من أدب الرسائل.. عزيزتي فلسطين..

خالد جمعة | فلسطين

[رسالة من طفل وُلد خارج الدائرة بقلمٍ من رصاص، وورقة بحجم العالم، ولغة مكتملة]

عزيزتي فلسطين

لا أعرفُكِ في الحقيقة، وجدي الذي مات بعد أبي [ليقلب أول قانون طبيعي أعرفه]، كان يهمس لي باسمك عندما كنت رضيعاً، دائماً يقترب من أذني اليمنى [كما يظهر في الفيديوهات الكثيرة التي صورتها أمي]، ويخفض صوته ويغمض عينيه ويقول: فلسطين، فلسطين، ثم يبدأ بتعداد المدن التي عرفت بعد أن كبرت بأنه كان يقولها كما هي مرتبة على الخارطة من الجنوب إلى الشمال، أو بشكل أدق، كما هي الرحلة التي كان يقوم بها سنوياً ليبيع أغنامه ومنتجاتها، كان هذا قبل عقود طويلة، لذا فقد حفظت المدن غيباً قبل أن أراها على الخارطة: أم الرشراش، النقب، بئر السبع، الخليل، بيت لحم، القدس، أريحا، رام الله، قلقيلية، نابلس، طولكرم، جنين، بيسان، الناصرة، صفد، كان هذا في طريق عودته، أما في ذهابه، فكان يتنسم هواء البحر في الناقورة، عكا، حيفا، قيساريا، يافا، أسدود، عسقلان، غزة، رفح، أطعمني الأسماء كلها مع الحليب والحكايات، أما بالنسبة لي، فقد كان جدي هو فلسطين، عيونه التعبى مدنها، ويداه برتقالها، وقدماه رمالها، وحكاياته تاريخها.

أما بعد..

كبرتُ قليلاً، وصارت المدن تخطر في الأحلام كعرائس بيضاء، تحيطها قرىً كأساور، وسهول كخلاخيل، وشجر كالقلائد، وعرفت أن المدن كانت مدناً حقيقية، بموسيقى وبدلات رسمية، وإذاعات وسينمات ومجلات ومصنوعات، وشعراء أيضاً ومغنين، وتوشحتُ أحلامي لأني بلا وطنٍ أرتديه عند الخروج إلى المدرسة، وتابعتك في الصور والأخبار التي تبكيني كل يوم، ووعيت أكثر ما يعنيه الشهداء، لم أكن أفهم كيف يفرط شخص في حياته بسهولة من أجل ما يسميه وطناً، ولأني بلا وطن لم أكن أعرف ماذا يشبه هذا الوطن، هل هو مثل أمي مثلا؟ أم مثل أستاذي الذي أحبه؟ هل هو مثل أبي الذي قتله جنود إسرائيل حين حاول أن يخطو فوق النهر ليرى أمه قبل أن تموت؟ المهم في النهاية أنني اكتشفت أن الوطن هو كل ذلك مضافاً إليه أغاني جدتي، وأذان المغرب في القدس، لماذا أذان المغرب؟ لأنه الأذان الوحيد الذي يشبك الليل بالنهار بإبرته وخيطه، لطالما أحببت أذان المغرب حتى حين يذاع في التلفزيون، وبالمناسبة، لدي مكتبة ورثتها عن أبي، فيها مئة وخمسون كتابا عن القدس وحدها، قرأتها كلها، لذا يمكنك أن تسأليني عن أي تفصيل فيها وسأجيبك، ما ينقصني فقط، أن أشم رائحة الشوارع هناك، فرجاءً لا تسأليني عن الرائحة.

العزيزة فلسطين:

طلب مني جدي أن أكتب لك هذه الرسالة، كي تبقى العلاقة بيني وبينك قائمة، لأنه كان يعتقد ـ وربما كان محقاً قليلاً ـ أنني يمكن أن أتكاسل عن معرفتك، أو عن محاولة العودة إليك إذا هو مات ولم يعد يزرع في روحي شتلاته الفلسطينية، ربما يحدث هذا مع آخرين، ولكن ليس معي، فجدي لم يترك مكاناً في روحي للنسيان، فإذا حدث ذات يوم ونسيتك، فمعنى هذا أنني نسيت نفسي أو فقدت الذاكرة، لكن حتى فقدان الذاكرة لا يمكنه أن يمحوك، أن لا تتذكر شيئا، لا يعني أن هذا الشيء غير موجود، أو أنه لم يحدث.

أعرف أن البلاد لا تكتب، إنما يكتبها أبناؤها، لذا، لن أطلب منك أن تردي على رسالتي، التي أعدك أنها لن تكون الأخيرة، وهي ليست مهمة إلى درجة أن أطلب منك أن تنقشيها على حجارة القدس مثلاً، أو تنثري حروفها فوق جبال الجليل، يكفيني فقط أن أعرف أنك هناك، وأن ولداً من المخيم، أو من المدينة، لا فرق، سيقرأ هذه الكلمات، وربما يضيف جملة هنا أو جملة هناك، فأنا لدي قناعة مطلقة، بأن من عاش على ترابك وصخور جبالك، لا يشبه من رآك في الكلمات وقرأك في الكتب.

ملاحظة: أتمنى ألا يكون ما سمعته في نشرات الأخبار في السنوات الأخيرة صحيحاً كلّه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى