رواية السيرة الذاتية (المربع الأسود) للروائية بلقيس حميد حسن
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
رواية السيرة الذاتية ليست ظاهرة جديدة في تاريخ الأدب العربي الحديث, بل كانت على العكس واحدة من أكثر الظواهر شيوعا في المراحل الأولى من تاريخ هذا الأدب, فقد استخدم رواد الرواية المصرية مادة حياتهم الشخصية ليصنعوا منها رواياتهم الأولى في صيغة سيرة ذاتية واضحة، كما أنها لم تكن يوما ظاهرة نسائية; فمعظم الروائيين الرجال في الأدب العربي المعاصر استغلوا فعلا حوادث، ووقائع, وأطيافا من حياتهم الشخصية, ليصنعوا منها روايات سيرة ذاتية جديدة, ويجمع المختصون على القول بصعوبة الاتفاق على حد جامع مانع لمفهوم السيرة الذاتية, نظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة، هي السيرة, أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة, والسيرة الذاتية, والذكريات, والمذكرات، واليوميات, والاعترافات, وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية- معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية,لقد أصبح من دأب الكتاب أن يستخدموا موادا من حياتهم الشخصية الفعلية, وأن يعلنوا عن ذلك في متن النص الروائي نفسه, وهنا أعلنت الروائية المبدعة (بلقيس حميد حسن) في روايتها (المربع الأسود) عن أنها سيرة ذاتية قائلة: وددت أن اخبر قارئ روايتي هذه أن ما كتبته هنا, لا يشكل ذرة مما في ذهني من الذكريات والأفكار التي تراودني وتستبعدني لأرويها للناس وسأرويها ما حييت, ولم يكن من قبيل المصادفة أن أشهر النصوص الروائية في السنوات الأخيرة كانت نصوصا ,سيرا ذاتية, أو شبه سير ذاتية.
ومما يجدر ملاحظته هنا أيضا أن هيمنة الصيغة للسير الذاتية جاءت مواكبة لاتجاهات طليعية وتجريبية في الكتابة, لا في الأدب العربي وحده، بل في كل آداب العالم, لقد جاءت هذه الصيغة وكأنها إعادة اكتشاف للعلاقة الخصبة المربكة بين الذات والواقع, بين عالم الداخل, وعالم الخارج, والسيرة الذاتية هي قصة حياة الروائية التي تتذكرها وتكتبها بنفسها, ولذلك تكون خاتمة لحياة الروائية , وقد تكتبها كاتبة أو سياسية أو شاعرة, أو روائية كما هو الحال هنا; لأن الشهرة والمعرفة المسبقة بصاحبتها شرط ضروري للإقبال على قراءتها,وقد بينت الروائية (بلقيس حميد) في مقدمة روايتها الحديث عن سيرتها الحقيقية, قائلة: سأروي سيرتي الذاتية من دون استعارة وبالأسماء الحقيقية , أما القصص التي ارويها عن النساء الغريبات فهي لا تمت للحقيقة بشيء , وان كان هناك تشابه أسماء فهي مصادفة لا غير ,ورواية السيرة الذاتية عند (بلقيس حميد) عمل فني ينهض على أحداث, ووقائع من حياتها الشخصية مهما كان مغمورا, ولذلك يحدث أن تكتبها كاتبة شهيرة كما في حالات كثيرة, وقد وظفتها الروائية المبدعة (بلقيس حميد) في روايتها (المربع الأسود): برغم كل الخوف الذي يزلزلني, أحسست بنشوة الانتصار وأنا اعبر النفق الممنوع.. اليوم هو 6-3-1979 أول صباح لي في دمشق.. كان السيد موريس رجلا كبير السن وقورا, ومحاميا معروفا ملامحه تدل على الطمأنينة والحكمة كان هادئا خفيض الصوت يتكلم ببطء كمعلم, إن صلة الإبداع الأدبي بِمُحِيطِهِ الاجتماعي والتاريخي هي من القضايا الفكرية المستعصية على التدقيق، وقد نتجت عنها استعمالات نظرية ومنهجية ذات مفاهيم تنتمي إلى عدة حقول معرفية: اجتماعية ونفسية وفلسفية، ولذلك فإن ما تقتضيه تلك الصلة حين يتعلق الأمر بالخطاب الحكائي هو الانتباه إلى حالة من التخييل المركب: ظاهر ومضمر، متحقق ومحتمل، محايد ومباشر، لولاها لظل أي تصوّر للتخييل الحكائي بعيداً عن امتلاك قيم ثقافية نوعية ودالَّة, إن قيمةَ الأدبِ لا تَكْمُنُ في محاولة بيان كيفية انتصار الخيال على الواقع، بل تكمن في العلاقة التي يقيمها الأدب مع تعدد الواقع في الزمان والمكان بهدف بلورة موقف معين على صعيد الثقافة والمجتمع، لأن النصوص الأدبية عادة ما تتضمن هوية كاتبتها، وحياتها لا تقع فقط ضمن هذا الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال، أو بين الخيال الذي يصير واقعاً، والواقع الذي أمسى أكثر غرابةً من الخيال: أتذكر طفولتي قبل العقل والنضج وجنونهما, تذكرت نفسي منذ لعبت في شوارع تلك المدينة الجنوبية كان حب الجمال يؤرقني كنت أريد أن أكون أجمل امرأة بالعالم أقارن بين البشر أحاول تقليد أجمل النساء, ولعل رواية (المربع الأسود) هي أبلغ ردٍّ على هذا التساؤل لأنها تُعَدُّ الشَّكْلَ الأكثر توثيقاً للفضاء الزماني, والمكاني، والأكثرَ ضماناً لعمق هذا الفضاء, واستمراره على مر الزمان, بل يمكننا القول عموماً إن لروايتها قيماً أدبية ,وفكرية تحوّل التاريخ الذاتي إلى أفق للكتابة يتحدى مجال البوح والاعتراف حين يحوّل ممارسة الكتابة ذاتها إلى وعي مكمّل لإدراك العالم المحيط بالروائية خلال مختلف مراحل العمر, إذا سلمنا بهذا الاعتبار يمكننا الحديث عن رواية (المربع الأسود) كونها نوعاً أدبياً مثل بقية الأنواع، نوعاً لا يحكمه الميثاق التعاقدي بين الروائية بلقيس , والقارئ فحسب، بل توجهه الاختيارات الجمالية لأصحاب السير الذاتية، وتكون روايتها بهذا المعنى نوعاً أدبياً معبراً عن حساسيات مختلفة للروائية: فتحت لي الباب شابة تتثاءب منزعجة من صوت الجرس بين النوم واليقظة تلملم شالا وضعته على كتفيها لتخبئ قميص نوم شفافا مع أن الساعة الثانية ظهرا لكنها تتحدث بصوت خفيض قائلة: آسفة جميع البنات نائمات, وتمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين, الذاتي حين تتطابق هوية الكاتبة مع الساردة, والموضوعي حين تفترق أنا الكاتبة, وتحتجب خلفها الشخصية, وتستتر بظلها لتبرز هوية الساردة واضحة الشخصية, والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية والسير بنحو عام, والمذكرات, عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه,: دخلت شقتها بعد أن أحرجني إلحاحها وخوفي من كلمة متكبرة عرضني للإحراج كما أنني وجدتها فرصة للتعرف إلى مشاكل الناس وحيواتهم مجموعة شابات على أسرتهن بعد في غرف مكتظة بالأسرة فتحن عيونهن قدمتني لهن أمل بإطراء كبير وقدمتهن لي: هيام داليا فريدة أماني لينا بيداء وأنا أمل وتبتسم ,وأخيرا نقول إنها سيرة ذاتية لوجع السنين, والمعاناة التي عانت منها الروائية بلقيس حميد طلية المدة الزمنية الماضية, والتي سردت لنا الإحداث بصورة شيقة, وذكرت لنا الشخصيات التي لاتنساها, بصورة جميلة ومعبرة عن ثقافتها الواسعة, وعن حجم الدمار الذي لحق بالشعوب العربية من حروب, ودمار وقتل ,وتدمير.