبية القديمة و المعاصرة كما أشرت إلى ذلك . و من هنا فقد تزامن النقد النظري مع النقد التطبيقي في كتابه، إذ حضرت نظريات النقد و مفاهيمه، لكي تساعده على فهم إشارات الشعر و أبعادها السيميائية والرمزيّة. أي أنّه لم يدرس النصوص الشعرية التي بين يديه بوصفها وحدة مستقلة بذاتها، بل بوصفها ناقلة و حاملة لمزيد من الرؤى النقدية و الفلسفية،و البنيوية التاريخية.
و من هنا بدا خطابه النقدي صعبا و مستعصيا على القارئ العادي الذي ليس له خلفية معرفية بنظريات الشعر و نقده. أي أن هذا الكتاب هو موجه ــــ بالدرجة الأولى ـــ لشريحة خاصة من قرّاء الشعر و نقاده المتمرسين الذين لهم معرفة بأصول النقد و نظرياته القديمة و الحديثة، و من هنا تأتي أهميته في أن يكون مرجعا من مراجع نقد الشعر العربي المعاصر، وبخاصة نقد الشعر النسوي، وبالتالي يفيد منه طلاب الدراسات العليا و الباحثون في أقسام النقد الأدبي في جامعاتنا المعاصرة، بل هو من أهم هذه المراجع المعاصرة في اختصاصه و موضوعه، إذ يشكّل نافذة معرفية يمكن أن تنبثق عنها نوافذ أخرى عديدة تشكّل لبنات مهمّة في معمار نقد القصيدة المعاصرة شكلا و مضمونا و تنظريا معرفيا.
انتهى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: التَّبَايُنُ في الشعر النسوي العربي المعاصر، بين التّصْريْف، وجاذبية الصوت، جعفر كمال – دار الفارابي للطباعة والنشر و التوزيع، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى 2020 م.
أ. د. محمد عبدالرحمن يونس تحية واحترام..
شكرا لكم مروركم الكريم على بعض صفحات كتابي “التباين في الشعر النسوي العربي المعاصر” بالشرح والتحليل وهذا مما زاد الكتاب أهمية وسعة للقبول، خاصة وأن أسلوبي يتقن الرشاقة الأسلوبية، الذي اعتمدته أكثر في الجزء الثاني الذي هو قيد الطبع، ومن ثم أتوجه لطباعة كتاب يحتضن الرواية العربية لروائيين عرب، كذلك سيكون نصيب القصة القصيرة كما هو الحال في الرواية والشعر، وهذه الكتب كلها تطبع في الفارابي قريبا، احترامي واعتزازي.