أدب

قراءة في كتاب (شعر رشيد مجيد) للناقد أ.د مصطفى لطيف عارف

مراجعة: د. حسن البصام

     صدر للقاص والناقد الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف، أستاذ النقد الحديث، كتابه الجديد (شعر رشيد مجيد دراسة وتحقيق)، وهو المهتم بالمنجز الإبداعي السردي والشعري المعاصر، من المتابعين للإصدارات الأدبية داخل العراق وخارجه واصدر العديد من الدراسات والكتب النقدية الأكاديمية معتمدا المناهج الحديثة في تطبيقاته، مما أسهم إسهاما فاعلا في أغناء الساحة الأدبية التي عجزت الطاقة النقدية في الوقت الحاضر عن مجاراة ومتابعة التحولات الإبداعية الحديثة، وربما ينسحب هذا الرأي على الساحة الثقافية العربية، بعد انفتاح آفاق النشر وإصدار المطبوعات المختلفة ..فقد تصدى المؤلف إلى رصد العديد من التجارب الحديثة وبذل الجهود المثمرة في دراسة وتحليل النصوص وتفكيكها، وفق أنماط ومناهج الدراسات العلمية سواء كان على مستوى المضمون أو الشكل، مهتما بالدلالات وإظهار المعنى واستخلاص التناص أو التضاد، محللا عناصر النص ..ويميل في كثير من تطبيقاته  النقدية إلى التحليل البنيوي الذي يعتمد نظامه على مجموعة من العلاقات في النص إي أن النص لا يكتمل ان لم يبنى على ركائز متعددة من العلاقات المترابطة بينها، وإن اختلفت العناصر أو تشابهت أو تشاكلت، ويهتم بدراسة أو تحليل الوصف الداخلي للنص، وتحليل الخطاب،إي دراسة الجملة أو اللغة ، وأحيانا يتجاوز اللغة أو الجملة باتجاه تحليل النص.

  وأعتقد أن هذا الإصدار مهم جدا لعدة أسباب من أهمها ؛ تحليله نصوص الشاعر رشيد مجيد عبر مستويات بنيوية متفاوتة من خلال الدلالات الصرفية أو النحوية والبلاغية وكذلك التناص، وكل ما يظهر من دلالات تسهم في تحليل النص أو تفكيكه ..والسبب الآخر ان الأهمية تكمن في مظلومية الشاعر الراحل ، ونأي النقاد عن جادة إبداعه..وقد اصطحبت يوما ما ؛اثناء حياة الشاعر  (في داره الواقعة قرب الكراج القديم في الناصرية) احد الباحثين للكتابة الأكاديمية عن منجزه الشعري، فتعثرت خطة مسيرة الباحث، لعدم وجود بحوث منشورة يمكن الاعتماد عليها كمصادر للبحث.وشعرت بالمرارة منذ ذلك التاريخ وقد أسعدني جدا هذا الكتاب المهم الذي أنصف الناقد فيه الشاعر إنصافا قديرا وان كان بعد رحيل الشاعر. والسبب الثالث ان الأستاذ الدكتور مصطفى المؤلف قد ركز على حداثة إبداع الشاعر رشيد مجيد باعتباره من رواد القصيدة الحديثة في العراق ..وقد تضمن الكتاب استفاضة واسعة تكاد تنطمر؛ لولا توثيقها من قبل الأستاذ الدكتور العارف،من فيوضات حياة الشاعر الخاصة وأفكاره ومبادئه ومعتقداته وطموحاته انتكاساته وتحديه اشراقاته وانطفاءاته ، لم يترك الكتاب زاوية إلا سلط عليها إضاءة ساطعة . وأصبح مرجعا متكاملا لكل باحث أو مطلع أو مهتم مستعينا بتجربته العميقة وأدواته المتكاملة في البحث والتقصي والدراسة والتدوين والتوثيق.

    حيث تناول الكتاب في مدخله مدينة الناصرية تناولا ثقافيا واسعا..ومن ثم خصص الفصل الأول لحياة الشاعر، مدونا أدق تفاصيلها من ولادة ووفاة وصفات وعلاقات ومبادئ وكذلك رأي الآخرين بالشاعر من مجايليه ومعاصريه وقارئيه..

  وفي الفصل الثاني تحول باتجاه شعرية النصوص والمؤثرات فيها كالمرأة والمكان والزمان والدين والوطن والحرب والسجن والعوز والمرض وغيرها.وتناول الفصل الثالث جوهر الدراسة ، وقد قسم إبعادها إلى مباحث أربعة (اللغة والألفاظ/ الموسيقى الأوزان والقوافي/ الصورة والأساليب البلاغية/ الرمز والأسطورة والقناع).وقد ذكر المؤلف أن “رشيد مجيد اسم مغمور وسط سحب النسيان ،يشكو الألم والضياع في عالم لا يفهم ،ومعاناته الشاقة تتحدث عنها الأيام”.”لينتقل بعدها إلى الصف الثاني (المتوسط) غير انه لم يفلح في متابعة طريق العلم ،لأن السلطة الملكية قد اعتقلته في تلك الفترة”” ص 19يقول الشاعر”ان أول قصيدة نظمتها وأنا طالب في الصف الثاني متوسط ،وقد نشرت في مجلة (الغري) النجفية ومطلعها (تلعب الآمال دورا في العقول)”ص20

   عاش الشاعر خيبات متوالية بين اعتقاله ونمو الشعر في وجدانه نموا مطردا، وبين إصابته بالجدري وترك أثاره على وجهه الأبيض المستدير ذي العينين الكبيرتين البارزتين (الجاحظتين).وبين تعثر عشق ليلى التي يحبها من طرف واحد، وبين إصابته بالصمم الذي نال هذا المرض وقعا سلبيا كبيرا ومؤثرا في حياته الاجتماعية عامة والنفسية والعاطفية خاصة.

يقول عنه الناقد الدكتور مصطفى لطيف عارف: “اتصف رشيد مجيد بصفات من أهمها : هدوء الطبع, وسرعة الانفعال, ورقة المشاعر, بالنفس الشعري الطويل, كما اتسم بنرجسية, وحب ذات واضحة من خلال شعره, فهو أحب لغته , وأجاد في صياغة بعض مفردات قصائده الشعرية, وكان لا يصغي لشعراء آخرين, ومن الجدير بالذكر أن خلفيته الثقافية اقتصرت على معلومات شعره دون روافد أخرى, وفي طفولته كان انطوائيا يتأمل الفرات طويلا, ويكتب المقاطع, والقصائد الشعرية المعبرة عن تجاربه, وعانى من ظلم واضطهاد وقسوة.. وبعد فترة من الزمن أصيب الشاعر رشيد مجيد بمرض الصمم , مما أدى به إلى تدهور حياته من جميع النواحي النفسية, والعاطفية, والاجتماعية , فنراه يقول:

معذرة ان لم أكن أسمعكم

من أغلقت يداه بابي

أغلقت سمعي

فلا اعيي سوى حشرجتي

ورنة الحزن

وما ينفث قلبي في فمي

تزحف عيناي إلى شفاهكم ص24

     فقد كانت (ليلى) تتعاطف معه لإصابته بالجدري ولكنه هام بها.”وسواء أكان هذا الحب قد تخيله الشاعر جريا وراء آثار شاعر حالم قراه،أم وقع فعلا فإننا وجدناه يناجي فتاته (ليلى)التي يقول فيها:

“((ليلاي)) أغنيتي الحزينة

في فمي وترنمي

يا أفق أحلام يطوف

وراء تلك الأنجم

يا ليل أوهام ,

وفجر مسرة وتبسم

يا سحر أمسية ,

وفي أفق بغير تجهم

شيئان يختلجان في

قلبي الحزين المفعم

عيناك والصمت الذي

يغرى ولم يتكلم”ص22

    ويقول عنه الناقد الدكتور مصطفى العارف “ويتسم الشاعر رشيد مجيد بأسلوب جميل رقيق امتاز بالابتكار, والإبداع, فقد نفض عن يده غبار القديم , وحمل بيده مشعل التجديد الفكري والأدبي في المدينة, فهو رقيق المعاني,رشيق الألفاظ, ولشعره جرس وموسيقى يطرب السامع.”

    وكذلك يقول “ولعل من أهم الأدلة على حسه السياسي ما قاله الشاعر رشيد مجيد في حديثه الصحفي بقوله:كنت حينها طالبا في الصف الثالث المتوسط ،كما كان لنا من الحماس الوطني والنضال ضد الملكية والاستعمار ،واحتلال فلسطين ما جعل قصائدنا الوسائل التي تعبر عن غضبنا ،وتعبئ الجماهير للوقوف بوجه الطغاة ، بعد هذا بدأ شملنا بالتبدد فقد ابعد من ابعد وسجن من سجن وتشرد آخرون”

وله ستة دواوين مطبوعة: (بوابة النسيان –وجه بلا هوية- الليل وإحداق الموتى- العودة إلى الطين-لا كما تغرق المدن-يحترق النجم ولكن) كما له عدد كبير من الدواوين المخطوطة قاربت الـ 27 ديوانا .

    كما تطرق الناقد مصطفى العارف في كتابه هذا إلى “رشيد مجيد في نظر الآخرين ” وهذا العنوان من أهم ما يمكن ان يترجم مكانة الشاعر الأدبية والاجتماعية، لأنها المرآة الحقيقية لصداه، والحاضنة التي تنمي وتسمو بعطائه يقول الناقد “فحميد المطبعي صاحب موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين يقول: بأن شعر رشيد مجيد يحمل مضمونا نقديا إزاء واقعه الاجتماعي المتخلف”. لكن الناقد الدكتور مصطفى يقول “ان حميد المطبعي لم يكن صائبا في رأيه لأنه يقول ان شعر الشاعر يحمل مضمونا نقديا ،نعم هذا صحيح ولكنه ليس لواقع اجتماعي متخلف، وإنما لواقع اجتماعي متقدم حضاريا ،والشاعر ابن البيئة الجنوبية التي أنجبت الشعراء الكبار وشاعرنا منهم ،فكيف يكون واقعه متخلفا وهو يكتب شعرا نقديا لواقعا حضاريا راقيا”ص40

     ويقول الشاعر عبد الأمير معلة”بأن الشاعر رشيد مجيد: هو الذاكرة التي تحولت إلى مستوطنة لأعماق تاريخ هذه المدينة وعروق حضارتها ووتر من أوتار ثقافتها الحضارية في قلب العراق العظيم” وهذا الرأي استشهد به الناقد مصطفى العارف قائلا “نقول ان الشاعر عبد الأمير معلة أعطانا رأيا واضحا ومناقضا للرأي السابق لأنه قال عن شاعرنا هو ذاكرة المدينة وقمة حضارتها ،وثقافتها فكيف يكون واقعه الاجتماعي متخلفا” ص 40 ويقول الدكتور رياض شنته “إن فن رشيد مجيد يرسل إشعاعات محاوره الرئيسة المرأة،المدينة، الشعر، من الناصرية المحلية إلى أفاق العالم القصية العالمية …”ص41 ويقول الأديب داود سلملن الشويلي ” يشكل الشاعر رشيد مجيد ظاهرة شعرية فريدة من نوعها فهو شاعر بعيد عن الأضواء الإعلامية خاصة في السنوات الأخيرة رغم غزارة نتاجه الشعري كذلك فان روح الشباب التي يعيشها شعرا وحياة مازالت متوهجة متألقة رغم ما يعانيه من مرض القلب ” ص41 ويقول عنه الناقد الدكتور مصطفى لطيف عارف” ان الشاعر رشيد مجيد : كان شاعرا كبيرا متمكنا من شعره ،ونظم الشعر في اغلب الموضوعات الشعرية بطريقة فطرية حتى انه لا يعرف الأوزان الشعرية ، فضلا عن كونه كان خجولا في إلقاء قصائده الشعرية أمام الجمهور “ص44 وكذلك يقول الناقد مصطفى العارف ” بان الشاعر رشيد مجيد شاعر مرهف الإحساس، ويمتلك الموهبة والقدرة الشعرية والأسلوب الجميل على صياغة الشعر وتجميله وهو في الوقت نفسه شاعر التجربة الشعرية الحية ،والعواطف الجياشة والذي أفنى عمره في حب الوطن والمدينة والحبيبة” ص48 وهذا الرأي هو من الآراء المهمة جدا  والتي تدل على موهبة الشاعر الكبيرة والمتجددة ، باعتمادها على روح الشاعر المحلقة في سماوات الشعر دون الاتكاء على عصا الوزن أو الإعلام وغيرها ..فهو شاعر بالفطرة وشاعر صقلته الظروف وأنجبته أرحام الوقائع المرة والمتغيرة والمتقلبة ..وتطرق الناقد الدكتور مصطفى العارف في كتابه هذا إلى موضوعاته الشعرية:(الحب والمرأة/ شعر المدينة/ الشعر الديني/ الشعر الوطني/ شعر الرثاء/ شعر الحرب) وقد أفاض الناقد في تغطية هذه المواضيع المؤثرة في حياة الشاعر وشعره ، وقد أطلق على بعضها بمرحلة الارتباط الروحي.. وكذلك مرحلة الهجرة الأبدية.. وشعر المدينة.

     ويقيم الناقد مصطفى العارف تجربة الشاعر بقوله”إن شاعرنا لا يتكلف القول في ألفاظه،وتراكيبه اللغوية، وإنما يجعل لغته تنطلق وهي خالية من الغموض،والتعقيد وإنما تأتي لغته على سجيته،وما يميله عليه انفعاله ،وبمعنى آخر ان شاعرنا لا يلجا إلى اختيار الألفاظ الفخمة،أو الجميلة وإنما تأتي بحسب ما تمليه عليه فطرته الشعرية”ص 129

   ومن أراء الناقد مصطفى العارف المهمة جدا في الشاعر رشيد مجيد قوله: (رشيد مجيد شاعر فطري أنجبته تجربة ضخمة ترك مقاعد الدراسة واتجه مصوراً فوتوغرافياً يتجول ما بين مفاتن وإسرار طبيعة جنوب العراق، فامتهنها ردحاً من الزمن، كتب أول قصيدة له في مطلع الأربعينيات إذ مجالس الأصدقاء، ومقاهي الأزقة، وهموم الصبا الحالمة بحياة أفضل، وهي تلك المدة كانت تنشر معالم القصيدة الدينية وقصائد ضيقة الانتشار في المدينة لبعض أصحاب المكتبات والمعنيين، وكان يقرا لشعراء عرب قصائد في الغزل، وكان يحبذها مع ما ينسجم من هاجس رشيد مجيد الخاص، إذ نمى في داخله كائن الشعر، وفي بداية الأربعينيات وكان ذلك صدفة لم يتعمده غير انه وجد نفسه كتب مقطوعة شعرية مما يجول في خاطره، نشرت في مجلة (الغري) آنذاك مما دفع الشاعر لان يتناول آراءه وهواجسه، بصوره الشعرية، وهكذا كانت بداية الشاعر بداية عفوية).

    وكتب الناقد الأستاذ داود سلمان الشويلي مقالا عن القصيدة الملمعة قال فيه: (هذا النوع من الشعر بتقسيم القصيدة إلى قسمين، قسم يكتب باللغة العربية الفصحى، والقسم الثاني باللهجة العامية ، هذا النوع من الشعر أول من كتب فيه الشاعر العراقي القدير المرحوم رشيد مجيد، ابن مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، المدينة المبدعة التي رفدت الحركة الفكرية والثقافية والفنية والسياسية في العراق برجال كثيرين.

    الشاعر رشيد مجيد – ودون أن نبخس الشاعر الخالدي حقه الإبداعي – هو صاحب أول قصيدة كتبت بهذا النوع من الشعر حسب علمي). وقال الدكتور مصطفى لطيف عارف: (تحتلُّ الأفكار والقيم الدينية والإسلامية، دوراً كبيراً في ثقافة الشَّاعر العراقي رشيد مجيد بشكلٍ عام، وتعكس غلبةَ السِّمة الإسلامية التي تتسق مع نظرة الشاعر، وقناعتهِ المستمَدة من الأيديولوجيا الدينية وعقيدتهِ الإسلامية التي ينتسب إليها، ويُمثِّل التأثُّر بالقرآن الكريم أولَ مظاهر التأثُّر الديني، كما تبرز إشارات كثيرة أيضاً إلى الذات المقدسة، إذ يجد فيها الشَّاعر مجالاً لاستحياء فكريٍّ وفنِّي بما تثيرهُ في النفس من مشاعر إنسانيةٍ تتسع لتجسيد نظرة الشاعر، فهو يستلهم منها الدروسَ لرفض الواقع والسعي إلى إعادة بنائه على أُسٍّ أخلاقيٍّ جديدٍ، ونراه يقدس الذات الإلهية، ويرى أنها السر كله، وان البشر مهما أوتوا من العلم لن يتوصلوا إلا إلى النزر اليسير).

   وتحدث عن تجربته الروائي والقاص نعيم عبد مهلهل: (ولد على أديم سومر ونعومة الطين والظلال الممتدة من أور إلى ليل الناصرية ، شاعر مكتمل الحس في نضوج موهبته ،ويقرأ الشعر بصوت رخيم يشبه موسيقى أدعية الكهنة وقد يرتجله أو يكتبه بخط جميل من قلمه الباركر وحبره الأسود المعتم بشيء خفي من دلالات حزن جعلها رشيد مجيد إيقونة بوح لكل القصائد السومرية التي ميزته بهذا الأداء السحري والخصوصية التي حول فيها الطين إلى مراث ومسلات ورقماً أثرية.. عاش في موهبتين مبكرتين ناضجتين هما فن التصوير وكتابة الشعر، لكنه في النهاية هجر الأستوديو الذي كان يسمى الأندلس والقريب من مقهى التجار في شارع الجمهورية واتجه إلى الوظيفة في الإدارة المحلية والمكتبة العامة واخلد ما تبقى في حياته إلى نظم الشعر) .

وفي الأخير استطاع الباحث أ.دمصطفى العارف أن يجسد اجتهاده وبراعته وجهده وخبرته، في هذا الكتاب ، ليكون منجزا إبداعيا أكاديميا رصينا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى