أدب

خـــبر عاجـــل !!

قصة قصيرة

الفنان التشكيلي عبدالهادي شلا | كندا

على الأريكة الأقرب إلى باب البيت بجسده المـُتعـَب… ألقـَى،وبصعوبة بالغة واحدة من فــَردتي حـِـذائه…خـَــلَع
مــَـدَّ سـَـاقيه إلى أقصى مكان حتى خُــيـِّـلَ إليه أنهمـُـا لامســَـتا الجِــدار المُقابل في أقصى الصالة ..
يومٌ شـــَاقٌ بحــَق ٍ، فالعـَمل ما توقـَّـف منذ وطَـأت قـَـدمَـيَّ المكتب..حــَـدَّثَ نفســَهُ ، بينمــا صـوته إلى داخله يرتـَـد وكأن شــَيئًا ما سـَــحبه..وما أكمل خـَلع حذائه ، حــركته تمامـًـا سَــكَـنت ، صــَـمتٌ .. نَـــامَ .
صوت الهاتف النقال ،نغمة هو منذ يومين اختارهــا ..ضعيفـًا تصاعَــد شيئـًا فشيئـًا تـَـرَدَّدَ.. وبيده الكسولة التقطــَهُ :
آآآآلــلــــــ و ؟
– ضحكة تـَردَّدَ صداها في الصالة ملأت مساحة الهاتف..هل أنت نائِــم؟
– نـَـــ .. عـَــ .. ـم . من المُتحــَدث ؟
-عُـــد إلى نومِــك.. وضحكة ٌ أُخرى أكثر سُــخرية أنهَــتْ الحوار الذي ما صَــــار…
بحركة كسولة وجسم مثقل بتعب يوم كامل اســتطلع في هاتفه الرقم المُتصل…
الشاشة لونها أحمر وعبارة.. “خـَـبرٌ عاجــِلٌ ” بلون أبيض فاقع جعلته يفرك عينية ليتيَقن ممــا رأى.
مرة أُخرى أعَــاد النظر..لا شَــيءَ رأى.!!
وشوشة جهاز التلفاز الذي فتحة بمجــرد أن دلَـف إلى البيت،وقبل أن يُـلقي بجسده المـُتعـَــب على الأريكة إخـــترقت صَـمت المكان ، بينما رويــداً رويـــداً يــَدُ النوم ســحبته إلى حيث تكــَوم على الأريكة و صوت شخيره الخفيض مثل آنين أفلت من بين كلمات مبهمة صدرت منه ما استطاع تمييزهــَا أو تَذكـُرهــَــا.


وشوشة جهاز التلفاز مساحتها اتسعت وترددت في كل الحجرات بينما هو جُـثة ٌ هامــِدةٌ.
متثاقل في اعتداله على الأريكة التي غاص فيها ..فتح عينية يستطلع بينما فلتت ابتسامة صغيرة منه حين فَــردةَ حذاء قدمة اليسرى رأى أنها مازالت عالقة في قدمه.
رباه ما هذا؟
شاشة التلفاز حــَمراء .. “خـَـبرٌ عاجــِلٌ ” باللون الأبيض الفاقع !!
إلى هاتفه النقال.. نظــَـر .
شاشة الكاشف … حمراء.. “خـَـبرٌ عاجــِلٌ ” باللون الأبيض الفاقع!!؟؟
التعب امتص كل قوته،إلى الجانب الآخر في تكومه على الأريكة..انقلب…كاد على الأرض أن يســقُط .
***
– صباح الخير.. سمعها وهو مُنكــَبٌ على أوراق يتـَفحـَـصَها، رأسه رفَــع.. وما نطــَق!
– صباح الخير سَــيدتي ..!
– حضرتك السيد” مُحسن” المحامي؟
– نعم .. بماذا أخدمك سيدتي .. “الجميلة” كادت تفلت منه ..أردفَ .
– هذه أوراق قضيتي كاملة سأتركها لك لدراستها وسأعاود الإتصال بك بعد أيام لتُعطيني رأيك فيها و، .. موافقتك على الترافع نيابة عني ..
جــَازمة ً قالتهَـــا .
وسط ذُهـــولهِ وتعجبه من جرأتهــا..تركته وخلفها ما التَفـَتَتْ.
– سـَــ … يــــــِّـ .. دَتي ! عليها نـــَادى، وما التفتت .!
أوراق القضية التي شغلته الأيام الماضية تـَـرك،وفي الملف الذي القته هذه السيدة الغريبة على مكتبه.. نظــر وتصــفح .
طَـــلب طَـــلاق بائن!!
في أعلى أول ورقة من أوراق القضية قـــَرأ هذه العبارة باللون الأحمر . وتــَابع.

***
سيدي القاضي..حضرات المُستشارين لعلنا أمام قضية غريبةعلى هيئتكم الموقرة ولعلها فَــريدة أو نَــادرة.
سيدة جميلة مثل مُوكلتي السيدة “مديحة بنت …” تطلب الطَلاق البائن من زوجها الثري الذائع الصيت بعد عِـشــَرةٍ زوجيةٍ فاقت الأربعة عشر عاما لأسباب رفضت البوح عنها حتى لي أنا مُوَكِلَها والمُترافع عنها،وأعِـدَكُم بأنني سأحاول استطلاع الأمر مرة ومرات حتى أستكمل جوانب القضية وأتمكن من المرافعة الصحيحة عنها لذلك ، سيدي القاضي والسادة المستشارين أرجو التكرم بتأجيل النظر في القضية عِــدةَ أيـــــامٍ .. وشُـــكراً.
رُفِـعــَت الجلسة على أن يُـعاد النظر في القضية المرفوعة من السيدة “مديحة بنت …” يوم السادس عشر من يناير القادم في تمام الساعة الحادية عشر صباحا.
إلى جانبه الأيمن حاول الإنقلاب وهو في مكانه على الأريكة في الصالة الكبيرة وبرودة تسللت إلى جسده المتعب بعد أن جَـفَّ عَــرَقـَهُ .
منه نظرة كسولة على هاتفه وقعـَــت.. إشارة ضوئية أن رسالة قد وصلته فمد يده فإذا الشاشة غارقة في لون أحمر و.. “خـَـبرٌ عاجــِلٌ ” بلون أبيض فاقع!!
نهض من مكانه فَـزِعـــًا إلى جهاز التلفاز تلفت ليجد نفس اللَّــون و نفس العبــــارة.
من مكانه قام ،ومن التلفاز..إقترب.. جهاز محرك القنوات تناول ، بينها تَنَقـَّلَ و لما رأى أن كل القنوات يغطيها اللون الأحمر و.. “خـَـبرٌ عاجــِلٌ ” باللون الأبيض الفاقع .. مرة أخرى فــَــزع.
لابد أن الحرب العالمية الثالثة قد قامت ،أو أن ســــور الصين العظيم بفعل عمل إرهابي كالعــادة .. ســـَقط ،أو ربما فلسطين .. تحــررت ، أو عقلي من نومي على الأريكة اللعينة قد ذهَـــب.. بسُـــخريةٍ عــَلــَّق .
أخذ جُــرعة ماء من قــارورةٍ بجانبه وعلى الأريكة نفسها مثل قـِطٍ كــَبيرٍ يسترقُ السمع لسكون البيت وصَــمتهِ المخيف ..تَكـــَوَّم.
بنفس الرعشة والإحساس بالنسيم البارد على جسده المتعب… شَـــعَــرَ.
حاجته إلى النوم كانت أقوى من أن يقوم ليغلق النافذة التي تسَـــرب منها النسيم البارد …
***
سيدي القاضي..حضرات المستشارين إن هذه القضية كما أخبرتكم في الجلسة الماضية ذات خصوصية جعلتني بعد محاولاتي العديدة مع موكلتي ثنيها عن طلب الطلاق ،أجد نفسي في صفها وأدافع عنها في نفس الوقت الذي أنا عاجِــزٌ عن تفسير حيثيات القضية التي قد لا تستطيع محكمتكم الموقرة أن تفعل شيئا حيالها بقوانينها الشرعية أو المَـدنية.!!
-أستاذ “مُحسن” أكــْمـِل من فضلك..القاضي !!
سَــيدي.. إن مُوكِلَتي سَــيدةٌ حافظت على بيتها سنوات طويلة ولحكمة لا زلنــا نجهلها حـُــر ِمــَت الذُرية من زوجها الرجل الطيب الذي ما أشعرها بعجزها عن الإنجاب وما ادخر جُـهدًا في عرضها على الأطباء وما كان يُـعنيه أمرالأنجاب بقدر ما كان يريد أن يراهــا سعيدة.
إلا أن السيدة العاجــِزة أمام كل عطاياه ومحبته تصرعلى طلبها وتريد الطلاق البائن الذي لا رجعة فيه ،أو أنها تقديراً لمكانته الإجتماعية واحترامها لشخصة فهي قد تضطر إلى طلب “الخـُـلع” منه على غير رضــَاها، ولكن الأمر كما أوضحتهُ لسيادتكم أكثر تعقيداً وغَـــرابة ً مما نتصَــور جميعـــًا.
كيف لمحكمتكم الموقرة التي آمـــل أن تمنحي الوقت الكافي لعرض مسوغات القضية بشكل أكثر تفصيلا كي تجد لهذه القضية مخرجــًا وأن تكون عاجِــزةً عن تلبية طلب مُوكلتي؟
سأخبركم بالتفاصيل التي ما خطرت على بالي ولا على بالكم لآن الأوراق لا تتضمن أي منها. ذلك أن ما صــَرَّحــَت به موكلتي في جلسة لي معها أصابني بالذهُــول.
-أكمل من فضلك…
نعم سيدي..نعم حضرات المستشارين..إن ما جَــاء في التحاليل المعملية أن السيدة عـَاقـــِر ومن المستحيل لها أن تحمل أو تـُنجِــب وهي بصحة جيدة وقادرة على ممارسة العلاقة الزوجية بشكل كامل وأن زوجها الثري مثلها مكتمل الرجولة وأن التحاليل في صالحه وقد طلبت منه السيدة مرات عديدة أن يبحث عن زوجة أخرى تمنحه الذرية التي يتمناها كل زوج إلا أن حُـبه لها كان يمنعه أن يلبي لها ما طلبت.
سيدي .. ما صــَرَّحت به السيدة لي في جلسة خاصة هو أن عجزها عن الحمل هو بسبب مــَسٌ جِــنِّي أصابها في الليلة الأولى لزواجها وما أخذت الأمر على محمل الجــَد وبقيت تتعالج بالطرق البدائية وتتردد على المشايخ وأصحاب الطــُرق الذين لهم وسائلهم في تخليص الأجساد المصابة بالمَـس دون علم أحَــد،وكتمت سِــرها في قلبها أربعة عشر عاما إلا أن الأمر الآن أصبح أكثر إعجازاً حين لم تستطع التخلص مما أصابها وأن الجِــنّي الذي مسها قد أنذرها بأن تَهــِبَ له نفسها أو أن يقضي على زوجها بأن يمسه بواحِــدةٍ قاتلةٍ.
أما التحليلات المختبرية فقد كان هذا الجِــنّي يُـبدل العَـيِّنـَات بأ ُخرى يضمن أن تكون النتائج منها عكسية وفي مرات عديدة وكثيرة منذ زواجها كان يقوم بما هو أغرب من ذلك بأن يجعل زوج السيدة”مديحة” يُعاشر إمرأة جِـنيـَّة على هيئتها ورائحتها وطريقة إستجابتها لغريزته فيـُفرغ بعضه في وعائـِها دون شــَكٍ منه أنها ليست زوجته..هذا ما أخبرها به الجني للسيدة”مديحة” بعد أن قــَرر تنفيذ وعــده، وهذا ما يُؤكد عذريتها حتى الآن مما أوحى للجميع بأنها إمـــرأةٌ عاقـــرٌ .!
ولعل الأكثر غَـرابة وأبعــَد عن التصور أن هذا الجِــنّي قد أبلغَ السيدة”مديحة” بأن هذه الجِنِّية قد أنجبت من زوجها عدداً من الأبناء والبنات وكلهم في رعاية أ ُمِهم في عالم لا يقدرون على مغادرته لأنهم محاطون بسور من نار سيحولهم إلى رماد بمجرد الإقتراب منه ذلك أن تركيبة أجسادهم خليط من الجِــنّ ومن الإنـس .
سيدي…أما قلت لكم أن قوانين محكمتكم الموقرة ستقف عاجزة أمام التفاصيل الدقيقة في أوراق القضية؟!
السيدة “مديحة” تُـقدر وتُـشفق على زوجها من كل ما سمعه الآن في هذه القاعة،ولأول مرة ،ولكن ليس من الأمر بـــُدٌ.
لذلك سيدي وفي حضرة زوج السيدة فإنني أ ُطالبكم بتحقيق طلب موكلتي بالحصول على الطلاق البائن الذي لا رجعة فيه أو الخـُـلع منه فإن هذا الحكم سيبقي على المودة والاحترام بينها وبين وزجها الذي أخلصت له سنوات الزواج وما سمحت للجِـنّي الذي مسها بأن يصـُب فيها شــَهواته مما أرهقها وأصابها بما يشبه الصدمة والعُـقدة النفسية وخوفــًا على حياة زوجها وبعد أن رأت التصميم من ذاك الجِـنّي على أن يقوم بكل ما يمكنه للحصول عليها..كــاملة ً.
***
طرقات على الباب جعلت الأستاذ “محسن” يقفز من فوق الأريكة التي عليها منذ ساعات تكَــوم ،وكأن جِــنّي مَسَــه.. نحو باب البيت توجه.
ماذا بك يا “مُحسن”.. زوجته زمجَــرت وهي تدلِـفُ بصعوبةٍ من الباب لفرط سُـمنتها وما تحمله من أغراض ،بينما هو صــامتٌ لا يصدق شيئا مما كان.
هــَل كـــُنتُ أحلم؟
ومنه لفتة إلى جهاز التلفاز أفلتت.
الشاشة فضية والمذيع يلقي التحية..أيها السادة المشاهدون : جاءنا هذا”الخـَـبرٌ العاجــِلٌ ” وتلونت الشاشة باللون الأحمر بينما “مُحسن” فَــاغـــِرٌ فــَاهــَهُ يُـحدق في الشاشة التي تغير لونها بمُجرد أن نطق المذيع بكلمة خبرٌعاجلٌ.!!
إنه في اليوم السادس عشر من يناير من العام 1971 قد اجتمعت هيئة المحكمة الشرعية بكامل القضاة والمستشارين للبت في أغرب قضية طلاق في القرن العشرين بعد الإستماع إلى مرافعة المحامي الشهير السيد “محسن….” ورأي الجميع ضرورة إفساح المزيد من الوقت قبل النطق بالحكم و إبقاء الوضع على ما هو عليه وبضرورة استدعاء عدد من علماء الدين وأصحاب الطرق الصوفية وعلماء النفس والميتافيزيقيين ومن تستدعي القضية دعوتهم للنظر فيها لأسباب إنسانية لما قد يترتب على النُطق بالحُكم من أمور لا يمكن السيطرة عليها دون المزيد من الإيضاحات.!؟
أخَــذ مكانه مرة أخرى على الأريكة بينما زوجته تــَزبد وتــَرغي دون أن يصلــَهُ من كلامهــَـــا شيءٌ.
“تمـت”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى