بقلم الأديبة: وداد معروف
رواية تريستا هي الرواية الأولى للشاعر العمودي المهندس منتصر ثروت القاضي, صدرت عن دار الفاروق عام 2022, تقع الرواية في 231 صفحة, في البداية تساءلت ما تريستا؟
فأنا من الناس الذين لا يتقبلون أسماء الروايات الأعجمية, فنحن نكتب أدبا عربيا ومن الطبيعي أن تكون الأسماء والعناوين عربية, وبعد أن شرعت في قراءة الرواية؛ جاءتني الإجابة: فتريستا هي مدينة إيطالية كانت مسرحا لبداية الأحداث وختامها أيضا, الرواية تبدأ مع الطفل الأسمر ذي الملامح الخشنة والذي لم يصرح الكاتب باسمه إلا في جزء متأخر من الرواية، من خلال الرسالة التي أرسلها الابن سمير لحنان، فالطفل هو الأب أبو المجد، ذاك الذي دائما ما يسخر منه زملاؤه, رغم تفوقه وتميزه, هذه السخرية التي أكسبته طبيعة خاصة, (الانزواء والعزلة وعدم تصدر المشهد), واحدة فقط من زملائه التي قالت له عبارات مشجعة وداعمة, وحدها نسمة البيضاء الجميلة التي قالت له: “لا تكترث لهم فهم جميعا يغارون منك بسبب ذكائك وتفوقك”, فجاءت كلماتها كما وصفها الأديب الشاعر “كقطرات الندى التي أسقطتها يد الرحمن من أعين السماء لتغسل قلبه من أدران الهم والأسى”، فالكلمة الطيبة لا تُنسى، والدعم الذي يجده الطفل من شخص رق له، لا ينساه ما طالت الحياة.
كانت هذه البداية، لكن الرواية حبلى بالأحداث والتحولات، وتأثير الماضي على الحاضر, فبطل الرواية سمير أخصائي التحاليل الطبية، يعيش مع والده وحده, ذلك الوالد الذي بدأت به الرواية؛ وبطفولته الحزينة، وبذكرياته مع زميلته نسمة التي جبرت كسره وهو صغير، وظل يبحث عنها، ولكن باعدت بينهما الأيام، عاش الابن سمير طفولة بائسة أيضا، لم يتصالح مع الحياة إلا بعد أن وضعت الظروف أمامه الطبيبة حنان، التي تعمل في مجال العلاج بالإشعاع, وتعد نفسها للحصول على الماجستير, كان والده سببا للتعارف بينهما, فقد شك والده في ورم خبيث في جسده، فكانت هي الطبيبة التي تولت الكشف عليه وأجرت له المسح الذري.
قصة الحب في الرواية ليست هي الخيط الأساسي، بقدر ما كانت العلاقات الاجتماعية وتعقيداتها هي القضايا الكامنة خلف السطح الهادئ, في الهامش كانت قصة الحب لكن المتن كان سرا يخفيه الأب والابن عن الناس, المتن قصة الأم مع والده, اختلال ثقة المرء بنفسه التي تصل به إلى خراب بيته وتطليق المرأة التي آمنت به وفضلته على كل من تمناها زوجة له.
حينما تؤثر الهواجس والظنون على الجسم فتهزمه في لحظات كان الانتصار فيها فرضا واجبا, كانت تريستا مدينة مهد تعميق التعارف بين سمير وحنان, نمت فيها بذرة الحب بينهما, تلك المدينة التي كانت وجهتهما، فيها المركز الدولي للفيزياء النظرية, فقد جمعتهما الصدفة في الطائرة ثم جمعتهما طبيعة التخصص، فالعلاج بالإشعاع والتحضير للماجستير في العلاج الإشعاعي هو تخصص حنان.
أما سمير فالدورة لها علاقة بنقطة البحث التي اختارها لرسالته للدكتوراه, وستجمعهما دورة تدريبية عنوانها (استخدام تقنية اصطياد النيوترات بالبورون في علاج الأورام) فكانت الإقامة في تلك المدينة، التي يرقد فيها البحر في حضن الجبال الخضراء, والسماء التي تعانقهما معا, والتي تناثرت مصابيحها الربانية كحبات اللؤلؤ, هذه هي تريستا التي وصفها الأديب الشاعر ثروت القاضي, أشعرنا أننا معه نطل من الشرفة على تلك القوارب جهة اليسار التي كاد البحر أن يختفي تحتها.
في المطاعم والكافيهات وفي الفندق وقاعة المؤتمرات كانت عين القارئ معهما في تلك الأماكن, ثم أخذت الرواية واقعها المؤلم حين فكر سمير جديا في الارتباط بحنان, فقد ألزم نفسه بحكي الأسرار التي لم يكن في إخفائها خديعة للعروس القادمة, فهي ليست في عرضه ولا في عجز خفي، عليه أن يطلعها عليه قبل الزواج, كما أن أخته أيضا لم تكن ملزمة بالكشف عن هذا السر لشريف خطيبها, ربما لأنه أراد أن يبني علاقتهما على الوضوح والمكاشفة.
كانت هذه الرسالة التي نسجها لها رواية مكتوبة لتعرف ما لا تعرفه عن أسرته, فشريف بطل الرواية يعد للدكتوراه، وهو أيضا أديب وكاتب للقصة القصيرة, له كتابات يستعد لطباعتها.
تنوعت القضايا التي ناقشتها الرواية, التنمية البشرية ومنازعتها لعلم النفس, استخدام الحبيبين لمواقع التواصل الاجتماعي -الواتس والماسينجر-, فقد كان الماسينجر هو الوسيلة التي استخدمها سمير للوصول لحنان بعد أن تاهت في شوارع تريستا, استغلال الدورات التدريبية العلمية للراغبين في السياحة كما حدث مع شريف, تناولت الرواية أيضا قضية فلسطين من خلال سهيلة الفتاة الفلسطينية التي شاركتهم الدورة.
كانت ثقافة الكاتب الدينية واضحة في سلوكيات بطلي الرواية, فصلاة الفجر والتمسك بالقيم الإسلامية تجدها من أول الرواية حتى آخرها, كما كانت لغة الكاتب بها شاعرية واضحة خاصة حين يصف الأماكن والمشاعر, في ص76 يذكر قصيدة الجندول لعلي محمود طه، وغناء عبد الوهاب لها, ويدندن سمير وهو يتذكر على محمود طه وهو يكتب هذه الرواية في نفس المكان فيقول: آه لو كنت معي نختال عبره // بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبرة // حلم ليل من ليالي كليوباترة
اصطحب الكاتب قارئه معه في تلك الأماكن الجميلة، في ميدان النافورة وفينيسيا وبرونا والفاتيكان وجسر التنهدات وفي مطاعم البيتزا والساحات ومع الرسامين وعلى الشواطئ, رحلة سياحية من خلال الحرف أجادها الكاتب, كما أجاد أن يعرض قضيته التي مثلت متن الرواية الحقيقي, وكانت نهاية الرواية كبدايتها في مدينة تريستا, فهي مدينة أحبها بطلا الرواية وأرادا أن يستعيدا بكارة مشاعرهما مرة أخرى فيها، ولكن بعد أن تجلى المتن كاملا.
قد يكون الكاتب أسرف كثيرا في الحديث عن قصة الحب بين سمير وحنان، والتي استغرقت جزءا كبيرا من الرواية قبل أن يدلف إلى موضوع الرواية الأهم، وقد أخبرته بذلك، لكنه ربما أرضى رومانسيته ورومانسية بعض القراء الذين يبحثون عن قصص الحب، قد نجد البطل سمير له من صفات الكاتب الجانب الأدبي ككاتب رواية، وأيضا الجانب العلمي، فالكاتب منتصر ثروت القاضي لمن لا يعرف متخصص في المفاعلات النووية، ويعمل في المفاعل النووي بإنشاص، ويعد للدكتوراه كبطل روايته أيضا في الهندسة الميكانيكية للمفاعلات النووية، وهنا يجتمع العلم مع الأدب، لذلك نجد أن عقدة الرواية الأساسية هي علمية من الطراز الأول، وننرك توضيحها من خلال دعوة القراء لقراءة هذه الرواية.
في النهاية أقول لكاتبنا المبدع، الذي قدم لنا رواية محتشدة بالموضوعات، ونوَّع في تقنيات السرد، إن الرواية ليست حكرا على الأدباء وأهل السرد، ولكن قد يكتبها الشعراء ويبرعوا فيها أيضا.