تاريخ

الحضارة الإسلامية في العصر العباسي (٢)

العلوم الدينية والشرعية

محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية

     نشطت العلوم الدينية والشرعية في هذا العصر، نظرًا لنشاط الدعوة والوعظ والإرشاد وكثرة العلماء من الفقهاء وعلماء التفسير والحديث، وكانت المساجد ودور العلماء وحتى الأزقة عامرة بحلقات العلم الشرعي والمناظرات والحديث، وكان علم الفقه هو أكثر العلوم الدينيَّة تطوُّرًا وازدهارًا، تأثُّرًا بحالة التطوُّر الفكري والعلمي الذي مر به المجتمع، وقد وصل إلى مرحلة النضج والكمال، وكثرت طرق البحث في المسألة الفقهية الواحدة، وهو ما أفضى في النهاية إلى ظهور علم أصول الفقه وهو العلم الذي يضع القواعد الأصولية لاستباط الأحكام الشرعية من أدلَّتها الصحِّية وكيفية الاستفادة منها للتعامل وإصدار الحكم أو الفتوى، وبناء عليه تعدَّدت المذاهب الإسلامية وتشعَّبت طرقها وظهرت المذاهب السُّنِّية الأربعة الشهيرة، وهي: المذهب الحنفي المنسوب للإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت150هـ/767م) والمذهب المالكي لصاحبه الإمام مالك بن أنس إمام المدينة المنورة (ت179هـ/795م) والمذهب الشافعي لمؤسسه الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ/819م)، والمذهب الحنبلي لمؤسِّسه أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855 م) ويُضاف إليهم مذهب خامس وهو المذهب الظاهري الذي نشأ على يد داود الظاهري (270ه/883 م) واعتمد على الأخذ بظاهر النصوص، وقد شاع مذهبه لكن لم يبلغ درجة المذاهب الأخرى في الانتشار والتوسُّع.

 وبخلاف هؤلاء تلك المذاهب الخمسة فقد اشتهر عددٌ من الفقهاء مثل الأوزاعي، وابن أبي ليلى، وسفيان بن عيينه، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وابن جرير الطبري، وكانت لهم آراؤهم ومذاهبهم، إلا أن مذاهبهم لم تعش وقتًا طويلًا بسبب عدم قيام تلامذتهم بتدوينها، فاندثرت ولم يبق منهم غير بعض الآثار والفتاوي.

    وبجوار علم الفقه نشط علم آخر هو علم الكلام، وهو علم يتضمَّن البحث عن العقائد الإيمانية بالأدلَّة العقلية للرَّد على المبتدعة والمنحرفين، وقد بزر هذا العلم بسبب ظهور مجموعة من الفِرق والمذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة مثل: القدرية والجهمية والمرجئة والجبرية، فضلا عن مذاهب الشيعة وطوائف الخوارج المختلفة، غير أن أهم تلك الفرق على الإطلاق وأكثرها أثرًا على الحياة الدينية والأدبيَّة والعامة كانت فرقة المعتزلة، والتي أسَّسها واصل بن عطاء أواخر العصر الأموي حينما اختلف مع الحسن البصري في مسألة مرتكب الكبيرة، وما لبث أن اعتزله وأصحابه فعُرفوا بالمعتزلة، وقد بُني هذا المذهب على أساس تقديم العقل والمنطق على النقل والنص، ودان بهذا المذهب عدد كبير، وقد امتاز المعتزلة بقدرتهم الفائقة على المناظرة وإثبات الحجة بسبب إمعانهم في الاعتماد على العقل. وبلغ أوج انتشاره في عهد الخليفة المأمون الذي تأثر بأفكارهم وجعل الاعتزال مذهبًا رسميًّا للدولة، وأيَّد معتقدهم الباطل بمسألة خلق القرآن، وظلَّ مذهبًا رسميًّا للدولة في عهد المعتصم ثم الواثق إلى أن جاء المتوكِّل فانتصر لمذهب السُّنة وأبطل فكرة خلق القرآن ونحَّى المعتزلة عن مجلسه. ثم بدأ تيار الاعتزال بعد ذلك يضعف مع ظهور القرن الرابع الهجري، إذ انشقَّ عنهم بعض أعلامهم مثل أبي الحسن الأشعري (ت324ه) الذي عمل على دحض آرائهم واستعمل أساليبهم في الرد عليهم، فكان هذا إيذانا بضعف مذهب الاعتزال وانخفاض أثره بعد ذلك، وقد ظهر على يد أبي الحسن الأشعري مذهب جديد وهو مذهب الأشاعرة، وهو أقرب المذاهب الكلامية إلى السُّنَّة والجماعة، قبل أن يرجع عنه أيضًا إلى مذهب السنة، ولكن أتباعه لم يرجعوا عمَّا رجع عنه.

