العمدة
د. محمود رمضان
استوقفني شاب أربعيني وقال: أنا ابن عمدة، وأيام العمودية لها قيمة حضارية في ذاكرة الأجيال والعهود التاريخية الحديثة والمعاصرة ، ومازالت الأوراق الرسمية تسجل ذكرها للأثر المهم لمن يتولى هذه المهمة في المجتمع أيضاً، كان العمدة في ريفنا من أغنى الناس، يمتلك مساحة أرض زراعية ضخمة للغاية، وكان منصب العمدة متوارثاً، فجدي كان عمدة، وكذلك أجدادي، رحمهم الله.
كنت طفلا صغيراً وتربيت مع أبي وأمي في بيت جدي العمدة، كان رجلاً مهيباً، وكريماً للغاية، لا يصل نزاع بين متشاجرين للشرطة، كان كبار عائلات المتخاصمين، مهما كان نوع الخصومة، يأتون لجدي الذي يسمع من الطرفين، في وجود شيخ البلد وعدد من الخفراء، ليصلح بين الناس، ويرضي المظلوم حتى من ماله الخاص، وبعد انتهاء الصلح، تمد الأسمطة (الموائد) ويتناول الجميع طعامهم في بيت جدي بمحبة ومودة.
كان الفلاحون يعملون في أرض جدي العمدة، وكان ينزل إلى الحقول ليتفقد أحوالهم بود شديد، يسأل فلانا عن ابنه الذي يدرس في القاهرة، وفلان عن ابنته التي أوشكت على الزواج، وعن غيره الذي غضبت منه زوجته وذهبت لدار أهلها، فيصطحبه العمدة إليها ويراضيها فتعود المرأة مع زوجها لداره، فتتدلل على زوجها بقولها: لو زعلتني تاني هروح لحضرة العمدة واشتكيك، فيضحكان ويبيتان ليلتهما كعريس وعروس في ليلة زفافهما.
تكفل جدي بنفقات تعليم ومصروفات مدارس الأطفال الأيتام، وأنفق الكثير على الأرامل، ولم تكن قريتنا تعرف كلمة الطلاق.
ومع أن جدي كان يعرف كل كبيرة وصغيرة في القرية إلا انه كان يمنح شيخ البلد صلاحياته كاملة، في تقديم الشباب في سن التجنيد إلى المركز لينالوا شرف الخدمة العسكرية.
وللعمدة راتب من الحكومة، وكان جدي يحرص على التبرع بهذا الراتب كمساعدة شهرية للفقراء والمساكين، وعندما كانت العائلات تتشاحن وتتصارع على منصب العمودية في مراكز مجاورة، فقد كان الأهالي يرسلون طلبات مع البرلمانيين عن الدائرة ليظل جدي في موقعه كعمدة للبلد، من الخير الذي عاينوه على يديه، ومن تقواه وصلاحه وإصلاحه بين الناس، وكانت وزارة الدخلية توافق فوراً على إعادة التجديد لجدي كعمدة للبلد.
كان كل مولود بالقرية له هدية ذهبية من العمدة، وهناك علماء كبار بالخارج، من أبناء قريتنا، يقومون بالتدريس في أكبر الجامعات الأمريكية والأوروبية مازالوا يحتفظون بهدايا جدي العمدة وهم في بلاد المهجر.
حتى في حالات الوفاة كان جدي يستضيف أهل المتوفى ويحضر لهم مقرئا ويقام العزاء في سرادق كبير يقام أمام بيت جدي، كأن المتوفى شقيقه أو المتوفية شقيقته.
وظهرت أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية عن تجبر العمدة واستيلائه بالقوة والقهر على أراضي الفلاحين، ومنها فيلم الزوجة الثانية الذي شاهده أهالي قريتنا باستهزاء وسخرية، وحكوا لجدي أحداث الفيلم وأخذوا يضحكون، ويحمدون الله أن وهبهم عمدة صالحاً ينفق من ماله ومن خير الله من أرضه على المحتاجين.
وفي الوقت الذي كانت ترتعد فيه فرائص فلاح في قرية مجاورة عندما يحضر شيخ الخفر ويطلبه للقاء العمدة، فالعكس يحدث عندنا ويستبشر خيرا من لقاء جدي.
ومع أن والدي عمدة أيضاً ومعين من الحكومة إلا أنه يسير على نهج جدي، في إقامة العدل بين الناس، والعطف على الفقراء والمساكين، ورفض والدي الترشح لعضوية مجلس الشعب في زمن مبارك والحزب الوطني، واعتذر بلباقة وقال إنه سعيد بخدمة أهالي القرية.
ومن أجمل الأغنيات التراثية في الفلكلور المصري أغنية (يا حضرة العمدة) التي غنتها ليلى نظمي، تقول كلماتها:
يا حضرة العمده ابنك حميدة حدفني بالسفندية
اهيي
وقعت على صدري ضحكوا علي زملاته الافندية
ازاي كده !
يرضيك يا عمدة علشان ابن عمدة يعمل كدة كدة فيا
يا ابو حميدة
.. جرى ايه
متحوش حميدة
.. عمل ايه ؟
ده من عيونها وسحرها .. هيروح ضحية
يرضيك يا عمدة ؟
.. لا لا لا
علشان ابن عمدة
.. لا لا لا
حبيبة حلوة .. غنيوة حلوة
طب وانا مالي ؟؟
دي سيرتها حلوة في البلد مهيش ردية
احنا غلابة ..
ايوه ايوه
ومحناش غلابة
.. ايوه ايوه
قيمة الغلابة وسعدهم شرف الصبية
يرضيك يا عمدة ؟
.. لا لا لا
علشان ابن عمدة
.. لا لا لا
ياااااااااه، كانت أيام جميلة، ورائقة، قبل ان تتحول كل مجموعة من القرى لمدينة صغيرة!