الجانب الأروع من كريم العراقي
كرم نعمة| كاتب عراقي مقيم في لندن
لم يجد كريم العراقي وكاظم السعدي غير منزل صديقهما المطرب قحطان العطار في حي الكيلاني في الباب الشرقي والقريب نسبيا من مبنى الإذاعة والتلفزيون ليلتقيا فيه في سبعينات القرن الماضي، من أجل مشروع أغنية! ومن سوء حظ قحطان لم يغن لهما بينما كانت أغانيهما بصوت كبار مطربي العراق آنذاك.
قبل أسابيع رحل كاظم عندما خذلته القصائد والحياة برمتها، وهذا الأسبوع لوّح لنا كريم بعد أن هدَّت جسده القصائد قبل المرض، بينما يكتفي قحطان العطار من مغتربهِ الدنماركي بالمراقبة والصمت وسط خيبة تكتنفه منذ عقود!
كان رحيل كريم بمثابة استذكار للأغنية العراقية من قبل الجمهور العربي، فكريم بالنسبة إلى هذا الجمهور هو الجزء المخلص والمعبّر عن أغاني الفنان كاظم الساهر. لكن من سوء حظ هذه الأغنية لم يُعد اكتشاف الجانب الأروع في تجربة كريم، ولو تسنى لأيّ من محبي هذا الشاعر الاستماع مثلا لأغنية الطفولة “يا شميسه” التي كتبها عام 1974 ولحنها الفنان خزعل مهدي لصوت مي أكرم، لأكتشف القدرة الشعرية المتدفقة في نصوص العراقي.
وتكاد أغنية “دمعة وكحل” من بين أوائل الأغاني التي عرف الجمهور بها سعدون جابر ولحنها بتساؤل تعبيري الفنان محسن فرحان. بينما عرف الجمهور العربي سعدون جابر أكثر في ترنيمة “أمي” التي كتبها كريم وهذه المرة على المزاج اللحني الفخم لعميد الغناء العراقي الموسيقار عباس جميل. فبقيت تلك الأغنية المعبر الأمثل عن سعدون وكريم معا.
كان فؤاد سالم يعرّف نفسه في زمن ما بأغنية “عمي يا بومركب” التي كتبها كريم ولحنها الفنان طالب غالي، وعندما أراد حسين نعمة أن يعيد اكتشاف صوته من جديد بعد زمن موجع مفعم بالأسى في ألحان محمد جواد أموري ومحسن فرحان، كان عليه أن يجد نصوصا جديدة، وكان كريم جديرا بها آنذاك، وسجل شريطا غنائيا كاملا اجتمع فيه كريم مع ألحان الموسيقار جعفر الخفاف ليقدما حسين بغناء غير معهود.
وبينما كان حسين نعمة يعوّل على أغنية “شكد صار أعرفك” في ذلك الشريط، وهو نص غنائي مبتكر في دلالته، تفاجأ بتفاعل الجمهور أكثر مع أغنية “تحياتي” التي لا تقل روعة، وأصبحت تلك الأغنية فاصلة تعريفية بحسين على مدار عقد كامل وبلمسة شعرية من كريم، بينما بقيت الأغنية الأخرى تبحث عمّن يقدّر قيمتها!
عندما أراد حسين نعمة العودة من جديد عام 1991 لم يجد غير نص كريم العراقي “بعدد ما لامت العذال” الذي لحنه الفنان علي سرحان (انبهرت به لاحقا الفنانة رباب وأعادت غناءه).
كريم العراقي الذي توّجهُ العرب شاعرا لسفير الأغنية العراقية كاظم الساهر، أحد أهم مؤرخي الأغنية العراقية منذ سبعينات القرن الماضي، ولسوء حظ هذه الأغنية لم تصل مثلما أوصلها لاحقا الفنان كاظم للجمهور العربي.
وحتى في السنين الأخيرة لم تكن تقتصر نصوصه على ألحان الساهر (غنى له أكثر من 40 أغنية) بل كان يستعيد مجدا تعبيريا في نصوصه، ذلك ما مثلته أغنية “تاليها إلي” التي لحنها علي سرحان للثنائي فاضل وفوزية، وهو نص متدفق بالأمل والمكابرة على كل أوجاع الحياة، استلهم سرحان فيه روح المفردات وفي انسياب لحني يضاف إلى قلادة الأغاني الفضية.
عندما استاء صديقي كريم من مقالي عن أغنيته “دلوعتي” لكاظم الساهر المنشور في هذه الزاوية عام 2018، كان يعاتبني على ألا أبقى في التاريخ وحده، فالمزاج والذائقة متغيران. قلت له التاريخ الشخصي ليس تهمة. قال صحيح لكن الحاضر أبقى وأهم!
رحل صديقي أبوضفاف بعد أن قطع مقال واحد التواصل بيننا، بينما لم أتوقف عن تريد ترنيمته المعبرة كلما استذكرت أيامنا معا ووجهه الطفولي، بصوت حسين نعمة “تحياتي لك وين أنت موجود”.