    واعتنى العلماء بالقرآن الكريم وما تعلَّق به من علوم، ومن أبرز علوم القرآن الكريمما عُرف بعلم القراءات الذي يُعني بآداء القرآن الكريم آداة صحيحة، وقد أُخذ بالتواتر عن أصحاب رسول الله ﷺ، وكذلك علم التجويد ورسم المصحف وعلامات الوقف والابتداء،وتطوَّر علم تفسير القرآن الكريم وتعدَّدت مدارسه في مكة والمدينة والعراق وبغداد، وقد صنف عدد من العماء عدة مصنفات في التفسير مثل سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وقد انقسم مفسرو القرآن الكريم إلى عدة مذاهب، فأما المذهب الأول فاقتصر في تفسيره على المأثور من صحيح حديث النبي ﷺ، مثل  كتاب “جامع البيان في تفسير القرآن” للإمام محمد بن جرير الطبري، وأما المذهب الثاني فعرف بتفسير الرأي وسار في هذا الاتجاه طائفة من المعتزلة، وأما المذهب الثالث فربط تقسير القرآن بالأحكام الفقهية الواردة فيه واشتغل فيه عدد من الفقهاء.واهتمَّ بعض علماء اللغة والحديث  بتفسير بالغريب من ألفاظ القرأن ومعانيه.. وهناك من صنَّف كُتبًا في متشابهات القرآن والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وإعجاز القرآن وفضائله وما ورد فيه من أمثال.

    ونشط كذلك علم الحديث وهو العلم الذي يُعني بدراسة أحاديث النَّبي ﷺ والتَّدقيق في مسانيدها ورواتها ومدى صحَّتها، حيث تم تصنيف الأحاديث من حيث عدد المسانيد والرُّواه واتَّصال السند ومدى الصحَّة، فصارت لأحاديث النبي ﷺ قواعد وأصول وتصنيف، فمنها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع ومنها الغريب والعزيز والمتواتر ومنها المتَّصلة والمُرسلة.

     ونشأت بخصوص الحديث عدة علوم مثل علم الجرح والتعديل الباحث في أحوال الرواة، وعلم تاريخ الرواة المختص بالتَّعريف برواة الأحاديث، وصُنِّفت كتب عديدة في معرفة الصحابة وطبقات الرواة والناسخ والمنسوخ، وقد عني علماء السنة والحديث النبوي بالبحث في اتصال السند ودراسة سير الرواة وصنَّفوا في ذلك الكتب مثل الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن معين البغدادي

    وقد سبق التنبيه على أن صحابة النبي ﷺ فضلوا نقل الأحاديث النبوية بالرواية ولم يتم تدوينها باستثناء بعض المحاولات الفردية، حتى كثر الخلط وتعدَّدت الأحزاب السياسية وأخذ بعض المنحرفين يدلِّسون في حديث النبي ﷺ ويضعون أحاديث باطلة، ولما انتبه لذلك علماء أهل السنة قاموا على الفور بتدوين أحاديث النبي ﷺ في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وفي العصر العباسي اشتهر كتاب الموطَّأ للإمام مالك وعدة مؤلفات مبكرة، ولكنَّ أهمَّها على الإطلاق كان كتابُ المسند الشهير الذي وضعه الإمام أحمد بن حنبل وجمع ما يسعه من أحاديث للنبي ﷺ مقسِّمًا إيَّاها  أبوابًا حسب أسماء الرواة. ولما انتهت مرحلة جمع وتدوين أحادث النبي ﷺ جاءت مرحلة التدقيق والتنقيح فقد ظهرت كُتُب الصحاح وأهمَّها على الإطلاق “الجامع الصحيح” للإمام البخاري (ت256ه/869م) و”الجامع الصحيح” للإمام مسلم (ت261ه/874م)، وقد تمَّت مراجعتهما مرارا واجتمعت الأمة على أنهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى.

    وتليهما في الأهمية كتب السنن الأربعة لأبي داود السجستاني والترمذي والنسائي  وابن ماجة، وتأتي في المرتبة الثانية من الأهميَّة والصِّحَّة كونها شملت بعض الأحاديث النبويه الضعيفة مع الإشارة والتنبيه عليها، وقد اعتمدت كتب الصِّحاح والسنن تلك على تصنيف الأحادث النبويه وفق الأبواب الفقهية، ويأتي في المرتبة الثالثة كتاب المسند للإمام أحمد بن حنبل الذي حوى بعض الأخبار الضعيفة ولكنه استبعد الأحاديث المنكرة وشديدة الضعف. وكلُّها مظاهر يستدل منها على العناية الفائقة التي رافقت العلوم الدينية والشرعية بكافة فروعها وأصنافها وتدل على مدى تطور وازدهار العلوم المتعلِّقة بالدين وعلى مدى نشاط حركات الدعوة والإرشاد والوعظ وما بذله علماء الدين والفقه والحديث من جهودٍ جبَّارة لحفظ الدين الإسلامي وخدمته. 

(يتبع…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى